إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2010/12/22

ثقافة الاستهلاك والادخار 1

ثقافة الاستهلاك والادخار:
تطرح احيانا تساؤلات ذات اهمية فائقة حول اختلاف النمط الاستهلاكي بناءا على تكوين البنية الثقافية والموروث او مدى علاقة الدولة بالاقتصاد العالمي او انفتاح المجتمع وانغلاقه عن العالم، وهذا ايضا ينطبق على الادخار النقيض الاخر وهو ايضا ثقافة وسلوك مستند عليها!.
بالتأكيد ان الاجابات التفصيلية على تلك التساؤلات قد لا تفي بحقها مجلدات ضخمة مستندة على قوائم احصائية لا قدرة للانسان المثقف اذا امتلك ارادة الصبر ان يستوعبها بشكل كامل! فكيف والحال بالانسان البسيط الباحث عن قدر معرفي لمعرفة اسرار انماط السلوك البشري المختلف في كل المجالات لغرض معرفة اسرار طبيعة وجوده التي تعينه على معرفة ذاته! لكن لا يعفينا ذلك من تناول امثال تلك المسائل بأختصار بواسطة استخدام ابسط الاساليب مع الاستناد الى الدقة في البرهان والاحصائيات الدقيقة المتيسرة.
تلك التساؤلات لم تأتي من فراغ خيالي مطلق بل من واقع حياتي معلن! والمقارنات بين تجارب الشعوب تفرضها... فالشعوب الاسيوية على سبيل المثال لديها ثقافة ادخارية سائدة تجعل نسبة الادخار تفوق بثلاث مرات على الاقل نسبة الادخار في اوروبا!... والاستهلاك في امريكا يفوق بمجمله على مستويات الكثير من الشعوب الاخرى...اذا هي ثقافة سائدة.
 تلك الاختلافات استندت على ثقافة سلوكية موروثة ناتجة من البيئة والتاريخ وغيرها وايضا مكتسبة من واقع الحياة المتغير على الدوام.
اذا ارتفعت نسبة الاستهلاك قلت نسبة الادخار...تلك حقيقة وبما ان الاستهلاك مرتفع في اوروبا فأن ادخارهم اقل من الشعوب الاسيوية وبالتالي فأن نسبة النمو الاقتصادية سوف تكون اقل بكثير.
كما هو معروف فأن النهضة الاوروبية الصناعية سبقت الامم الاخرى،وقد ساعدت تلك النهضة على استيلاء اوروبا القوية على قارة افريقيا واغلب بلدان اسيا مع السيطرة على قارات العالم الجديد الثلاث:امريكا الشمالية والجنوبية واستراليا،وبالتالي فأن تلك المستعمرات الغنية قد وفرت لاوروبا وفرة مادية تراكمت كثيرا بسبب الثروات المادية والبشرية التي وضعت تحت تصرفها وما الحروب في داخل القارة الا مثال بسيط على الصراع بين اللصوص على الغنائم!.
تراكم تلك الثروات مع الاستناد على النهج الرأسمالي الذي يدعو الى السعي وراء الربح جعل ثقافة الاستهلاك تسود لان عدم استهلاك تلك الثروات المتيسرة والعيش بنفس المستويات السابقة هو الجنون بعينه كذلك فأن التطور الصناعي يجعل من انتاج السلع يرتفع كما ونوعا وبالتالي يحتاج الى استهلاك لتصريفه ومن هنا بدأت ثقافة التشجيع على الاستهلاك مع المنافسة الرأسمالية الحادة بين مصادر الانتاج المشترك والتي تتنافس في توفير السلع بارخص الاثمان بغية الحصول على اكبر نسبة من السوق  وبالتالي فأن الارباح سوف تتضاعف مادام عدد المستهلكين سوف يعوض الفارق بين سعر الكلفة والبيع...انها سياسة السوق الحرة!.
من هنا بدأت الثقافة الغربية تساعد على تشجيع الاستهلاك للاستفادة من ثمرات التطور الصناعي والتكنولوجي بالرغم من تداخل ثمرات الاستعمار المحرمة ضمن الجهود الداخلية لتلك الشعوب!.
في العالم الجديد اذا استثنينا بلدان امريكا اللاتينية التي انشغلت بالانقلابات والصراعات الداخلية والفساد وبالتالي اخر من تطورها فأن الملاحظ ان امريكا وبدرجة قريبة منها ايضا كندا واستراليا ونيوزيلندا،هي كانت ذات وفرة متميزة من ناحية وجود الثروات الطبيعية والثروة البشرية القادمة من اوروبا على الاغلب والتي تمتلك من الخبرات المتميزة بالاضافة الى قلة السكان وعدم اشتراكها في حروب خارجية وداخلية وسيطرة نظم ليبرالية مستقرة تنتهج المنهج الرأسمالي قد ساعد كثيرا على تراكم الثروات المادية بشكل كبير جدا مما ساعد على تطور الاستهلاك الى درجة فاقت اوروبا بكثير! مما ادى الى استمرار الهجرة نحو بلدان العالم الجديد للتمتع بخيراته الوفيرة وبخاصة من اوروبا نفسها! والتنوع في مكونات المهاجرين يجعل على الدوام الدخل القومي في حالة من النمو المستندة على تنوع الاذواق وظهور ثقافة الادخار للفئات التي جاءت من مناطق اكثر فقرا...
هذا ادى الى ان الاستهلاك اصبح سمة عامة في المجتمع الغربي في العموم وبلدان العالم الجديد بالخصوص والاستهلاك هنا اصبح ثقافة شعبية ومتاح للجميع دون تمييز وليس لفئة معينة من السكان فالقوانين والمناهج الموضوعة تحتم فرض مبادئ الحرية والمساواة بين الجميع وان كانت بصورة نسبية وبالتالي فأن الاستهلاك كثقافة ناتجة من البيئة والتاريخ اصبح متاحا للجميع دون تمييز وهي اصبحت سائدة بينما ضعفت كثيرا ثقافة الادخار خاصة في ظل المتغييرات المجتمعية الداعية الى استثمار الحياة القصيرة وملذاتها المادية بدون حدود!...
من هذا المنطلق اصبح الادخار اقل مستوى بحيث لا يزيد عن 20% بل ويصل في بعض الدول الى دون 10% مما يعني ان نسبة النمو الاقتصادية سوف تكون ضئيلة ولكنها مؤثرة لان الانتاج ضخم جدا وايضا فأن الاستقرار السياسي والاجتماعي الطويل لا يستدعيان الحرص الشديد على الادخار الذي هو ثقافة متوارثة للحافظ على مستوى معين من السيطرة على الظروف المحيطة من تأثيرات تقلبات الزمن والبيئة،فالاثنان مستقران الى حد كبير ولا داعي الى تحديد مستوى الاستهلاك بل شاع ايضا انه كلما زاد الاستهلاك كلما ازداد الانتاج لان الطلب يخلقه وبالتالي فأن الثروة والتقدم يأتيان من ارتفاع الاستهلاك...هذا صحيح ولكن ليس بدون حدود!.
البلاد الاسيوية كانت على العكس من ذلك تماما!...فهي بلاد ترتفع فيها عادة نسبة المواليد حتى اصبحت ذات كثافة سكانية عالية جدا ولذلك نرى بلادا صغيرة الحجم الجغرافي مثل اليابان وكوريا وفيتنام ولكنها في نفس الوقت كثيفة السكان بشكل مخيف احيانا بل ان بلدا واحدا مثل الصين قد فاق عدد سكانه كل سكان اوروبا بأكملها!.
كثرة السكان صاحبه في نفس الوقت قلة في توفر الموارد الطبيعية وايضا ندرة المواد الغذائية المنتجة مما ادى الى تكرار حدوث المجاعات المآساوية المرعبة التي صاحبها عدم وجود استقرار سياسي واجتماعي مما ادى الى سيادة مبدأ الادخار على ماعداه للحفاظ على الروح من الهلاك والجوع المنتظر بفضل الاوضاع الغير مستقرة سواء سياسيا او قلة توفر الموارد المتاحة...اما لماذا لم تتطور تلك البلاد في السابق مادامت نسبة الادخار عالية لديها؟!...الجواب لان حجم الدخل الفردي كان قليل جدا فأي مستوى للادخار سوف يكون قليلا هذا من جهة،ومن الجهة الاخرى ساعدت الحروب والفساد وتسلط الديكتاتوريات والاستعمار على تأخير اي تطور اقتصادي مستمر كما يحدث الان مع انغلاق المجتمعات عن بعضها البعض او عن العالم الخارجي بل احتاجت امريكا الى فرض القوة على اليابان لفتح اسواقها في عام 1853 وهي كانت منعزلة عن العالم الخارجي لقرون مضت!...وكذلك مارست بريطانيا ضغوطا مشابهة على الصين وغيرها، اما الان فالظروف تغيرت كثيرا فنسبة النمو السكاني انخفضت بشكل كبير نتيجة المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية حتى اصبح بلدا مثل اليابان يتراجع عدد سكانه وترتفع نسبة كبار السن فيه الى درجة مخيفة تؤثر على استقراره وتطوره من خلال قلة المتوفر من اليد العاملة وزيادة الحاجة للانفاق على فئة كبار السن! اما الصين فقد التزمت بشكل متزمت بسياسة الطفل الواحد لكل عائلة نتيجة لضخامة عدد السكان لديها،وهذا يؤدي بدوره الى ان نسبة الادخار المرتفعة سوف تكون في النهاية لاسرة صغيرة تتكون من ثلاث اشخاص في الغالب اثنان منتجان وبالتالي فأن هذا الادخار سوف يوجه بصورة خاصة للاستثمار الذي ارتفع بشكل كبير نتيجة لاستحداث فروع استثمارية متعددة كذلك فأن التطور الاجتماعي المستند على ازدهار التعليم واستيعاب التكنولوجيا المتطورة وتطور الخبرة وارتفاع المستوى الصحي كلها عوامل ادت الى التركيز بقوة على دفع عجلة الاستثمار المستندة على ادخار عالي جدا نحو الامام مما ادى الى حصول نمو اقتصادي مذهل فاق التوقعات ومازال مستمرا ايضا لان الادخار ارتفع ليس بشكله النسبي فقط بل بالكم ايضا من خلال ارتفاع مستوى الدخل الفردي والذي ادى بالنتيجة الى الوصول الى هذه النتيجة المتوقعة.
الاستقرار السياسي ساعد كثيرا في تطور بلدان الشرق الاقصى واسيا الجنوبية بشكل كبير وكان من نتيجته توقف الحروب الداخلية والخارجية وانخفاض مستوى الانفاق على الدفاع والامن! مما ساعد على توفير الموارد المالية المتراكمة نحو الاستثمار بدلا من توجهه نحو الاستهلاك لان الثقافة الموروثة الناتجة من التاريخ الطويل للمآسي لم تتغير بصورة كبيرة وهي تحتاج الى فترة طويلة للتخفيف من حدة الالتزام بهذا المستوى العالي من الادخار وحرمان الذات من التمتع بالخيرات بشكل اكبر،ولكن عموما فأن المتوقع ان نسبته لا توصل الى المستوى الغربي!.

ليست هناك تعليقات: