إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2009/07/16

اسطورة التغيير الفوقي - القسم السادس والثلاثون

وقد شاعت الكثير من الخرافات عن فترة حكم الجنرال قاسم في العراق بحيث مازال الكثير من العرب خاضعين الى دعايات اعدائه الكاذبة وخاصة الذين ناصبوه العداء في مصر ودول الخليج،فقد وجده عبد الناصر منافسا قويا له فلم يدخر وسعا في محاولات الاطاحة به والتسبب في وصول عصابات اجرامية الى حكم العراق تسببت في دماره ولفترة طويلة(1963-2003) فهو اي عبد الكريم قاسم بالاضافة الى نزاهته فقد كان شخصية قوية تمتلك من الثقافة العالية واخلاق الفروسية ما ينقص الاخرين وكان يميل وبشدة الى الوطنية العراقية وبصورة عقلانية بعيدة عن الشعارات البارقة والتهور اللذان كانا عبد الناصر وحزب البعث يحملهما،فقد كان الدعم العراقي في فترة حكمه لبقية البلاد العربية يجري على قدم وساق وبدون ادنى استغلال ذلك لبناء نفوذ شخصي رخيص يقوض تلك البلدان ويخطط لزعامة استبدادية كبرى! وهو درس كبير لمن يريد ان يساعد الاخرين بعيدا عن الاستغلال الغير اخلاقي والمصلحي النفعي ،فالدعم العراقي على سبيل المثال لثورة الجزائر كان الابرز وبدون ضجيج اعلامي بسبب ان نظام قاسم لم يكن نظاما حزبيا او شموليا يملك امبراطورية اعلامية (الاعلام كان غير خاضع للدولة) تسوقه الى الزعامة العربية بل جعل بناء الجمهورية الوليدة هدفه الرئيسي لانه يعرف حجم العراق وامكانياته وتنوعه الثقافي والبشري والتي يتجاهلها التيار القومي بغباء ظاهر للعيان لايحتاج الى ادلة موثقة ناتجة عن ضحالة في الفكر القومي وتعصبه الشوفيني!،بالاضافة الى دعمه الى الثورة الفلسطينية وثورة اليمن وظفار وغيرها من حركات التحرر العربي والعالمي مع دعم استقلال البلاد العربية الحديثة مثل المغرب الذي لم يتخلص من التواجد العسكري الفرنسي الا بالدعم العسكري من العراق من خلال تزويده بالاسلحة مجانا، ولذلك فأن العراق في ذلك العهد قد حاربته بالاضافة الى الدول الغربية الكبرى بسبب انهاء النظام الجديد على احد اهم دعائم نفوذها في الشرق الاوسط،وهو النظام الملكي وايضا على حلف بغداد الذي اعد لكي يقف بوجه التمدد الشيوعي والقومي،كذلك وجه ضربة مالية قوية لبريطانيا من خلال انسحاب العراق من منطقة الاسترليني،ثم حقق النصر الكبير في انتزاع 99.5%من ارض العراق الممنوحة للشركات الاجنبية الاحتكارية والتي كانت تمنح العراق نصيبا ضئيلا من عائدات النفط ثم في تلكؤها استثمارالمزيد في النفط وصناعته،وكان ذلك في اصدار القانون 80 الشهير عام 1961 والذي تلى تأسيس منظمة الاقطار المصدرة للنفط(اوبك)عام 1960 في بغداد بمبادرة رئيسية من العراق مع وزيري النفط الفنزويلي والسعودي(الوزير الطريقي)،ثم جاء عامل اقامة العلاقات مع المعسكر الشيوعي في وقت كان الغرب يحاول تطويق ذلك المعسكر من كل الجهات،فكانت تلك الضربات القوية هي سبب رئيسي في اشتراك العامل الخارجي في معاداة العراق واسقاط حكومة الجنرال قاسم فشركات النفط الكبرى ساهمت في المؤامرات والتي كانت سطوتها قوية جدا في ذلك الوقت بحيث تخضع الحكومات لها بعكس الحالة الان ومنذ تحجيمها بداية السبعينات،مع الحكومات الغربية وخاصة جهاز CIA الذي زود انقلابيو شباط 1963 بأسماء وعناوين مئات المعارضين وخاصة اصحاب الكفاءات العالية! والذين تمت ابادتهم بمجازر مروعة،حتى اشتهر عن ذلك الانقلاب انه جاء بقطار امريكي!،كذلك ساهمت ايران وتركيا في معاداة الحكومة العراقية بسبب العلاقات القوية مع الغرب،والعامل العربي كان المساهم الثاني الخارجي في اسقاط حكومة العراق الوطنية،بحيث اجتمعت بعض الحكومات اليسارية مع المحافظة في ظاهرة غريبة قلما تحصل في العالم العربي والتي تكررت مرة اخرى عندما شن صدام حربه المجنونة ضد ايران!،فكانت مصر الناصرية الاكثر تأثيرا في دعمها للمتمردين والانقلابيين بعد ان وجد عبد الناصر في قاسم معارضا ومنافسا قويا لزعامته خاصة بعد سقوط تجربة الوحدة في مستنقع الاستبداد،ثم السعودية بسبب الخوف من التأثير الثوري على حكمها المحافظ ثم ماتعتبره ميلا منه نحو المعسكر الشيوعي آنذاك وكأن المعسكر الرأسمالي ملتزم بالاسلام او بقضايا العرب!! ثم الكويت التي دعمت الانقلابيون لانه طالب بها قاسم مما جعل استقلالها غير كامل ولم توافق الامم المتحدة على قبولها كعضو الا بعد مقتله بثلاث اشهر في صفقة متبادلة بين امريكا والاتحاد السوفييتي كشرط في قبول منغوليا العضو الشيوعي ،ورغم ان المفاوضات بينها وبين قاسم كانت قد وصلت الى صيغة الحكم الذاتي الا انها انتهت بمقتله وبمشاركة من حزب البعث الذي قبل بالكويت كدولة في صفقة معروفة بينهما ثم نقض ذلك ايضا عام 1990! دون ان يأخذوا رأي الشعب او الفعاليات السياسية الهامة في الحالتين في لعبة عبثية دموية.
اما في الداخل العراقي فقد كان بالاضافة الى الضباط المتآمرين والاقطاعيين الذين فقدوا املاكهم الضخمة،هناك الاحزاب المتطرفة من كل الاتجاهات ورغم ان الحزب الشيوعي العراقي كان الاكثر شعبية وشهرة الا ان صراعه مع احزاب صغيرة جلبت لها شهرة لاتستحقها مثل حزب البعث الذي كان صغيرا جدا،والصراعات سببت مآسي كثيرة مما ولد احقاد بين فئات شعبية كثيرة لا يد للزعيم قاسم بها ولكنها اساءت لحكمه من خلال اتهامه بعدم السيطرة على الاحزاب التي منحها الحرية في العمل والتي اساءت استخدامها،مما ادى الى معارضة تلك الاحزاب له بسبب دعم الشيوعيين لقاسم،ثم هناك احزاب الاكراد التي بدأت تمردا قبليا مسلحا في الشمال ضده في نهاية عام 1961،وبالتالي فقد تأييد الكثيرين بسبب عدم نضج الجميع للمتغيرات التي حصلت في المجتمع ومما زاد في الطين بله هو انتشار الافكار الالحادية والعلمانية التي تحارب الدين الاسلامي علانية مما ادى الى معارضة رجال الدين لحكمه واعتباره مسؤولا عن شيوع ذلك الفساد الفكري والاخلاقي!وفي الحقيقة كانت تلك موجة علمانية تتخللها في بعض جوانبها تطرف في الالحاد ليس فقط في العراق وانما في العالم الاسلامي ككل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ولاسباب عدة ومن بينها شيوع الافكار الشيوعية والليبرالية ثم في ابتعاد الاسلاميين عن العمل السياسي او التدخل فيه وبخاصة من جانب العلماء،مما سبب فراغ هائل انتبه له بعض المفكرين الشباب بعد فوات الاوان فبدأوا العمل السياسي سواء في العراق من خلال الامام الشهيد محمد باقر الصدر وتأسيسه لحزب الدعوة الاسلامية او الامام موسى الصدر في لبنان والعلامة الشهيد المطهري في ايران وسيد قطب في مصر،ولكن مع الاسف الشديد سقط في تلك الصراعات عدد هائل من الابرياء وبطريقة دموية وهمجية لم تستثني حتى المفكرين الذين وصلوا بالفكر الاسلامي الى القمة! ومن المخازي ان تلك الصراعات الدموية لم تكن مع الاحزاب والحركات العلمانية او الالحادية وانما مع الحكومات المستبدة في ظاهرة تستدعي الانتباه!.
لقد وصل عدد المؤامرات ضد حكم عبد الكريم قاسم القصير حوالي 40 مؤامرة! كانت الاخيرة هي الناجحة وفي نفس الوقت كان يعلم بها وبمقدوره سحقها الان انه استهان بقوتها لمعرفته بمحدودية التأييد الشعبي لها ثم بقادتها الذين لم يلتزموا حتى بكلمتهم في الحفاظ على حياته بسبب خوفهم منه وهو الذي كان شعاره الشهير(عفا الله عما سلف) والذي اصبح مثال في التألم من وصول طاغية بحجم صدام الذي لم يدخر وسعا في ابادة معارضيه بينما يعفو قاسم عنهم بطريقة لا يتصف بها اطيب الحكام العرب وسهلت القضاء عليه بسهولة،ولذلك انتهى حكمه في انقلاب دموي اسود اشترك كل الحاقدين والمجرمين مع تحالف عربي ودولي تسبب في دمار للعراق لمدة اربعين عاما!!.
تقييم تلك المرحلة:
لتقييم تلك الفترة(1958-1963) ينبغي الاشارة الى ان تلك الفترة كانت تعتبر العصر الذهبي في انعدام التعصب القومي والديني والمذهبي في العراق،بسبب السياسة الصائبة التي اتبعها الزعيم قاسم والتي هي مثالا للوطنية الخالية من التعصب لأي ملة او حزب،فخلال فترة حكمه القصيرة جرى مساواة المواطنين بشكل لم يشهد له العراق مثيلا مما جعل الغالبية العظمى من البسطاء يحبونه بدرجة قلما تحصل الى زعيم عربي ولحد الان ورغم رحيله فأن شعبيته مازالت ظاهرة للعيان بشكل غريب،فقد تحررت الغالبية الشيعية من القيود المفروضة في التوظيف الحكومي وخاصة في القوات المسلحة مما سبب اثارة المتعصبين السنة لذلك حتى اتهموا قاسم بأنه شعوبي وهي تهمة السفهاء لا يلفظها الا الحمقى لان الشعوبية كانت حركة فكرية قديمة في العصر الاموي والعباسي ضد طغيان العرب في الدولة الاسلامية،مما جعل الشعوب الاخرى تقف ضدهم كرد فعل طبيعي من جانب المضطهدين،وهي تنقسم الى قسمين الاول تدعو الى المساواة مع العرب كتطبيق صحيح للاسلام،والاخر تطرف في عدائه للعرب فأخذ يعمل على الحط من قدرهم،وبذلك يكون من الخطأ الفاحش الصاق تلك التهمة فقط بالفرس والذين كانوا حينها يتبعون المذاهب السنية! لانهم جزء بسيط من الشعوب التي حكمها العرب،ثم الخطأ الاكبر الاخر هو الصاق تلك التهمة بالشيعة كون ان جزء كبير منهم يعيشون الان في ايران ،ولكن المتطرفين السنة في العراق وخارجه وبغباء فكري ظاهر وجدوا في تلك التهم الجاهزة وسيلة للحط من قدر ومكانة الشيعة بعد ان سمح الزعيم قاسم لهم ولغيرهم من الطوائف الاخرى بالعمل والعيش بكرامة كغيرهم مما جعل هؤلاء المتعصبون الحمقى يثورون في كل اتجاه وهم يشاهدون اخوة لهم في المواطنة يحصلون على نفس حقوقهم التي تدعوا اليها كل الاديان والمبادئ الحرة،في شعور همجي غريب بأن الامتيازات للاقلية قد فقدت وهو ناتج من انعدام شعور وطني وانساني متراكم لدى كل من يعتقد به،وهذا من اهم الاسباب التي جعلت الضباط وغالبيتهم طبعا من العرب السنة يعملون كل ما في وسعهم لارجاع العراق الى حضيرة الطائفية المقيتة وفق الصيغة المشؤومة التي عرفت بصيغة النقيب- كوكس الطائفية في بداية تأسيس الدولة، ولو بالغدر وقوة السلاح ومدعومين من المحيط العربي الذي يتفق معهم في اللغة والمذهب،ومع الاسف الشديد نجحوا في ذلك في الانقلاب الذي استمر 40 عاما جعل العراق دولة شاذة يسودها الاستبداد،تقتل ابنائها ببرود ومشاركة دولية وتنتج الدمار في كل مكان.
لقد كان التغيير جذريا وان لم يكن بصيغته المطلقة في انقلاب 1958 وهو من الحالات الشاذة في التغيير الفوقي ولكن مع الاسف الشديد لم يستمر طويلا،وهي فقرة هامة تستدعي التوقف عندها والتأمل والبحث للخروج بنتائج تفيد العمل المستقبلي خاصة من ناحية الطموح لتأسيس مشروع تغييري شامل ينقذ المجتمعات الراكدة والتي تعيش في سبات عميق وتحتاج الى هزة حضارية تقارب حصار الاسطول الامريكي للسواحل اليابانية في منتصف القرن التاسع عشر بغية فتح اسواقها بالقوة،مما جعل الفتح يتجاوز الاسواق ليشمل كل مناحي الحياة والتي خلق لليابان نهضته المعروفة.

ليست هناك تعليقات: