إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2009/07/16

اسطورة التغيير الفوقي - القسم السابع والثلاثون

وصل التغيير الى قاع المجتمع العراقي حتى ان عبد الكريم قاسم اختار وبأصرار دال على استهانة كاملة بالفروقات الدينية والمذهبية والعنصرية في المناصب العلمية الرفيعة اكاديميا عبقريا ينتمي الى طائفة الصابئة (د. عبد الجبار عبد الله) كرئيس لجامعة بغداد في نادرة حقيقية مازال العالم العربي محروما منها لحد الان،ولكن في همجية لاحدود لها قام البعثيون الانقلابيون بطرده ثم اعتقاله وتعذيبه!، ورغم ان التغيير لم يكن بمستوى العدالة المطلقة من قبيل وصول نسبة التوظيف وخاصة في القوات المسلحة والحكومة الى نسبة الطوائف في التكوين العراقي،الا انه اسس لعقيدة سياسية جديدة تدعو الى المساواة والعدالة بين الجميع في بوتقة الوطنية الخالصة،وقد وصل قمة تطبيق هذا المنهاج الوطني السليم من خلال ازالة الاكواخ وتجمعات المستوطنين الفقراء في محيط العاصمة بغداد والذي يقدر عددهم آنذاك بمئات الالاف وغالبيتهم الساحقة من الشيعة وبناء مدينة حديثة وعصرية تستوعبهم وتحقق كل رغباتهم المكبوتة بحيث اصبح سكان ذلك الحي والذي سمي بمدينة الثورة(حاليا مدينة الصدر)اكبر احياء العاصمة بل اصبح يشكل نسبة تقارب 40% من تعداد سكانها!وهي تقع في الجانب الشرقي للعاصمة بينما بنى حي آخر كبير في الجانب الغربي على نفس المنوال مع تمليكهم الارض والبناء مجانا! بينما الان يعيش في العالم العربي على سبيل المثال ملايين الفقراء الذين لايجدون مأوى للسكن وسط تفرج حكوماتهم المنشغلة بتثبيت الحكم وبناء اجهزته القمعية! وهي ظاهرة تستحق المتابعة في انعدام رؤية زعيم من دول العالم الثالث يتابع حياة الفقراء بشكل مكثف او حتى الظواهر السلبية البسيطة في المجتمع من قبيل انعدام الخدمات والنظافة وغيرها خلال النصف قرن الماضية!.
ومع تأسيس الاحياء الشعبية والمهنية المختلطة،ازدهر التزاوج بين المكونات المختلفة واصبح شائعا جدا بينما كان في السابق على نطاق ضيق،واكثر الاسباب التي تجعله منتشرا هو شيوع الافكار العلمانية وسياسة الدولة في التسامح والمساواة بين الجميع مما جعل التعايش الذي كان هشا وغير دقيقا في الماضي،اصبح يمثل قيما اجتماعية جديدة يصعب على من يحاول ارجاع عقارب الساعة الى الوراء القضاء عليها ،ولذلك فأنه رغم حكم الطائفيون العنصريون للعراق بعد تلك المرحلة القصيرة ورغم اشاعتهم لكل مظاهر التفرقة بين المواطنين،فأن التعايش والتزاوج بقي منتشرا بين جميع المكونات ماعدا المناطق التي يقيم فيها مكون واحد مطلق وبدون تواجد للمكونات الاخرى،وهذا التعايش السلمي والناتج من العلاقات الاجتماعية الجديدة في المجتمع العراقي،قد جعل النظرة الى الحكومات العراقية المستبدة موحدة من خلال معارضتها او النظر اليها كجسم غريب في البلد لايعنيهم في شيء مادامت خاضعة لاجندة تتعارض والمصلحة العراقية العليا.
حقق الانقلاب(1958) الكثير من الاصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لايمكن نكرانها،وبرغم الاخطاء التي حدثت في مسيرتها الا انها ليست بالشكل الذي يجعلها مكروهة من قبل الشعب او ما صوره الاعلام المعادي،وكانت مظاهر تواجد الاحزاب وعملها بحرية مع الصحافة وانتشار التعليم المجاني،قد اسس لمرحلة انتجت جيلا كبيرا من المتعلمين والمثقفين وعلى رأسهم مفكرين كانوا مع الاسف الشديد هدفا للحكام المستبدين الذين لايوجد لديهم وازع ديني واخلاقي ووطني في الحرص على تلك الطاقات الهائلة التي تبني الامم وتجعلها في الصدارة .
المعارضة الدينية لحكم قاسم كانت بالاساس ناتجة من انتشار الافكار الالحادية والعلمانية في المجتمع وهي ظاهرة بارزة آنذاك في العالم العربي وليس العراق وحيدا فيها،واعتبروه مسؤولا عن التساهل مع تلك الظواهر وهي في الحقيقة ليس تغافلا وتسامحا منه بل يعود الى ضعف التأثير الديني الذي اخذ يضعف في المجتمع بسبب ابتعاد رجال الدين عن السياسة والتوجيه،مما سبب ضعف نفوذهم الديني مع انتشار مظاهر التحضر الناتجة من التواجد الغربي في العالم العربي،وهي مظاهر ارتكزت على السلبيات دون الايجابيات وبشكل جاء مشوها مما سبب صدمة كبيرة للمتزمتين دينيا والذين حاربتهم الانظمة بمختلف اتجاهاتها،حتى حصول نكبة 1967 والتي هي هزيمة لكل الانظمة العربية بما فيها الخطوط الفكرية السائرة عليها،وبما ان الخط السياسي الاسلامي كان بعيدا عن ذلك،فقد انتعش من جديد في ردة فعل قاسية على تلك الهزيمة،واستمر في ذلك المستوى من ردة الفعل حتى انتصار الثورة الاسلامية في ايران عام 1979 وعندها ظهرت الصحوة الاسلامية الجديدة كظاهرة عامة في العالم الاسلامي بمختلف دوله وشعوبها.
نكبة الاربعون عاما:
بدأت النكبة العراقية في يوم 9\شباط (فبراير)\1963وهو تاريخ مقتل الزعيم عبد الكريم قاسم بعد يوم من انقلاب 8 شباط 1963 على يد زمرة حزب البعث الفاشي والعسكريين القوميين الطائفيين،وانتهت في 9\نيسان(ابريل)2003 وجاء مقتله بعد ان نكلوا بوعدهم اليه في الحفاظ على حياته فأضطر الى الاستسلام،وهذه صفة مذمومة ودموية اصبحت شائعة لديهم خلال الاربعون عاما اللاحقة!.
استعجل الانقلابيون تحركهم وبدعم خارجي لاحدود له ضد قاسم مستغلين تسامحه مع معارضيه!،خاصة بعد ان شاهدوا ان الاوضاع بدأت في التغير في العراق وخاصة في حصول الاغلبية المبعدة على معظم حقوقهم،وخوفهم من هدف قاسم التالي في البدء بأجراء انتخابات عامة نتائجها معروفة لديهم في حصول الاغلبية على حصتها كاملة مع توقع اكتساح الحزب الشيوعي لمعظم الاصوات لكونه القوة السياسية الاولى في البلاد،بينما كان التيار القومي بما فيه حزب البعث يعيش في مناطق محدودة وفي مجال طائفي واحد مع قلة مؤيديه وانعدام وجود رموزه الفكرية،لكنه في المقابل كان يملك الكثير من العناصر العسكرية والتي هي من بقايا النظام الطائفي السابق،مع تأييد عربي ودولي واضحين،ومع الرغبة الشعبية في سحق المتمردين عند قيام الانقلاب في 8 شباط في فرصة نادرة،وقع قاسم في خطأ تقدير قوتهم ومحاولة ابعاد المؤيدين له من الطبقات الشعبية التي تحبه بشكل قلما يحدث لزعيم في العالم العربي عن الاشتراك في القتال ليحفظ للدولة حقها الوحيد في المقاومة،وهذا التأييد كان قادرا على سحق التمرد بسهولة لكن الخوف من خروج السيطرة عليهم وجعل المقاومة محصورة في القوات المسلحة،جعلت المتمردين في موقف اقوى حتى انتصارهم عليه بوعدهم الغادر بالامان،ولكن رعبهم من شخصيته ومن مؤيديه جعلهم ينتقمون منه بعد القبض عليه في طريقة اعدام وحشية،تبعها انتقام رهيب من قبره وجثمانه في خوف نادر منه رغم مماته بسبب تحول قبره الى مزار من قبل بعض محبيه!....
وبعد نجاح الانقلابيون بدأت اقسى مرحلة دموية في تاريخ العراق الحديث،فبدأت عمليات ابادة لاحدود لجنونها وبطريقة بدائية ووحشية انتهكت حتى الاعراض فيها،وكان اولى عمليات الابادة قد خصت اليساريون بمختلف اتجاهاتهم،ثم تبع ذلك الاكراد بعد ان غدروا بوعودهم لهم،ثم بقية التيارات الاخرى،وقد وصلت الجرائم حد الابادة الجماعية حتى استنكرت الدول المؤيدة للنظام الطائفي الجديد تلك الجرائم التي فاقت التصورات،وخلال فترة تسعة اشهر حتى انقلاب 18\11\1963 قدر عدد القتلى بحوالي 20 الف ضحية على اقل تقدير من 6 ملايين هو عدد السكان آنذاك،وقد لعب حزب البعث وجناحه المسلح المسمى بالحرس القومي دورا خطيرا بحيث جعله منبوذا منذ ذلك الحين،وحتى ان شريكه الطائفي عبد السلام عارف استطاع بسهولة ان يقضي عليهم بعد ان بدأت رحلة التصفيات الدموية فيما بينهم تأخذ منحى خطير في دوامة رهيبة . وصادف بعد انقلاب العراق بشهر ان قام انقلاب اخر بعثي في سوريا وبتأييد من عبد الناصر ايضا!،ولكن الخلاف بين الاطراف الثلاثة والتي تبين مدى ضئالة تفكيرهم الجمعي وحبهم الاعمى للسلطة وانعدام الوازع الاخلاقي والوطني في طريقة الحكم،كل ذلك اثر بشكل كبير في سلوكهم مما جعلهم يختلفون حتى في الاتحاد المزعوم فيما بينهم والذي كان شماعة الانتقام من انقلاب 1958!.
بعد انقلاب شباط 1963 الاسود،ارتد العراق الى الوراء نصف قرن تقريبا،وشاعت المظاهر الطائفية وبشكل علني في كل مكان واصبح الزعماء الجديد يمارسونه بصورة تثير الاشمئزاز تجاه من يفترض انهم مواطنوهم ومن نفس دينهم ولغتهم! حتى اشتهروا بسياسة فرق تسد مع ابناء وطنهم في محاولة ضرب الشيعة بالاكراد والتي تنبه القادة الدينيين لها فأصدروا فتاوى بتحريم القتال ،ثم جرت عمليات ابعاد من المناصب المهمة لكل من لا ينتسب الى طائفة العرب السنة بصورة عامة ، والتيار القومي بصورة خاصة الذي هو تيار هزيل بعمقه الفكري وعنصري بشكله وطائفي مقيت بسلوكه تحول بسرعة الى تلك الصفات في ظاهرة جديدة وهي ان التيارات المحددة بفئة معين من البشر يتحول بسرعة الى تيارات طائفية وعنصرية وعرقية تمارس بسهولة الدعارة الدموية فلذلك لايمكن بل ولاتقارن ابدا بالتيارات الاسلامية صاحبة التراث الفكري الضخم بما يمثله من عقيدة ومبدأ وسلوك وحياة وعالمية لاحدود لها،والتيارات اليسارية وخاصة الشيوعية بما تمثله من فكر وثقافة عالميان قويان بدرجة كبيرة ومستندة الى تراث اوروبي وعالمي ناشيء من مقاومة سلبيات الحضارة الانسانية رغم تحولها الى الاستبداد المقيت في النهاية،وكذلك لاتقارن بالليبرالية التي هي في جوهرها تقدس حياة الانسان وحريته وخاصة معتقداته الدينية والفكرية وتحارب كل مايقيد فكر الانسان او يحوله الى وحش آدمي للسلطة.
ان المتابع للتيارات القومية والتي حكمت بلاد كثيرة سواء في اوروبا او في العالم العربي،انها اوصلت شعوبها الى دمار مهلك واستهانة ليس بحقوق الشعوب الاخرى،بل حتى في حياة الانسان والحط من كرامته وحريته في البلاد التي تحكمها من خلال نماذج بشرية غاية في الانحطاط والتفاهة الثقافية والاخلاقية،وكل من يكابر بتلك الحقائق الماثلة للعيان،هو معاند لوقائع كاملة لاتحتاج الى تحريف،والى سيرة سلوك غير سوي لقطيع من البشر لا يمتلكون من الانسانية الا اسمها،ومن البهيمية الا طبائعها والنتائج المدمرة الناتجة من جراء ذلك التوحش.
رغم عدم شعبية رجالات انقلابات حقبة الاربعون عاما الا انهم بالقوة والحديد والنار استطاعوا ابادة كل من يقف ضدهم دون ان يراعوا كم ونوع المقاوم لهم!،ورغم امتلاكهم لقدرات الدولة وخاصة التضليل الاعلامي،الا ان الغالبية العظمى من الشعب بقوا على مسافة بعيدة عنهم حتى لا يتلوثوا بقذارتهم رغم نجاح حضورهم العربي والدولي الذي كسب هؤلاء المرتزقة والذين تحولوا الى مجرد عصابات مافية قاتلة لكل من يدفع الثمن ومهما كان ذلك الثمن قليلا!.وهذا يفسر لنا حجم الرفض الواسع لهم في داخل العراق وحجم التأييد الواسع لهم من جانب الانظمة والشعوب العربية الاخرى التي تجهل الحقائق او تتغاضى عنها لصالح ماهو اهم في رأيها من قبيل المحافظة على سيطرة العرب السنة على حكم العراق وابقاء العراق قاعدة لانطلاقتهم لتحرير فلسطين بزعمهم!.
امتاز الانقلابيون بضحالة تفكيرهم ومستواهم الفكري والتعليمي بشكل يفوق التصور،حتى اصبح سمة خاصة بأتباع حزب البعث وهو الذي استطاع السيطرة على الساحة السياسية بعد ان اباد حتى مجموعات القوميين الاخرى مثل الناصريين وغيرهم،فقد كانوا مثال للتندر على همجيتهم لدى الطبقات المثقفة الى ان انتهوا في نهاية مخزية معروفة ولكن متأخرة كثيرا في عام 2003.

ليست هناك تعليقات: