إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2009/07/16

اسطورة التغيير الفوقي - القسم الخامس والثلاثون

في تلك المرحلة والتي امتدت من عام 1946 ولغاية سقوط الحكم الملكي عام 1958،تميزت بأنفتاح كبير على جميع مكونات الشعب العراقي وان كان دون مستوى الطموح في انهاء مشكلة الطائفية والعنصرية فيه،فحصل تغيير كبير في المجتمع من خلال ازدياد عدد افراد الطبقات المثقفة بسبب ازدياد عدد المراكز التعليمية بجميع مستوياتها،مع الانفتاح على العالم الخارجي،وقد ادى ذلك الى ظهور طبقة سياسية تنتمي لجميع المكونات وان كانت الغلبة في المراكز العليا بقيت لطائفة السنة العرب،الا ان النسبة المطلقة لهم اخذت بالانخفاض تدريجيا وفي العديد من مؤسسات الدولة والمجتمع،بالرغم من بقاء الاجهزة العسكرية والامنية خاضعة بشكل كبير للعرب السنة وبدون ادنى منافسة من قبل الاخرين وهو سبب رئيسي في بقاء الانقلابات العسكرية بعيدة عن واقع الشعب وتأييده لها لانها تختلف عنه بصورة شبه كلية في التفكير والانتماء واسلوب العمل!،وفي المناصب السياسية قدر خلال تلك الفترة ان حوالي ثلث المناصب الوزارية منحت للشيعة وهي نسبة عالية في بلاد خضعت لحكم طائفي طويل،ثم حصل انقلاب كبير عندما تولى اول شيعي رئاسة الوزارة عام 1947 وهو السياسي صالح جبر وهو احد اربع رؤساء من الشيعة تولوا ذلك المنصب بين عامي 1947-1958 الا ان فتراتهم الزمنية كانت قصيرة جدا!،فالاول وهو صالح جبر اراد تغيير المعاهدة مع بريطانيا وتخفيف شروطها لصالح العراق،الا ان المعارضة الشعبية التي تثار احيانا بطريقة عفوية وغير مدروسة اسقطت المعاهدة التي كان من الاولى اعتمادها وتأييدها حتى يتسنى تغييرها ايضا ثم الغاءها وبهدوء بدلا من معارضتها بصورة عنيفة بحيث سقط بعض الشهداء من المتظاهرين مما ادى الى سقوط الوزارة بعد ثلاث اشهر فقط،ثم تولى العلامة السيد محمد الصدر(1883-1956)وهو احد ابرز قادة الثورة العراقية الكبرى عام 1920 والذي حكم فترة خمسة اشهر الغى خلالها معاهدة بورتسموث ومعاهدة 1930 وكانت له شعبية كبيرة لم تحميه من سقوط وزارته بفعل الضغط من بريطانيا وحلفاءها،وكان من السهل على السياسيين آنذاك الاستقالة بدلا من الاصرار الغير مجدي في المنصب ومواجهة المعارضة بأسلوب قمعي همجي متخلف كما يحدث الان في العالم العربي!،وقد كان من ثمار تلك المرحلة هي ظهور طبقات سياسية للطوائف المحرومة من المشاركة السياسية بعد ان كانت فترة ماقبل الحرب مقتصرة على فئات قليلة العدد وتنتمي في الغالب الى الاقلية الحاكمة،وكانت احزاب المعارضة هي الاكثر تحررا من تلك النزعة الطائفية والعنصرية وعلى رأسها الحزب الشيوعي الذي يركز على المشاكل الطبقية وصراعاتها مع الطبقات البرجوازية،ورغم انه استفاد من تلك المرحلة الا انه بقي ممنوعا من العمل بفعل تحالف النظام مع الغرب الذي يصارع الكتلة الشيوعية في كل بلاد العالم!،ولذلك وجه النظام اقصى ضربة الى الحزب عام 1949 عندما اعدم زعيمه فهد وثلاث من قادته الاخرين،والجميع ينتمون الى اربع طوائف مختلفة (مسيحي ويهودي وشيعي وسني!)ورغم ذلك احتفظ بشعبية كبيرة ناتجة من سوء الاوضاع الاقتصادية وتركز السلطة بأيدي قلة متنفذة تحكم الى حد ما بأسلوب ليبرالي منفتح!،الا انه لم يحاول مع بقية الاحزاب الاخرى العمل على قلب النظام لاسباب عديدة قد يكون من اهمها الدعم الخارجي له،وضعف الجرأة لدى قادته في التحرك واعتمادهم على التغيير السلمي مع بناء قاعدة فكرية شعبية لدعم تواجهاتها السياسية،ورغم ذلك لم تخلو الفترة من اضطربات سياسية محدودة مع فترات من التأزم السياسي خاصة بعد انضمام العراق الى حلف بغداد عام 1955 والمعادي للشيوعية،الا ان القمع الداخلي لم يكن ابدا بمستوى الفترة التي تلت عام 1958 في العراق او في العالم العربي الان بعد مرور نصف قرن،بل كانت للتجمعات السياسية وحرية الصحافة والعمل النقابي من ابرز مشاهد المسرح السياسي العراقي في تلك الفترة،وكانت للملك الشاب فيصل الثاني صلاحيات دستورية محدودة للغاية مع عدم تواجد اقاربه في المناصب الحكومية ماعدا خاله الامير عبد الاله،وبالتالي فأن التطور السياسي في العراق في تلك المرحلة برغم سلبياتها فأنها متطورة وقد انتجت جيلا مثقفا واعيا كثيف العدد بحيث يتفوق على الكثير من البلدان التي يزيد تعداد سكانها عن العراق،وكان النمو الاقتصادي يسير بشكل ثابت وكانت العائدات النفطية تزداد بصورة تدريجية رغم الفائض النفطي العالمي المستمر لغرض جعل الاسعار منخفضة لخلق نمو اقتصادي عال في دول الغرب،وتصرف في تنمية نموذجية الى حد كبير مع استخدام الخبرات الاجنبية،ولو اتيح للنظام الملكي الذي قلل من اخطائه في تلك المرحلة،الاستمرارية فأن الوضع العراقي بالتأكيد سوف يتفوق على معظم بلاد الشرق الاوسط التي مازالت لحد الان تعيش في ظلال الديكتاتورية والاستبداد،وهذا القول ايضا ينطبق على بلاد عربية اخرى كانت تعيش في ظلال الملكية الدستورية والتي فقدتها من جراء الانقلابات العسكرية التي انتهت الى وراثة سياسية وفساد وقمع لا حدود له جعل الحنين الى الانظمة الملكية شائعا لدى غالبية الناس!وهذا دليل قوي على ان التغيير الجذري اذا لم يصل الى قاع المجتمع سواء بصيغة سلمية تحتاج الى فترة زمنية اطول او بصيغة عنيفة تحتاج الى فترة زمنية اقصر مع تحولها الى مرحلة السلم الاهلي فأنه سوف يبقي الاوضاع متأزمة بشكل دائم.
انقلاب 1958:
في يوم 14تموز 1958 قام الجيش العراقي بقيادة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم وبمشاركة مئات الضباط والاف الجنود بأسقاط الحكم الملكي وبأسلوب عنيف لم يخلو من دموية قبيحة،وكان هذا الانقلاب الاقرب الى اسم الثورة منه الى الانقلاب في العالم العربي بسبب التأييد الشعبي الكاسح له وبمشاركة قطاعات شعبية للجنود في الانقلاب بالاضافة الى عملية التغيير الجذري التي احدثها في المجتمع العراقي وان انتهت بأنقلاب ديكتاتوري آخر اعاد البلاد الى الوراء،ورغم وجود الصراعات السياسية الداخلية والخارجية العنيفة في تلك الفترة الحرجة.
لم يكن بناء التنظيمات السرية للضباط وليد فترة قصيرة قبل ذلك الانقلاب،بل جاء ذلك من خلال فترة زمنية طويلة تعود الى مابعد انتهاء حرب فلسطين 1948 وما رافقها من انهيار في الجيوش العربية نتيجة لتخاذل الحكومات العربية،مما ادى الى نشوء حركات سرية لدى بعض الجيوش اطاحت بأنظمتها الملكية في وقت لاحق،ومن بينها العراق بالطبع،والذي تأثر كثيرا كغيره بالاحداث الجارية في الشرق الاوسط وخاصة اثناء الازمات المستمرة بدون انقطاع في تلك البقعة الهامة من العالم،وصفة التأثر هامة جدا هنا ولا يخلو مجتمع ما منها،فكيف في بلاد الشرق الاوسط المتقاربة في تكويناتها البشرية وبنيتها العقائدية والاجتماعية والتاريخية ولا يفصل بينها سوى خطوط واهية تسمى بالحدود المفروضة من خارج منظومتها والتي اصبحت مقدسة الان لدى قطاع عريض من شعوبها ناتج من اسباب شتى من بينها الخضوع للتضليل الاعلامي للنظم الحاكمة ونزوع الشعوب الى عصبيتها القبلية ونزعات الجاهلية المقيتة والتي تصورنا ان الاسلام ازالها خلال حقبه الزمنية الطويلة ولكن تبين لنا الان مقدار رسوخ تلك العادات المقيتة والتي اصبحت بأطر حضارية مزيفة.
كانت عملية ابادة الاسرة الحاكمة مرفوضة جملة وتفصيلا بسبب تسرع بعض الضباط في تصفيتها خوفا من اعادة الامور الى نصابها من خلال التدخل الخارجي كما حصل بعد انقلاب 1941،وقد ازدادت عمليات الانتقام الناتجة من ضغط كبير متراكم عبر فترات زمنية طويلة بحيث طغت على الشارع،وقد جرى خلالها قتل الملك والوصي ورئيس الوزراء نوري السعيد،بالاضافة الى محاكمة العديد من السياسيين واعدام البعض منهم مع مصادرة لاموال الطبقة الحاكمة واعوانها.
بدأت بعد ذلك هجرة واسعة نحو الخارج هربا من عمليات الانتقام والمحاكمة،وكان الطبقات العليا من المجتمع هي الاكثر تضررا من هذا الانقلاب وبالتالي اضطرت للهجرة الى خارج البلاد،الا ان ذلك لم يشمل ابناء الطبقات الفقيرة والمثقفة الا بعد بدء الصراعات السياسية الدموية بين كافة الكتل والجماعات المختلفة.
حاولت الدول الغربية الموالية للحكم الملكي اسقاط الانقلاب منذ الايام الاولى له والذي اعلن الجمهورية،الا ان نتيجة التدخل الغربي فشلت بسبب الدعم العربي والسوفييتي له في بداية الانقلاب مع فقدان العناصر الهامة الموالية في ارجاع الامور الى طبيعتها الاولى مع زخم شعبي موالي لها .
حقق ذلك الانقلاب الثوري الكثير من المنجزات خلال فترة حكمه القصيرة والتي استمرت اربعة اعوام ونصف،برغم حالة العداء الهائلة التي واجهته من قبل المحيط العربي والغربي!بالاضافة الى الفئات المتضررة منه في الداخل العراقي،وبالتالي خلق له شعبية كبيرة وسط الفئات المحرومة من المجتمع،وهو درس قاسي لكل الانظمة التي لا تراعي جميع طبقات الشعب وخاصة الفئات المحرومة التي تعيش في الهامش ولاتمنح فرص التكافئ العادل بينه وتبقي من حالة الارهاب الداخلي الذي لن يستمر الى الابد مهما طال الزمن،بل العكس كلما ازداد القمع كلما توسعت دائرة المعارضين له وبالتالي تصعب السيطرة وينشق المواليين الذين لايجمعهم مع الحكم سوى المصلحة الشخصية دون مصلحة الوطن التي تتطلب اقامة العدل والحرية والمساواة بين الجميع وبدون استثناء وينتهي الترابط المصلحي مع ابسط هزة معادية،الا ان ذلك الكلام وقراءة التاريخ ودروسه والعبر المستخلصة منه لا يشمل الفئات الحاكمة بل ايضا الذين يعيشون في قاع المجتمع التي تخلق لهم الظروف المثالية لكي يستولوا على الحكم وبالتالي يعودوا الى السيرة الاولية وبدون ادنى مراجعة سواء لواقعهم السابق المزري او لحالة المتغيرات التي حدثت في التاريخ وفق منهج ثابت ناتج من الطبيعة الانسانية التي ترفض الاستبداد والذل الناتج عنه وبمختلف الصيغ المبتكرة،وتتوق الى الحرية التي هي مطمح كل انسان واع وشريف.
وقع الانقلاب في مستنقع التصفيات الداخلية بين قادته الذين يتنافسون فيما بينهم لقيادة الدولة والمجتمع،وهي صفة ملازمة لكل الانقلابات والثورات حتى اشتهر بمثل غريب ولكنه واقعي وهو ان الثورات تأكل ابنائها!...وكان ابرز المنشقين على قيادة الجنرال قاسم،هو العقيد عبد السلام عارف الذي كان احد ابرز قادة الانقلاب ولكنه الابرز في تهوره وضحالة تفكيره وطائفيته المقيتة ثم دعوته الساذجة مع اخرين الى الانضمام الفوري الى الاتحاد مع مصر وسوريا وبدون دراسة وتقييم وضع العراق الذي يختلف في تركيبته البشرية والسياسية عن واقع بلدي الاتحاد مما يجعل التفكير في هكذا وحدة يحتاج الى زمن طويل وبخطوات هادئة ومدروسة ووفق آلية بعيدة عن الاستبداد ورموزه،والا فان الفشل هو مصير كل وحدة ارتجالية غير مخطط لها بعناية وهذا ماحصل بين مصر وسوريا،ولذلك كان من السهل الاطاحة بعارف ثم ببقية المغامرين الطامحين الى السلطة ولو بوسيلة العنف والغدر ومن ابرزهم حركة الشواف في شمال البلاد عام 1959،ثم بقية محاولات الضباط الاخرين السرية للاطاحة برئيس الوزراء الفريق عبد الكريم قاسم الذي تفوق عليهم بشعبيته الطاغية الناتجة من بساطته في العيش وبرتبته العسكرية العالية وثقافته الرفيعة بالاضافة الى نزاهته التي وصلت الى حدود تضرب الامثال بها وبوطنيته الغير مشكوك بها حتى بالنسبة لاعدائه والتي كانت بعيدة عن التحزب والطائفية المقيتة مع شعاره الخالد(عفا الله عما سلف)و(الرحمة فوق القانون) ،وهو نشأ من خلال اسرة ناتجة من التعايش السني والشيعي(والده سني ووالدته شيعية) الذي اخذ ينتشر في المجتمع بعد الحرب الثانية وكان من ابرز نتائج التحول العلماني في المجتمع بسبب شيوع الافكار السياسية الغير طائفية،وهذا النوع من التزاوج بين المكونات المختلفة قد شاع ووصل الى اعلى الدرجات في فترة حكمه القصيرة،وبرز مكانه التزاوج العائلي وفق التمييز الطبقي والثقافي الذي اصبح مختلفا نتيجة للمتغيرات الكبيرة التي حدثت في المجتمع آنذاك.

ليست هناك تعليقات: