إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2012/11/14

المغترب المخالف

المغترب المخالف:
استطاعت الامم المتقدمة ان تحرز الصدارة من خلال قبولها لمختلف التيارات الفكرية ضمن حدودها وبذلك نزعت عنها صفة العنف والتطرف والسرية من جهة ثم الاستفادة المادية والمعنوية من البنية المنهجية الجديدة التي تدعو اليها،وضربت بذلك مثلا طيبا في قبول الاخر ودمج مختلف الثقافات والقيم ضمن مجتمع واحد يخضع لقانون ثابت.
اصبحت تلك البلاد بعد ذلك الحلم الكبير والامل المنشود لاغلب المهاجرين واللاجئين اليها للخلاص من المعاناة التي يحيونها لمختلف الاسباب ومن بينهم من يحمل عقائد وافكار تعارض وبصورة جذرية اساسا بيئة الاغتراب بطريقة تثير الانتباه والحيرة وتدعو الى التساؤل وفق منهج النقد الذاتي!.
بعد شيوع حالة الاضطهاد لمختلف التيارات والمعتقدات في العالم العربي التي تخالف السلطة او المجتمع،نزح الى دول الغرب في البداية عدد كبير من الشيوعيون العرب اذا استثنينا حالة الليبراليين القريبين من الناحية الايديولوجيات السائدة في الغرب ثم تبعهم القوميون واخيرا الاسلاميون بمختلف اتجاهاتهم المتعارضة احيانا!.
لم يختار المهاجرون واللاجئون في الغالب،الدول التي ينتمون اليها فكريا وروحيا او يؤيدون خطها السياسي بطريقة او بأخرى وقد يكون العامل الاقتصادي هو الاكثر تأثيرا في الاختيار،ولكن الاغرب من ذلك هو استمرارية حالة التأييد بوتيرة اعلى من السابق بالرغم من ان الابتعاد عن تلك البلاد اخذ احيانا شكل الطرد او الابعاد  القسري وهو امر مثير من حالة شاملة تستحق المراجعة بغية الاستدراك والتصحيح!.
الاغلبية الساحقة منهم هاجرت الى دول بعيدة في الفكر والسلوك عن مكونات المحمول الذاتي،فالشيوعيون العرب على سبيل المثال لم يختاروا الهجرة بعد الاضطهاد الذي واجهوه في بلادهم او بعد انهيار الكتلة الشيوعية الى دول شيوعية صارمة في تطبيقها للفكر الماركسي في الغالب،من قبيل كوريا الشمالية وكوبا وفيتنام او دول الكتلة السوفيتية السابقة.
صحيح ان بعض هؤلاء ونتيجة لتأثيرات البيئة والزمن وسقوط المنظومة الشيوعية قد تحول بطريقة جذرية او نسبية نحو فكر ومنهج آخر،وهي حالة طبيعية تستدعيها حالة الدراسة والبحث والشك والتنقيب بغية الوصول الى اسلم وادق المناهج الفكرية التي تلائم الحياة الانسانية المعاصرة،ولكن القسم الاخر بقي صامدا بوجه التغييرات الفكرية والسياسية في العالم وقد يكون بعضهم على اقتناع بصواب النظرية وفشل التطبيقات الناتجة منها او يكون العناد الشخصي والتعصب الاعمى جزءا كبيرا من تقرير المصير وتحديد الهدف!...وليس من غريب ان نرى البعض يتجاهل الخروقات المروعة لحقوق الانسان التي وصلت الى درجة الابادة الجماعية لشعوب بأكملها وايضا الفشل الاقتصادي الذي رافق مختلف التجارب السابقة وضمن بيئات مختلفة بينما ينعم بحالة حماية حقوق الانسان والرفاه الاجتماعي من النظام الاخر!.
 والوضع مشابهة للقوميون العرب الذين رفضوا العيش ضمن دول عربية تدعي انها نظم قومية تقدمية وفضلوا الهجرة الى بلاد الاستعمار حسب وصف الادبيات الكلاسيكية لهم! ورغم حالة الفشل الذريع الذي صادف تجاربهم السياسية الا ان المراجعة في المهجر لم تكن كافية او ذات اهمية بالغة لاستعادة المبادرة على الاقل،والحال اكثر استغرابا مع الاسلاميون المتطرفون اذا استثنينا جانب المعتدلون ودعاة التعايش السلمي!..فهؤلاء لم يتركوا خيار الهجرة الى البلاد التي يؤيدونها او يوالون خطها الفكري فحسب بل ان بعضهم تركها هاربا من المعاناة الجديدة التي اضافت ابعادا جديدة من النفي والاضطهاد القسري الشامل والمتجدد!.
هذا الامر لا يقتصر على اتباع مذهب دون اخر،بل حتى الطائفيون المتعصبون واصحاب الثقافات المنغلقة لم يجدوا في البلاد التي يميلون اليها من ناحية الفكر والعقيدة،اي رغبة في العيش هناك حتى في حالة اذا سمحت الظروف لهم،وان كانت عوامل النفي والطرد بقيت موجودة عند تلك البلاد!.
هذا يعني ان تجاهل حالة الاختلاف مع طبيعة المجتمعات الغربية هو امر شائع لدى الاغلبية ممن يحملون افكارا ومبادئ وقيم قد تتناقض الى حد الرغبة في تدمير الاخر والقضاء عليه بشتى الطرق!.
قبول الاخر والتعايش معه بعد ان اثبتت التجارب نجاحه كان من المفروض ان يكون رأس حربة التغيير في المعتقدات الفكرية والسياسية،ولو تمت عملية الاضافة بالشكل الطبيعي لكانت عملية اعادة البناء الفكري وتقويمه قد اثمرت بشكل رائع واعطت لنا اضافات فكرية جديدة سوف تساعد البلاد الطاردة لابنائها في اعادة بناء ذاتها وفق احدث المتغيرات الدولية.
الاسباب الذاتية لكل فرد هي طاغية في منعه او منحه حالة التغيير واعادة التقييم، والتكوين الثقافي ومن ضمنه الخلفية الدينية والمذهبية والبيئة الاجتماعية عوامل رئيسية في التحكم بالمصير الشخصي،والقدرة على التحكم لن يكون بمقدور اي شخص ان يحصل عليه بسهولة ولكن في نفس الوقت ليس صعبا خاصة في ظل توفر الارادة الحرة والشجاعة الادبية.
المراجعة الذاتية واعادة تقييم التجارب السابقة سواء الفردية او الجماعية لم تكن بالمستوى المطلوب في حالة المغتربون لاسباب عقائدية،ولو كانت قد جرت بالشكل الطبيعي لتغيرت مساحات التأييد والرفض السائدتين وحلت محلهما ثقافة النقد والتحليل المنهجي وفق مستحدثات المكان والزمان...!