إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2010/12/29

الشرارة

الشرارة:
كسرت الاحتجاجات الشعبية في تونس التي وقعت في كانون اول 2010، لاول مرة ومنذ زمن طويل،حاجز الخوف والرعب ليس فقط في هذا البلد بل وفي بقية انحاء العالم العربي الذي اصبح جسده كجثة هامدة ليس فيها اي اثر للروح الانسانية الحرة نتيجة لانعدام القدرة على مواجهة الاستبداد والفساد المتحكمين في اوصاله مهما وصلت درجة الاذلال والاستعباد!.
الشرارة كانت مركبة ولم تكن وحدة بسيطة...تكبر وتتعاظم عادة مع مرور الاحداث فالاولى عندما انطلقت كانت انتحار شاب احتجاجا على البطالة، تبعتها شرارة اكبر منها في تحرك المدينة التي ينتسب اليها،فالشرارة الثالثة هي تحرك المدن الاخرى كتعبير عن رفض مشترك وتفريغ لشحنات الكبت والحرمان والضغط المستمرة في شرارة ثورية تكون عادة بداية انطلاقها هي مطالب شرعية بسيطة لتتحول بسرعة في ظل عدم الاستجابة واستخدام للقوة المفرطة الى نهايتها الطبيعية وهي اما الى ثورة عارمة تزيح كابوس الديكتاتورية الفاسدة المتحكمة بالبلد منذ استقلاله الشكلي عام 1956 واما الى النتيجة الثانية الاكثر شيوعا على مدار التاريخ وهي ثورة غضب مؤقتة لا يستغلها الاحرار والمستضعفين في تطويرها كي تصل الى النهاية المرجوة منها بل يتركونها بدون رعاية وعناية مما يعني اتاحة الفرصة للنظام للقضاء عليها وتطوير قدراته مجددا لاستئصال اي نشاط مستقبلي يكون بداية لشرارة جديدة مما يعني تأخر ظهور اي تحرك جديد لفترة طويلة.
شرارة الاحتجاجات التونسية هي ليست الاولى ولكنها متأخرة في الاستجابة للنداء الابدي لشاعرها الكبير ابو القاسم الشابي في قصيدته الرائعة:ارادة الحياة!...تلك هي دروس التاريخ التي تتكرر بأستمرار ولا يتم الانتفاع منها دائما بالصورة المثلى المرجوة!.
الشرارة:صدمة تاريخية
عند وقوع الحوادث الطبيعية،دائما تكون البداية هي شرارة صغيرة تتوسع لتكتسح كل شيء امامها...هذه هي البداية البسيطة،ومنها تمت الاستعارة الرمزية في استخدام هذا المفهوم في العلوم الانسانية والتي من ضمنها علمي السياسة والتاريخ!...والغريب ان الاستعارة هي مطابقة للحالة الاصلية الموجودة ضمن الحوادث الطبيعية،وهي اقرب لمفهوم الصدمة التاريخية التي تكسر حواجز السكون والركود لتفعل الحياة بشكل حركة مفاجئة ودؤوبة ليس للانسان احيانا سيطرة عليها بل هي فوق الارادة او خارج دائرة الوعي وان كانت نتيجة طبيعية لفقدان القدرة على التحمل!.
لكل ثورة بداية انطلاق يمكن اطلاق اسم الشرارة عليها،وقد خصها الثوريون بحيز كبير ضمن تراثهم ونقاشات فلسفتهم الجدلية،ولذلك استخدمها لينين عند اصدار صحيفته الشهيرة في المنفى والمسماة(ايسكرا) اي الشرارة لكي تكون بداية عمل بغية حرق المراحل التاريخية لتطبيق المفاهيم الثورية،والشرارة يمكن ان تختزل في داخلها كل المبادئ والقيم والنظريات الجديدة التي ظهرت لكي تطبق والحاملة لها هنا هي فعل الشرارة ذاته والذي هو الوسيلة الطبيعية لواقع غير طبيعي بينما يصح قول العكس لو كان الواقع طبيعيا! وهي بذلك تكون السلاح الامثل في مقاومة القيم والنظريات السائدة المناقضة لها نصا وروحا.
وهي كانت رؤية جيفارا الخاصة لاجل ان تنطلق الشرارة في اي مكان كي تستمر المواجهة بين الثورة العالمية واعدائها او حتى لا يستقر العالم على اجساد الضعفاء كما يصفه! ومن هنا كانت حركته التي انطلقت في مكان بعيد(بوليفيا) عن موطنه الاصلي(الارجنتين) او المكان الذي استوزر فيه بعد مشاركته في ثورتها(كوبا)،ولاجلها ترك كل شيء الا ان التوقيت والمكان لم يكن صائبا كما في المرة السابقة ففقد حياته دون ان تمحو ذكره او فكره!.
غالبا ما تكون الشرارة هي نقطة انطلاق صغيرة تتوسع بأستمرار وتحتاج الى ارادة ووعي وكوادر قيادية تتحكم بها وتمنع خروجها من السيطرة عن المسار كي تفرض وجودها على الارض حتى ينتهي الصراع مع الاخر بأنتصارها او بسحقها مؤقتا وان تبقى تحت الرماد!...والشرارة تختزل في داخلها مكون فكري ورد فعل عملي على الواقع تبلورت خلال فترات زمنية طويلة(عقود او قرون!) من البناء التنظيري والجهد العملي بغية تطبيقها والا بقيت ضمن محتويات المتاحف التاريخية!...وهذا يعني ان الشرارة لن تظهر من العدم كما يتوقع منها بل هي نهاية طريق طويل من التمهيد المستمر التي يقوم بها المصلحون والاحرار والمفكرون لتحرير شعوبهم والانسانية من كافة القيود والاغلال ،الروحية والجسدية!.
ومن هنا تكمن اهمية الشرارة التي يحسب لها الف حساب من قبل الانظمة الحاكمة ايا كان نوعها،ومن هنا نرى الجهود الحميمة لبناء الاجهزة القمعية التي تبقى العين الساهرة لمراقبة اي نقطة انطلاق واخمادها بسرعة وقسوة حتى لا يمكن ان تتكرر مرة اخرى...ومن المؤسف ان التكرار لن يكون سريعا بل يحتاج الى ظهور جيل جديد سواء من الكوادر القيادية او القاعدة الشعبية التي لم تختبر مسبقا قسوة النظام في الحالة السابقة!.
فائدة الانظمة بعد نجاحها في اختبار الصدمة التاريخية:الشرارة،هو اكبر من فائدة قوى المعارضة بسبب امتلاكها امكانيات القوة والسلطة والقدرة على استخلاص الدروس والعبر التي تكون غالبا في ابتكار انواع جديدة من طرق الارهاب والقمع وليس تحسين الظروف المعيشة ومنح الحريات للشعب والتي هي مانع طبيعي لحدوث فعل الشرارة المفاجئ!.
بما ان الثورة تختلف عن الانقلاب في اغلب الموارد الا ان الغريب هو ان الاختلاف الاول يكمن في ان الثورة لها شرارة انطلاق بينما لا يكون ذلك للانقلاب! الذي هو رد فعل لمجموعة معينة ترغب في الاستيلاء على السلطة لمختلف الذرائع والاهداف! وبالرغم من ان ادعاء مدبري الانقلابات المختلفة في العالم دائما بأنها ثورات كي تمحو عنها صفة الانقلابية الكريهة الا ان زيف هذا الادعاء يمكن رؤيته بوضوح حتى لو كانت الآلة الاعلامية الجهنمية قادرة على فعل عملها القذر المتمثل بغسل العقول وافساد القلوب لدى شرائح واسعة من البسطاء والمغفلين والمنحرفين وتكوين اجيال متعاقبة تبنى حياتها على الانحرافات والاكاذيب والاباطيل!.
امثلة مختارة:
لو نظرنا الى حالة الانقلابات في العالم العربي مثلا لوجدنا ان انقلاب 1952 في مصر والانقلابات العسكرية والحزبية في العراق وسوريا وانقلابات ليبيا والسودان واليمن وغيرها،هي جميعها بدون شرارة تمنح لها الشرعية من القاعدة الشعبية التي تقوم بفعل التغيير مما يعني ان تلك الانقلابات هي بعيدة شكلا وروحا عن الثورات الحقيقية التي اكتسحت التاريخ بجهودها الجبارة لتحرير الانسان،ومن هنا تكون النتيجة الطبيعية لامثال تلك الانقلابات هي التفرد في السلطة وسلب الحياة والكرامة والحرية من فئة حاكمة لفئة اخرى والمؤسف غالبا ان الفئة الثانية تكون اشد اجراما وترويعا وقسوة ويقظة من فقدان السلطة مجددا من الفئة الاولى بسبب انها اكتوت بنار المحكومية المذلة مما يعني ان ردة الفعل ورغبتها في الحفاظ على سلطتها سوف تكون في اعلى سلم اولوياتها المستقبلية!.
بينما الثورات التي نجحت في نهاية المطاف او فشلت ايضا فأنها جميعا تشترك في صفة امتلاكها لشرارة الانطلاق التي تكون في اغلب الاحيان عفوية وبعيدة عن التخطيط الطويل الذي تقوم به قوى المعارضة والرفض الشعبي لقوى الهيمنة والتسلط...فالثورة الامريكية كانت الشرارة لها القاء صناديق الشاي من السفن الانكليزية في البحر كرد فعل على فرض المزيد من الضرائب على المستعمرات وتوسعت بسرعة لتشعل حرب الاستقلال.
والثورة الفرنسية كانت شرارتها الهجوم على سجن الباستيل،والثورة الروسية كان تمرد الجنود ضد النظام القيصري هو بداية الشرارة بينما كانت شرارة الثورة الايرانية هو المقال المهين الذي كتبه الشاه ضد الامام الخميني والتيار الديني مما ادى الى اندلاع ثورة عارمة اقتلعت حكمه التسلطي من جذوره وانشأت نظاما جديدا.
اما الثورات التي لم تنجح بالرغم من اتساع دائرة سيطرتها،فأنها كثيرة ولها ايضا شرارة انطلاق لا تختلف في شكلها ومضمونها عن الثورات الاخرى التي نجحت ولكن حظها العاثر سواء بضعف ادارة او انحدار وعي ابنائها او قوة اعدائها يؤدي الى اخمادها،فالثورات الفاشلة ضد الاستعمار في العالم العربي وفي اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية هي نماذج مثالية لتلك الحالة.
اذا لم تستغل شرارة الانطلاق الثوري بصورة مثالية من قبل قوى المعارضة وبخاصة الكوادر القيادية فيها فهو يعني تحملها جزءا كبيرا من حالة الفشل التي وصلت اليها... فقد كان اغتيال السادات عام 1981 فرصة مثالية للانقضاض على النظام العسكري الديكتاتوري في مصر واقتلاعه من جذوره،بينما كانت الثورة الشعبية التي اجتاحت العراق عقب حرب الخليج الثانية عام 1991 فرصة مثالية نادرة لا تتكرر بأستمرار والتي انطلقت شرارتها في البصرة والتي كسرت الحاجز الرهيب من الخوف والرعب بواسطة مجموعات الجنود المنسحبة، وبالرغم من سيطرتها على معظم انحاء البلاد الا ان التردد وعدم مشاركة قيادات المعارضة مع ظهور التحالف الاقليمي والدولي مع النظام قد حال دون نجاحها مما ادى الى فقدان البلاد لعدد كبير من الضحايا وفترة زمنية طويلة كان من الممكن استثمارها في اعادة البناء ورد الاعتبار،وايضا في حالة ثورات الحوثيين المتكررة في اليمن والتي فشلت في اقتلاع النظام،كذلك الحال في المغرب والجزائر والسودان وغيرها من بلاد العالم الثالث،بينما نجحت ثورات بعد الفشل الاول كما هو في حالة الثورة الكوبية عامي 1953،1959!.
اليقظة ضرورية لحدوث امثال تلك الصدمات التاريخية المفاجأة والمسماة بشرارة الثورة،وعدم التهيئ لوقوعها سوف يتسبب في سقوط المزيد من الضحايا وبالتالي في ضياع البلاد والاجيال المعاصرة ضمن حلقة مرعبة من اليأس من الواقع او مفرغة من حدوث تغيير بمختلف انواعه وصوره.  

2010/12/26

ثقافة الاستهلاك والادخار 3

ثقافة الاستهلاك والادخار:3
تنقسم عوائد الدخل القومي عادة الى قسمين:الاستهلاك والادخار...في حالة استبعاد تأثير المصادر الاخرى... القسم الاول هو غالبا اكبر من الثاني بكثير لان الحاجات الانسانية المتعددة هي تبتلع الكثير من مصادر الدخل الفردي الا ان بعض التقاليد المتوارثة التي تحث على الادخار مع قدرة انتاجية عالية وحرص على الاستثمار فقد تجاوزت بعض الدول في ادخارها على قسمها الاخر وهو الاستهلاك مثل سنغافورة والصين وكذلك بعض الدول النفطية الا ان حالة الدول النفطية اقل اهمية من الدول المتعددة المصادر للدخل القومي كسنغافورة والصين وتايوان وغيرها لان درجة الادخار المعتمدة على النفط او اي معدن اخر سوف تكون متذبذبة حسب سعر السلعة وظروف السياسة الدولية وبالتالي فأن الحالة تبقى غير دائمية وامينة وقد تتحول الدولة في فترة قصيرة جدا الى حالة الدول التي تستهلك اكثر مما تدخر بينما الحالة الثانية فأنها اكثر استقرارا ونموها طبيعي واكثر قدرة على التكيف مع الاحوال المضطربة او استيعاب التقدم! وللتوضيح اكثر كانت الدول النفطية العربية خلال الموجة الاولى من ارتفاع النفط بين عامي1974-1982 قد تراكمت لديها اموال ضخمة سرعان ما استنزفتها خلال الفترة بين عامي 1983-2003 عندما تراجعت الواردات.
وفي حالتي الاستهلاك والادخار فأن كل قسم منهما يتفرع الى نوعين:الاول ايجابي ويتمثل بالادخار المؤدي الى الاستثمار بعكس الادخار السلبي الغير منتج مثل سد الحاجات الاستهلاكية المستقبلية مثل الزواج او التخطيط لدفع تكاليف سفر وغيره،اما الاستهلاك فأن النوع الايجابي هو العقلاني الذي يكون بتخطيط ودراية بظروف الحاضر والمستقبل ويستهلك الانتاج المحلي على الاكثر...والاخر هو استهلاك غير عقلاني ولا يمت للواقع والمستقبل بصلة بل هو يمثل الحاضر وفوضوي لا يؤدي الى استهلاك المنتج الداخلي ولا تطويره بل استهلاك الواردات الخارجية او الانفاق على الملذات بدون حساب او تقييم مدروس!.  
الاستهلاك الجنوني في العالم العربي!:
كلما تقدم الزمن بنا كلما ازداد جنون الاستهلاك في العالم اجمع ومنه بالتأكيد العالم العربي لانه يتأثر بالظروف الخارجية.
جنون الاستهلاك اصاب قطاعات واسعة ضمن شعوب العالم العربي لم تكن في السابق بسبب شيوع البساطة والفقر، وهي ناتجة من عدة عوامل اهمها الجهل والتخلف وضعف الوازع الوطني والديني او تجاهل التخطيط العلمي المرتكز على العقل والمنطق وعدم وجود منافذ استثمارية قادرة على امتصاص الفوائض المالية المتوفرة بالاضافة الى ضعف الاستقرار بصورته الاجمالية... كذلك وجود حالة نفسية في الرغبة المحمومة في التعويض عن الحرمان الذي اصاب الاسلاف ولو بتجاوز المعقول! ولذلك نجد ظهور وقائع جنونية لا يمكن وصف اصحابها الا بالسفاهة والحماقة والجهالة المرضية مثل شراء ارقام تلفونات معينة بمبالغ خيالية او شراء آثار وسلع تذكارية من المزادات العالمية بمبالغ تفوق القيمة الحقيقية بكثير او نقل السيارة الشخصية ذات المواصفات العالية بالطائرة! الخ من السفاهات المتداولة على اوسع نطاق ونقلتها وسائل الاعلام المختلفة...كما ويمكن اضافة عامل مهم ومختلف وهو ان التقدم التكنولوجي الحديث يضيف الينا سلعا جديدة بعضها موجود ولكن بصيغ متنوعة كأن تكون اسرع في الاداء واكثر دقة من السابق او اخف حجما او مصنوع من مادة معينة! مثل قطع جهاز الكومبيوتر واجهزة الموبايل وغيرها التي تتبدل خلال فترة قصيرة جدا هذا بالاضافة الى المستحدث من السلع،وكل ذلك يضيف اعباء استهلاكية جديدة على الدخل الاسري واكيد ضمن القوائم الاستهلاكية يدخل البذخ والتبذير من خلال استخدام سلعا وخدمات ليست فقط بلا اهمية بل وايضا عدم استخدامها! وهذا ناتج من الكثافة السلعية افقيا وعموديا والتي تضعف التركيز على الاستهلاك الامثل الذي يكون بعيد المنال وبخاصة امام تيسر الكثير من السلع والخدمات للجميع باسعار متيسرة!.
يفرح المستهلكون اذا شاهدوا انخفاض اسعار سلعا معينة فيقوموا على الفور بالشراء وتلك هي الحمى الاستهلاكية التي تصيب الغالبية(في الماضي كانت تقتصر على الفئات الثرية فقط) بحيث يصعب على دعاة الاستهلاك العقلاني الامثل ان يقفوا بوجهها!...الخطورة تكمن هنا في ان تعدد وكثرة السلع حتى لو صاحبها انخفاض في الاسعار فأن القائمة العددية سوف تزداد مما يعني ان المجموع سوف يكون اكبر وبالتالي فأن قوائم التكاليف تزداد بمرور الزمن حتى لو تم الاستغناء عن مجموعة جديدة لصالح اخرى اكثر حداثة منها،ومن مآسي التقدم هو الكثرة الهائلة في اعداد السلع المنتجة!.
لقد اتبعت الشركات والمؤسسات في العالم اجمع طرقا واساليب علمية وعملية واستفادت بقوة مهينة من علمي النفس والاجتماع بالخصوص في خلق وتهيئة بيئة تجعل الانسان مكبلا ولا يستطيع الفرار امام زحف المنتجات وتنوعها! بل وصلت الحالة الى استخدام النصوص الدينية للترويج التجاري وهذا يعني استغلال كافة نقاط ضعف الانسان وسلب معاني وجوده!...فقد ابتدعت المؤسسة الانتاجية الواحدة صناعة عدة اشكال والوان وبطرق متعددة للمادة الواحدة فكيف بعدد غير محدود منها فعلى سبيل المثال يمكن رؤية الحليب مصنوعا بعشرات الانواع التجارية الموجودة في مكان واحد والتي تهيئ المستهلك نفسيا لاستخدامها حتى لو كان مستخدما لنوعا واحدا وهذا يؤدي الى جعل زائر الاسواق التجارية في عصرنا الحالي حتى لو كان غرضه شراء سلعة معينة، فأنه يخرج منه مسلوب الارادة وفاقدا للوعي من خلال شراءه لسلع ليس في مخيلته ابدا سواء نيته شراءها بل وحتى استخدامها بعد ذلك! ويمكن لكل فرد استعادة جزء من ماضيه للتأمل.
الحديث بالتأكيد عن طرق التسويق طويل بل واصبح علما يدرس على نطاق واسع بغية الربح الكبير من بيع السلع والخدمات وهو يستخدم مختلف الوسائل لغرض الايقاع بالمستهلكين حتى ينفقوا من ميزانيتهم الخاصة التي كان من المفروض ان تذهب بأتجاه الادخار الاستثماري الذي تشعبت طرقه ايضا ولكن لم يقف بوجه حمى الاستهلاك الجنوني،حتى ظهرت متعة غريبة تضاف الى المتع الحسية المستحدثة تسمى:متعة التسوق!.
الجديد ضمن ايضا خلق المزيد من الاجراءات التي تشجع على الاستهلاك وهو ابتكار حساب مدين للبنك يسمى(كريدت كارد او بطاقة الائتمان) تسهل اجراءات الشراء حتى لو كان المستهلك مفلسا! من خلال الدفع المؤجل بفوائد عالية...لا بل الحكومات ايضا اصابها داء الاستدانة الداخلية والخارجية والانفاق بدون حساب حتى ظهرت لدينا ظاهرة جديدة تتمثل بالدول المفلسة والتي يتنافس الجميع فيها على مساعدة المفلس لكونه يسبب خطرا على الاستقرار العالمي من خلال تشابك المصالح الدولية وتداخل الاقتصاديات الدولية مثل حالة اليونان وايرلندا وايسلندا ومن قبل المكسيك والارجنتين وغيرها،ومن هنا اصبح الدين الحكومي والشعبي مرتفعا الى درجة خطيرة جدا تجعل اعباء الديون مهلكة ومعوقة للانتاج والتطوير وتستهلك معظم قدرات الدخل القومي.
اغلب الاستهلاك الجنوني يرتكز في منطقة الخليج وبعض الفئات الثرية في الدول الاخرى،والغريب ان الحكومات لم تعمل ما يكفي لكبح جماح هذا التطرف بل العكس من ذلك قامت بسياسة غريبة اقرب للجنون منها للواقعية المثالية وتتمثل في انتاج كميات كبيرة من النفط الخام والغاز الطبيعي وتصديره الى الخارج بأسعار زهيدة دون مراعاة الحاجة الفعلية او حجم الاحتياطي المتبقي للاجيال اللاحقة من هذه المادة الناضبة!...ويكفي للمقارنة التوضيحية هي ان النرويج وهو بلد يتفوق متوسط دخل الفرد فيه على جميع بلدان الخليج...لم يستعن كالاخيرة بالعمالة الاجنبية واستغلال اغلبها في ظروف غير انسانية في بناء اقتصاده المتطور بل اعتمد على قواه العاملة الوطنية هذا مع العلم ان النرويج كانت اساسا بلدا متطورا قبل اكتشاف النفط بعكس دول الخليج وليبيا وهنا يمكن الفرق الرئيسي من خلال قدرته على تدبير امثل لاستغلال العائدات النفطية في مكانها الصحيح قبل اكتشاف النفط في بحر الشمال في بداية السبعينيات من القرن العشرين وكمية الاحتياطي النرويجي هي دون اغلب دول الخليج بفارق كبير لكن الانتاج كان مرتفعا الى حد ما مع ملاحظة وجود التكاليف العالية للانتاج تخفض بموجبها العوائد وبالرغم من ذلك ساعدت على بناء فوائض مالية متراكمة استخدمتها الدولة في احسن ظروف الاستغلال الامثل ثم احتفظت بالباقي في صندوق سيادي للاجيال اللاحقة بعيدا عن تشجيع الاستهلاك الجنوني بدون حساب وتحويل المواطن المحلي الى عاطل كلي او جزئي او مقنع دون الاهتمام بتطويره تقنيا وفكريا بصورة صحيحة تبعده عن الاتكالية والاعتماد على دخل مادة ناضبة! كذلك فأن النرويج لم تسير في سياسة الانفاق العالي على الامن والتسلح فهي بلدا ديمقراطيا مستقر ليس هنالك من تهديدات خارجية عليه او نزعة ديكتاتورية تهلك الحرث والنسل!.
التقاليد الاجتماعية في العالم العربي هي عامل مهم في رفع درجة الاستهلاك وتخفيض درجة الادخار،فمثلا الاستهلاك المفرط للمواد الغذائية عند اقامة الحفلات والمناسبات المختلفة والتقدير المبالغ في اضافة الضيف كذلك فأن التركيز على السلع الغير ضرورية ولو من باب تقليد الاخرين يؤدي الى نفس الطريق مثل باب الصرعات الغريبة المستوردة...صحيح ان بعض التقاليد الاجتماعية مفيدة التي تحد من الاسراف والاستهلاك الغير مجدي مثل قلة استهلاك الكحول ومرتادي الحفلات الليلية او الاعتماد على الطبخ المنزلي الا انه قد حلت محلها تقاليد اخرى مغايرة وكأنها تعويضا للايجابيات من التقاليد الاجتماعية! من قبيل عدم استغلال الاناث في تطوير الذات او افساح المجال لها في المساهمة في تنمية الدخل القومي وبالتالي تعطيل فعالية نسبة كبيرة من المجتمع لا تتسبب بتخفيض نسبة الدخل الفردي بل وايضا تضيف مستهلكين جدد همهم الوحيد التعويض عن حالة الفراغ من خلال الاستهلاك المفرط للسلع والخدمات ولذلك نرى ان متوسط دخل الفرد في جميع الدول العربية منخفض بالمقارنة مع الدول المتقدمة لان قطاعات نسوية واسعة لا تعمل مع وجود عمالة اجنبية كثيفة ومحرومة من الحقوق الاساسية التي تنص عليها الشرائع السماوية والقوانين الوضعية واجورها دون المستوى المتوسط للمعيشة!.
الاستهلاك المؤدي للانتاج هو السائد في الدول المتقدمة صناعيا وهو غير موجود في الدول العربية وبخاصة الاكثر استهلاكا منها،لانه مهما ارتفع الاستهلاك المحلي فأن اغلب المنتجات المستهلكة هي مستوردة مما يعني بقاء ضعف القدرة على سد النقص في السوق الداخلية من خلال اقامة مشاريع انتاجية تسد الاستهلاك وتستثمر الاموال والطاقات البشرية المحلية،وهذا يعني ان الاستهلاك هو استنزاف سلبي لا يفيد في الدورة الانتاجية وعليه فأن الخلل الرئيسي يقع على عاتق الحكومات لانها تقود الاقتصاديات العربية ولا تدعم القطاع الخاص المعروف بأنتهازيته المقيتة! من خلال تشريع قوانين متشددة تحدد سلوكياته المنحرفة وتقومها من جهة وتساعده في قبول التقاليد الحديثة في العمل وتطبيق المعارف التكنولوجية التي تضعه في واجهة المساهم الرئيسي في الدخل القومي وتحويله الى عنصر انتاجي يقوم بتشغيل العمالة المحلية المدربة بدلا من عنصر خدمي يستغل الثغرات لملء الفراغات!.
الخلاصة:
من الخطأ التصور بأن العالم العربي وحده غنيا بالثروات الطبيعية في هذا العالم!...فاذا وجدت على ارضه بعض الثروات الكبيرة مثل النفط فأن النقص موجود ايضا في موارد اخرى مثل ندرة المياه وبعض المعادن الاخرى ووجود الصحراء القاحلة والطقس السيء والتي لا تشجع على السكن والاستثمار!...اذا الحالة متوازية وليس لنا فضل على الاخرين الا بالعمل والتقوى! وهما كلمتان موجودتان نظريا ومفقودتان عمليا!.
من الضروري تشجيع الحكومات والشعوب على اتباع طريق الادخار الايجابي وتسهيل الاستثمار بغية امتصاص الفوائض المالية من خلال خلق قاعدة صناعية وزراعية متفرعة مع الانفتاح على الاقتصاد العالمي.
ضرورة العمل على فرض ضرائب تصاعدية ليس فقط على الاثرياء بل وعلى كافة السلع والخدمات الغير ضرورية وهذا يؤدي بدوره الى تخفيض الاستهلاك وتوجيهه نحو واجهة اخرى سواء استهلاك جديد او الادخار!...كما وتخفيض الضرائب على السلع الضرورية او الاستثمار.
فرض ضرائب تصاعدية على سوق الاعلان حتى يمكن تحجيمه والتقليل من حالة الاعلانات الفوضوية وبخاصة في الشاشة الصغيرة.
تشجيع الادخار بكافة الوسائل وبخاصة رفع اسعار الفائدة والاستفادة من تجارب الاخرين وتطبيقها محليا فأذا فشلت فالواجب اختيار طريق اخر،وما اكثر التجارب العالمية التي تصرخ علينا بضرورة تطبيقها!...لا يمكن الوثوق بصحة النتائج الا اذا كان هنالك تصحيح سياسي يواكب عملية التنمية ويصحح مسارتها بدلا من التغطية على اخطائها!.
فالحياة لا تسير بأتجاه واحد ابدا...سواء فكرا او عملا!.
   

2010/12/25

ثقافة الاستهلاك والادخار 2

ثقافة الاستهلاك والادخار:2
التطور الاقتصادي المثير في آسيا لم يكن فقط من قدراتها الذاتية!... فالخارج وبخاصة امريكا ساعدت كثيرا على استمرارية النمو الاسيوي ليس فقط من خلال الاستثمار في اسيا وهو عامل مهم جدا،بل لان الانتاج الضخم المتصف برخص الاسعار بسبب توفر الايدي العاملة الرخيصة،لا بد له من سوق ضخمة للتصريف وبما ان الشعوب الاسيوية مقترة على نفسها بشكل كبير لغرض تطوير نفسها،فأن التوجه نحو التصدير هو الهدف الامثل ولا توجد اسواق ضخمة قادرة على استيعاب ذلك الحجم الضخم من الانتاج بقدرة السوق الامريكية الضخمة ومن ثم بدرجة اقل بكثير السوق الاوروبية وبالتالي فأن الادخار العالي سوف لن يكون ذا اهمية اذا لم تكن هنالك درجة استهلاك موازية له لان تصريف الانتاج هو عمل طبيعي في مثل تلك الحالات ومن هنا فأن توقف الخارج عن استيراد السلع الاسيوية سوف يؤدي الى توقف عجلة نمو تلك البلدان ومن هنا فأن بقاء الاعتماد على الخارج هو وضع غير آمن بتاتا لان الظروف الخارجية ايضا تخضع لتقلبات وظروف متغيرة وبالتالي فأن الاعتماد على الداخل يجب ان يكون الهدف المثالي التالي!...صحيح ان اليابان دخلت تلك المرحلة منذ زمن طويل الا ان البلاد الاخرى وبخاصة الصين مازالت بعيدة عن دخول هذا الهدف!...
لذلك نرى ان هذه البلدان وبخاصة الصين واليابان بدلا من ان تقوم بأستثمار فوائضها المالية في داخل بلدانها فأنها تقوم بالاستثمار في امريكا وبخاصة دعم الميزانية الامريكية من خلال شراء سندات الدعم لان ذلك يؤدي الى استمرار الطلب الامريكي على الانتاج الاسيوي مما يؤدي الى بقاء عجلة الانتاج والتطور والادخار مستمرة!..
هذه المعادلة الجديدة تفرض سلوكا جديدا في التعامل بين الدول او الشعوب التي تمثلها وهي خلاصة تطبيق الفكر الانساني الداعي الى احلال ثقافة التعاون والسلام بين البشر بدلا من الحروب والنزاعات لانها تؤدي الى افلاس الجميع وامامنا تجارب الحربين الاولى والثانية وكيف ان الاطراف  في اوروبا ضعفت جميعها الى درجة الافلاس حتى مهد الى ظهور القوة الامريكية المهيمنة على الساحة الدولية.
وليس غريبا الان ان تقوم الصين بعرض المساعدة الاقتصادية على بلدان الاتحاد الاوروبي وهو شريك تجاري مهم لها،وايضا مستقبلا اي بلد في حالة متطورة من التعاون المشترك.
تراكم رؤوس الاموال الصينية وصل الى درجة خطيرة! فالاموال الحكومية فقط وصلت الى مايقارب 4 تريليون دولار دون ان تقوم الحكومة بالقيام بواجبها في انتشال طبقات مازالت معدومة او ان تقوم بالاستثمار وهناك اسباب وجيهة تتمثل في ان كبح النمو العالي والسيطرة عليه افضل من جعله اعلى لان ذلك يؤدي الى حصول ركود بسبب عدم قدرة الاسواق الدولية على استيعاب المزيد من الصادرات مع بقاء مستوى الادخار مرتفعا الى درجة عالية فاقت 50% في بعض الاحصائيات،وعليه فأن النمو العالي المتوازن مع بقاء بعض السلبيات افضل في نظرهم من ترك النمو بدون تحكم حتى ولو لاحت في الافق بعض الايجابيات.
ان بقاء نسبة الادخار العالية في اسيا وبخاصة الصين لكونها الاكبر حجما، على هذا المستوى فأنه سوف يؤدي الى انخفاض نسبة النمو اذا لم تصاحبها زيادة داخلية وخارجية في الطلب،ومن الضروري ان تقوم تلك الحكومات بتشجيع الاستهلاك وتخفيض الفوائد لان بقاء حالة من التوازن بين الادخار والاستهلاك افضل بكثير من ترك احد الطرفين يتفوق على الاخر بفارق كبير! وعليه فأن النسبة المعقولة للادخار هي بين 25%-45% وهي تحافظ على مستو متوازي من النمو الاقتصادي وتطور الاستهلاك والخدمات الخ...
ولبيان حالة النمو المدهش في الصين المستندة على مستوى الادخار الانتاجي العالي منذ انطلاقتها اواخر عام 1978 مع بعض الدول العربية وهي ان مستوى دخل الفرد في قطر والكويت كان عام 1978 يفوق دخل الفرد الصيني اكثر من 100 مرة!! اي 120 دولارا للصين واكثر من 12000$ للبلدين الخليجيين،بينما الحالة الان(2010) وبدون اضافة هونغ كونغ وماكاو الاعلى دخلا اللذان استرجعتهما الصين فأن دخل الفرد في قطر والكويت يفوق دخل الفرد الصيني بين 10-15 مرة! مع ملاحظة ارتفاع اسعار النفط لصالح البلدين مما يعني ان الفارق قد تقلص كثيرا ومن يدري فقد يأتي يوم يتفوق فيه متوسط دخل الفرد الصيني كما حدث سابقا مع اليابان!.
الحالة في العالم العربي:
مازالت دول العالم العربي تسير في طريق الفوضى! فلا هي من دول الادخار العالي ولا هي من دول الاستهلاك المؤديان معا الى الانتاج!.
فالارقام التي تصدر عادة من المنظمات الدولية والتي تذكر بعض البلاد العربية هي غير دقيقة لان العادة المتعارف عليها هي ان اغلب الاحصائيات العربية غير دقيقة لاسباب عديدة منها ضعف الاجهزة الحكومية ترسخ البيروقراطية مع ضعف التعاون مع القطاعات الشعبية التي تنظر عادة بعين الريبة والشك من طلب الارقام! هذا مع عدم وجود ثقافة وطنية حقيقية تقتضي بضرورة الكشف عن كل الارقام التي تختص مختلف المجالات.
فأذا كانت الصورة كذلك فعليه يكون ذكر الارقام المتداولة مع علامة تحفظ كبرى عليها!...فعند مراجعة ارقام البنك الدولي وغيره حول نسب الادخار للناتج المحلي الاجمالي فأن الارقام الموجودة تخالف الصادرة في نسب النمو الحقيقي التي غالبا ضئيلة جدا مما يعني ان الارقام ليست فقط غير دقيقة بل ايضا ان الادخار هو فقط لاجل الادخار الاستهلاكي وليس لغرض الادخار الانتاجي والذي يكون اغلبه عاده ادخار خدماتي سريع الربح وضعيف الفائدة على البلد ككل!.
المعادلة الوسطية المتعارف عليها هي ان العائد من الاستثمار هو الربع في المتوسط...معنى ذلك اذا وجدنا ان بلدا ما ينمو السكان فيه سنويا بمقدار 1% فعليه صرف 4% من دخله القومي فقط لغرض الحفاظ على المستوى الاقتصادي السائد،وبما ان البلاد العربية مرتفعة النمو السكاني فأن 3% هي النسبة الوسطية المنتشرة وقد ترتفع او تنخفض في بعضها، فلغرض الحفاظ على المستوى الاقتصادي ل 3% يجب ان يكون الاستثمار بحدود 12% من الدخل القومي السنوي، وبعض دول الخليج ينمو السكان فيها بمعدل اعلى بفضل الهجرة الخارجية اكثر من ذلك بكثير... فأذن يجب ان يكون مستوى الاستثمار فيها عالي جدا وهنا يتدخل عامل العوائد النفطية المساعد التي ينفق جزء كبير منها على الخدمات والتسلح مما يعني فقدانها في اضافة مالية جديدة للدخل القومي.
الادخار ليس كله موجه للاستثمار بل جزء كبير منه لغرض الانفاق المستقبلي او لحاجات اخرى غير استثمارية مثل السفر الى الخارج،وعليه فأن حاجة العالم العربي يجب ان تفوق نسبة 12% للحفاظ على مستواه الضعيف حاليا! والنسبة الوسطية في العالم هي بحدود 20% اما في العالم العربي فهي قريبة لهذه النسبة ارتفاعا او انخفاضا مما يعني ان النمو الحقيقي ضعيف جدا لان المتبقي وهو بحدود 8% هو لا يكفي سوى 1%-1.5% من النمو الاقتصادي السنوي لان هامش الادخار غير الاستثماري عالي جدا،وعليه في هذه الحالة اذا اراد العالم العربي ان ينمو بنفس مستوى الصين العالي البالغ اكثر من 10% فعليه ان ينفق كحد ادنى اكثر من 50% من دخله على الاستثمار وهي نسبة عالية من الصعب جدا ان يصل اليها في ظل الفوضى الاقتصادية والسياسية التي تشهد عليها مراقبة ظروف هذا العالم البائس الضعيف!.
التقاليد المتوارثة لدى شعوب العالم العربي هي تقاليد ايجابية تميل للادخار اكثر منها للاستهلاك بالرغم من ازدياد تلك النزعة في العقود الاخيرة وبخاصة لدى دول الخليج! وعدم الاستفادة من هذا التوجه المتوارث يعني ضياع فرصة ثمينة تتمثل في استغلال عوامل التقاليد الاجتماعية والبيئة لخدمة التطور الاقتصادي!.
ضعف الاعلان عن حجم الادخار لدى الشارع مرده الى انعدام الثقة مع مؤسسات الدولة التي لا تقوم بواجبها من الخدمات والاستثمار في مختلف فروع الانتاج مما يعني اضعاف لعامل الوطنية الذي يرتكز على عاملي الخدمة والخدمة المضادة،لان الوطنية ليست شعارا يمكن رفعه بسهولة بل هي واقع ملموس يحتاج الى بذل الجهود لتقوية الوشائج الوطنية التي من افروعها هي حالة دفع الضرائب برغبة داخلية ترتكز على القناعة التامة من خلال محاربة الفساد واحلال العدالة بين الجميع وكذلك تقديم الخدمات وتوفير مستقبل مشرق للاجيال اللاحقة.

عيد ميلاد مجيد

:MERRY CHRISTMASعيد الميلاد المجيد 
نبارك للبشرية جمعاء والاخوة المسيحيون بكافة طوائفهم بصورة خاصة ... ذكرى ميلاد نبي المحبة والخير والتسامح والرحمة والفضيلة والسلام،النبي الخالد عيسى بن مريم(ع) في هذا اليوم المبارك 25-12...
في ذكرى ميلاده العطرة تجتمع المشاعر القلبية وهي مناسبة خاصة يجتمع عليها البشر لنبذ كافة الاعمال الشريرة التي تسبب العداء والكراهية للجميع.
لنهتدي بسيرته العطرة لبناء عالم خال من العنف والكراهية...ويرتكز على العدالة والمساواة والخير والمحبة،من خلال التحاور المثمر الجاد لحل كافة المشاكل وحصر الخلافات ضمن اضيق نطاق وابعاده عن دائرة العنف الجهنمية والعمل على بناء اخوة كاملة بين مختلف الطوائف والديانات...
ان الاحتفال بالصالحين هو وسيلة مثالية للتقريب بين الشعوب كافة وهي من انجع الوسائل واقلها صعوبة.

2010/12/22

ثقافة الاستهلاك والادخار 1

ثقافة الاستهلاك والادخار:
تطرح احيانا تساؤلات ذات اهمية فائقة حول اختلاف النمط الاستهلاكي بناءا على تكوين البنية الثقافية والموروث او مدى علاقة الدولة بالاقتصاد العالمي او انفتاح المجتمع وانغلاقه عن العالم، وهذا ايضا ينطبق على الادخار النقيض الاخر وهو ايضا ثقافة وسلوك مستند عليها!.
بالتأكيد ان الاجابات التفصيلية على تلك التساؤلات قد لا تفي بحقها مجلدات ضخمة مستندة على قوائم احصائية لا قدرة للانسان المثقف اذا امتلك ارادة الصبر ان يستوعبها بشكل كامل! فكيف والحال بالانسان البسيط الباحث عن قدر معرفي لمعرفة اسرار انماط السلوك البشري المختلف في كل المجالات لغرض معرفة اسرار طبيعة وجوده التي تعينه على معرفة ذاته! لكن لا يعفينا ذلك من تناول امثال تلك المسائل بأختصار بواسطة استخدام ابسط الاساليب مع الاستناد الى الدقة في البرهان والاحصائيات الدقيقة المتيسرة.
تلك التساؤلات لم تأتي من فراغ خيالي مطلق بل من واقع حياتي معلن! والمقارنات بين تجارب الشعوب تفرضها... فالشعوب الاسيوية على سبيل المثال لديها ثقافة ادخارية سائدة تجعل نسبة الادخار تفوق بثلاث مرات على الاقل نسبة الادخار في اوروبا!... والاستهلاك في امريكا يفوق بمجمله على مستويات الكثير من الشعوب الاخرى...اذا هي ثقافة سائدة.
 تلك الاختلافات استندت على ثقافة سلوكية موروثة ناتجة من البيئة والتاريخ وغيرها وايضا مكتسبة من واقع الحياة المتغير على الدوام.
اذا ارتفعت نسبة الاستهلاك قلت نسبة الادخار...تلك حقيقة وبما ان الاستهلاك مرتفع في اوروبا فأن ادخارهم اقل من الشعوب الاسيوية وبالتالي فأن نسبة النمو الاقتصادية سوف تكون اقل بكثير.
كما هو معروف فأن النهضة الاوروبية الصناعية سبقت الامم الاخرى،وقد ساعدت تلك النهضة على استيلاء اوروبا القوية على قارة افريقيا واغلب بلدان اسيا مع السيطرة على قارات العالم الجديد الثلاث:امريكا الشمالية والجنوبية واستراليا،وبالتالي فأن تلك المستعمرات الغنية قد وفرت لاوروبا وفرة مادية تراكمت كثيرا بسبب الثروات المادية والبشرية التي وضعت تحت تصرفها وما الحروب في داخل القارة الا مثال بسيط على الصراع بين اللصوص على الغنائم!.
تراكم تلك الثروات مع الاستناد على النهج الرأسمالي الذي يدعو الى السعي وراء الربح جعل ثقافة الاستهلاك تسود لان عدم استهلاك تلك الثروات المتيسرة والعيش بنفس المستويات السابقة هو الجنون بعينه كذلك فأن التطور الصناعي يجعل من انتاج السلع يرتفع كما ونوعا وبالتالي يحتاج الى استهلاك لتصريفه ومن هنا بدأت ثقافة التشجيع على الاستهلاك مع المنافسة الرأسمالية الحادة بين مصادر الانتاج المشترك والتي تتنافس في توفير السلع بارخص الاثمان بغية الحصول على اكبر نسبة من السوق  وبالتالي فأن الارباح سوف تتضاعف مادام عدد المستهلكين سوف يعوض الفارق بين سعر الكلفة والبيع...انها سياسة السوق الحرة!.
من هنا بدأت الثقافة الغربية تساعد على تشجيع الاستهلاك للاستفادة من ثمرات التطور الصناعي والتكنولوجي بالرغم من تداخل ثمرات الاستعمار المحرمة ضمن الجهود الداخلية لتلك الشعوب!.
في العالم الجديد اذا استثنينا بلدان امريكا اللاتينية التي انشغلت بالانقلابات والصراعات الداخلية والفساد وبالتالي اخر من تطورها فأن الملاحظ ان امريكا وبدرجة قريبة منها ايضا كندا واستراليا ونيوزيلندا،هي كانت ذات وفرة متميزة من ناحية وجود الثروات الطبيعية والثروة البشرية القادمة من اوروبا على الاغلب والتي تمتلك من الخبرات المتميزة بالاضافة الى قلة السكان وعدم اشتراكها في حروب خارجية وداخلية وسيطرة نظم ليبرالية مستقرة تنتهج المنهج الرأسمالي قد ساعد كثيرا على تراكم الثروات المادية بشكل كبير جدا مما ساعد على تطور الاستهلاك الى درجة فاقت اوروبا بكثير! مما ادى الى استمرار الهجرة نحو بلدان العالم الجديد للتمتع بخيراته الوفيرة وبخاصة من اوروبا نفسها! والتنوع في مكونات المهاجرين يجعل على الدوام الدخل القومي في حالة من النمو المستندة على تنوع الاذواق وظهور ثقافة الادخار للفئات التي جاءت من مناطق اكثر فقرا...
هذا ادى الى ان الاستهلاك اصبح سمة عامة في المجتمع الغربي في العموم وبلدان العالم الجديد بالخصوص والاستهلاك هنا اصبح ثقافة شعبية ومتاح للجميع دون تمييز وليس لفئة معينة من السكان فالقوانين والمناهج الموضوعة تحتم فرض مبادئ الحرية والمساواة بين الجميع وان كانت بصورة نسبية وبالتالي فأن الاستهلاك كثقافة ناتجة من البيئة والتاريخ اصبح متاحا للجميع دون تمييز وهي اصبحت سائدة بينما ضعفت كثيرا ثقافة الادخار خاصة في ظل المتغييرات المجتمعية الداعية الى استثمار الحياة القصيرة وملذاتها المادية بدون حدود!...
من هذا المنطلق اصبح الادخار اقل مستوى بحيث لا يزيد عن 20% بل ويصل في بعض الدول الى دون 10% مما يعني ان نسبة النمو الاقتصادية سوف تكون ضئيلة ولكنها مؤثرة لان الانتاج ضخم جدا وايضا فأن الاستقرار السياسي والاجتماعي الطويل لا يستدعيان الحرص الشديد على الادخار الذي هو ثقافة متوارثة للحافظ على مستوى معين من السيطرة على الظروف المحيطة من تأثيرات تقلبات الزمن والبيئة،فالاثنان مستقران الى حد كبير ولا داعي الى تحديد مستوى الاستهلاك بل شاع ايضا انه كلما زاد الاستهلاك كلما ازداد الانتاج لان الطلب يخلقه وبالتالي فأن الثروة والتقدم يأتيان من ارتفاع الاستهلاك...هذا صحيح ولكن ليس بدون حدود!.
البلاد الاسيوية كانت على العكس من ذلك تماما!...فهي بلاد ترتفع فيها عادة نسبة المواليد حتى اصبحت ذات كثافة سكانية عالية جدا ولذلك نرى بلادا صغيرة الحجم الجغرافي مثل اليابان وكوريا وفيتنام ولكنها في نفس الوقت كثيفة السكان بشكل مخيف احيانا بل ان بلدا واحدا مثل الصين قد فاق عدد سكانه كل سكان اوروبا بأكملها!.
كثرة السكان صاحبه في نفس الوقت قلة في توفر الموارد الطبيعية وايضا ندرة المواد الغذائية المنتجة مما ادى الى تكرار حدوث المجاعات المآساوية المرعبة التي صاحبها عدم وجود استقرار سياسي واجتماعي مما ادى الى سيادة مبدأ الادخار على ماعداه للحفاظ على الروح من الهلاك والجوع المنتظر بفضل الاوضاع الغير مستقرة سواء سياسيا او قلة توفر الموارد المتاحة...اما لماذا لم تتطور تلك البلاد في السابق مادامت نسبة الادخار عالية لديها؟!...الجواب لان حجم الدخل الفردي كان قليل جدا فأي مستوى للادخار سوف يكون قليلا هذا من جهة،ومن الجهة الاخرى ساعدت الحروب والفساد وتسلط الديكتاتوريات والاستعمار على تأخير اي تطور اقتصادي مستمر كما يحدث الان مع انغلاق المجتمعات عن بعضها البعض او عن العالم الخارجي بل احتاجت امريكا الى فرض القوة على اليابان لفتح اسواقها في عام 1853 وهي كانت منعزلة عن العالم الخارجي لقرون مضت!...وكذلك مارست بريطانيا ضغوطا مشابهة على الصين وغيرها، اما الان فالظروف تغيرت كثيرا فنسبة النمو السكاني انخفضت بشكل كبير نتيجة المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية حتى اصبح بلدا مثل اليابان يتراجع عدد سكانه وترتفع نسبة كبار السن فيه الى درجة مخيفة تؤثر على استقراره وتطوره من خلال قلة المتوفر من اليد العاملة وزيادة الحاجة للانفاق على فئة كبار السن! اما الصين فقد التزمت بشكل متزمت بسياسة الطفل الواحد لكل عائلة نتيجة لضخامة عدد السكان لديها،وهذا يؤدي بدوره الى ان نسبة الادخار المرتفعة سوف تكون في النهاية لاسرة صغيرة تتكون من ثلاث اشخاص في الغالب اثنان منتجان وبالتالي فأن هذا الادخار سوف يوجه بصورة خاصة للاستثمار الذي ارتفع بشكل كبير نتيجة لاستحداث فروع استثمارية متعددة كذلك فأن التطور الاجتماعي المستند على ازدهار التعليم واستيعاب التكنولوجيا المتطورة وتطور الخبرة وارتفاع المستوى الصحي كلها عوامل ادت الى التركيز بقوة على دفع عجلة الاستثمار المستندة على ادخار عالي جدا نحو الامام مما ادى الى حصول نمو اقتصادي مذهل فاق التوقعات ومازال مستمرا ايضا لان الادخار ارتفع ليس بشكله النسبي فقط بل بالكم ايضا من خلال ارتفاع مستوى الدخل الفردي والذي ادى بالنتيجة الى الوصول الى هذه النتيجة المتوقعة.
الاستقرار السياسي ساعد كثيرا في تطور بلدان الشرق الاقصى واسيا الجنوبية بشكل كبير وكان من نتيجته توقف الحروب الداخلية والخارجية وانخفاض مستوى الانفاق على الدفاع والامن! مما ساعد على توفير الموارد المالية المتراكمة نحو الاستثمار بدلا من توجهه نحو الاستهلاك لان الثقافة الموروثة الناتجة من التاريخ الطويل للمآسي لم تتغير بصورة كبيرة وهي تحتاج الى فترة طويلة للتخفيف من حدة الالتزام بهذا المستوى العالي من الادخار وحرمان الذات من التمتع بالخيرات بشكل اكبر،ولكن عموما فأن المتوقع ان نسبته لا توصل الى المستوى الغربي!.