إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2009/07/16

اسطورة التغيير الفوقي - القسم الثامن والثلاثون

بقي انقلابي شباط وتشرين الثاني 1963 بعيدان عن الواقع الشعبي،وكانا يمثلان صراعان من اجل السلطة بين حفنة من الضباط والمدنيين من حزب البعث وكلاهما طائفيين وعنصريين حد النخاع! ولم يصل من خلال الحكم اي تحسن ملموس في واقع الشعب ولا في ثباته على المبادئ الوطنية،بل حولوا قطاعات كبيرة من المجتمع الى غوغائيين يركضون وراء مناصب هزيلة في الاجهزة القمعية والحزبية،وانعدمت الحريات بمختلف انواعها،فقد فقدت السلطة التشريعية وجودها بشكل كامل واصبحت القرارات ارتجالية تعتمد في الغالب على تقديرات المسؤولين الكبار وبعضهم وصل الى المنصب دون ادنى معرفة بالواقع القانوني او الشؤون المتعلقة بحياة المواطن والبلاد،كذلك انعدمت استقلالية الجهاز القضائي واصبح القضاء لايستطيع العمل في القضايا الهامة ومنها السياسية،واصبحت المحاكم الاستثنائية هي الدائمة والتي تخرج قراراتها الجهنمية على المعارضين دون ادنى شفقة هذا اذا نجى المعذبون من التعذيب واتيحت لهم المحاكمة الغير عادلة والتي كانت سريعة الى درجة بضع دقائق في اصدار احكام على العشرات!،ولا يستطيع كل شخص معارضة ذلك فنهايته محتومة وبأبشع الوسائل الاجرامية،اما حال السلطة الرابعة(وسائل الاعلام)فقد اصبحت خاضعة للحكومة بشكل كلي وبالتالي انعدمت الصدقية فيها اذا كان يتعلق الامر بالحكومة واجراءاتها المختلفة! وبالتالي فقد اصبحت السلطات الثلاث مع السلطة الرابعة الغير رسمية في بوتقة واحدة خاضعة للسلطة التنفيذية والتي يمثلها الرئيس وزمرته!.
تولى رئاسة العراق منذ 1963 ولغاية 1966 العقيد عبد السلام عارف،وهو شخصية ضعيفة تمتاز برعونة وضحالة في التفكير استطاع السيطرة عليها عبد الناصر بحيث اصبح تابعا صغيرا له رغم اختلافهما بعد ذلك!...ثم بعد ذلك تولى اخيه الاكبرالفريق عبد الرحمن عارف الحكم لمدة عامين ولغاية انقلاب 1968 الذي ارجع حزب البعث الى السلطة،وكان الاخير يمتاز عن الاول بالهدوء والمسالمة وكره الاستئثار بالسلطة المطلقة،مع منح الكثير من رجالات الدولة المدنيين الكثير من الصلاحيات لممارسة عملهم وفق الاصول القانونية،الا ان سيطرته لم تكن مطلقة حتى يمكن له التحكم بالامور بل كان خاضعا لقادة المؤسسة العسكرية وبقية رجالات الدولة الاخرين دون ان يقدم على الاستقالة!.
حاول بعض رجالات الدولة المدنيين ارجاع الحكم الى الشعب من خلال سن دستور دائم للبلاد واقرار الحريات بغية عودة الامور الى طبيعتها الاولية،وكان على رأس ذلك رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز(ت1973) وقد خاض رجالات الدولة التكنوقراط صراعا مع المؤسسة العسكرية لتحويل البلاد نحو اعادة الحكم المدني،الا ان محاولاتهم فشلت مع اصرار غالبية اطراف المؤسسة العسكرية في التشبث بمواقعها السيادية وامتيازاتها الممنوحة لها مما جعل البلاد تستمر في العيش بدوامة الارهاب والاستبداد والطائفية.
خلال تلك الفترة من الحكم العارفي(1963-1968)اصبح الحكم مناطقيا،بمعنى ان الحكم لم يقف عند حدود الطائفية السنية الضيقة،بل تحول الى اكثر ضيقا ومحصورية في مناطق تعتبر غير مؤثرة في السياسة سابقا،كما تمتاز بالفقر الشديد وبصفات البداوة البعيدة عن التحضر خاصة في قربها الى الصحراء.
كان الحكم الملكي السابق وقبله الدولة العثمانية،يتركز الحكم بيد سنة بغداد والى حد ما الموصل،اما بعد انقلاب 1963 فقد تحول الى الحكم الى مناطق محافظة الانبار وعاصمتها الرمادي،والى تكريت وسامراء وما جاورهما من مناطق سنية وكل منطقة تضم قبائل مترابطة الوشائج فيما بينها .
تمتاز تلك المناطق بالفقر والجهل والتخلف والتعصب الاعمى مع تأخر في قبول التحضر بالمقارنة مع المناطق الاخرى،ولذلك جاء انتسابهم الى القوات المسلحة بكثافة بسبب الميول نحو مهنة العسكرية التي يبتعد عنها معظم العراقيين والتي لاتحتاج الى كفاءات عالية في القبول،وقد بدأ ابناء تلك المناطق في الدخول بكثافة في الكليات العسكرية في فترة الثلاثينيات بواسطة بعض اقربائهم في الدولة! ،ولكنهم حولوها بمرور الزمن الى سلطة غاشمة عمياء،وتحول الجيش الى اقطاعيات اقرب الى صورة الجيش الانكشاري في الدولة العثمانية،وبذلك جاء سلوكهم متوقعا عندما سيطروا على مؤسسات الدولة تباعا والتي تحولت مراكزها العليا الى من ينتسب الى مناطقهم وعشائرهم رغم انعدام المؤهلات المهنية والتعليمية والاخلاقية،كما امتاز سلوك هؤلاء بالخشونة المفرطة الخالية من الدبلوماسية واللياقة والادب!.
لم يستمرالتوحد طويلا بين تلك التجمعات حتى انتصر في انقلاب تشرين الثاني1963 الانقلابيون الذين ينتسبون الى المناطق الغربية اي محافظة الانبار،رغم بقاء تواجد الاخرين في بعض مراكزهم الا ان الغلبة المناطقية كانت واضحة لهؤلاء المتسلطون الجدد!،واخذت القابهم العشائرية بالانتشار في المجتمع بشكل غريب حتى اصبح مدار للتندر الفكاهي على سوء الاوضاع في العراق وخاصة سلوكهم الهمجي المشين.
لم يبتعد ابناء الطوائف الاخرى فحسب،بل اصبحت الابادة والاستهانة بكل حقوقهم ومقدساتهم وكرامتهم وخاصة الانسانية منها الى ادنى مستوى وضيع في التاريخ الانساني!وخلالها دخل العراق مرحلة سوداء لم يعرف مدى خسائرها الا الله تعالى والراسخون في العلم.
وبأنقلاب حزب البعث الثاني عام 1968 والذي قاده مجموعة انقلابية اخرى تنتسب في الغالب الى مناطق تكريت وما جاورها وهي اكثر تخلفا وفقرا وسوءا في السلوك من رفاقهم الاخرين!،تحول الحكم الى مناطق سنية اخرى وابتعد الحكم عن المناطق الغربية وعن سنة بغداد والموصل وان كانوا باقون في امتيازاتهم التي تجعلهم مختلفين ايضا عن الغالبية العظمى المستبعدة!ولذك اصبح سلم الامتيازات والتحكم بمصير العراق خاضعا لطريقة بدائية في التصنيف تبدأ بالاسر العشائرية ثم المناطقية ثم صعودا الى منتسبي الطائفة السنية العربية،وهي تقف عند هذا الحد اما البقية من الموالين من الطوائف الاخرى فهو من صفة المرتزقة المؤقتة الذين تمنح لهم الامتيازات الهزيلة بمقدار خدماتهم وفق احتقار الجميع،سواء سلطة او بقية ابناء الشعب الذين بقوا في معارضتهم الدائمة للحكم وهي بين السلمية الى الكفاح المسلح بغية تغيير الواقع المظلم المدعوم خارجيا بفضل الامتيازات التي يمنحها الحكم الطائفي العراقي لهم حتى يحصولوا على تأييد خارجي يجعلهم مستمرين في حكم ذلك البلد المهم في خارطة الشرق الاوسط العتيقة!.
انقلاب 1968:
حاول بعض الضباط الانقلاب على حكم الفريق عبد الرحمن عارف بعد ان وجدوه مسالما او ضعيفا حسب تعبيرهم!فقرروا القيام بتلك الحركة بالتحالف مع الاحزاب السياسية بغية منح الانقلاب صفة شرعية ولو صورية وكذلك الحصول على دعم بعض المدنيين في تلك الاحزاب وبالمقابل يتم منحهم بعض المناصب في الدولة،هكذا كانت تدار الاوضاع في العراق في تلك المرحلة!.
رفضت كل الاحزاب والشخصيات مشاركة الضباط المغامرين والذين يقودهم النايف والداود،ماعدا حزب البعث الذي وجدها فرصة مناسبة للقفز على الحكم مرة اخرى بعد ان ابعد نتيجة لجرائمه البشعة التي حصلت عام 1963 ولكن من المؤسف ان من قام بتلك الاعمال الاجرامية لم يلاقي جزائه العادل! وكان في تخطيط حزب البعث وكعادته في الغدر بأصدقائه ومنتسبيه،ان قرر قبل الانقلاب ان يبعد الضابطين واعوانهما من الحكم،وبالفعل قام الجميع بالانقلاب الاسود في 17 تموز 1968 وقد استسلم بسهولة عارف،وقد ابتهج الانقلابيون بذلك ومنحوا انقلابهم صفة الثورة البيضاء لعدم اهراق نقطة دم واحدة ولكن بعد ذلك سالت انهار من الدماء والتي لم تترك اسرة بدون ضحية!،بعد الانقلاب بأقل من اسبوعين وبالتحديد يوم 30تموز جرى الغدر بالحلفاء العسكريين وتمت عملية طردهم ثم تصفية اغلبهم في المستقبل!،وعندها اكتملت السيطرة لحزب البعث الفاشي على حكم العراق في غفلة من ابنائه المخلصين،وبذلك تحول البلد الى سيطرة رجالات المافيا الذين يمتازون بالقسوة والهمجية وبمحدودية تفكيرهم ومستوياتهم المعرفية وقد اثر ذلك في ادارة الحكم والتي حولت البلاد الى مزرعة تختص بالتكارتة ومن والاهم من القرى المجاورة لها!.
تولى العقيد احمد حسن البكر(1912-1982)رئاسة الجمهورية ومنح اقربائه المناصب الاخرى ومنهم صدام الذي تولى شؤون الامن والحزب في نفس طريقة ستالين الديكتاتور السوفييتي السابق في توليه الحكم وابعاد منافسيه من وراء ستار حديدي،وقد تطابق عمل الطاغيتين في طريقة الحكم فيما بعد بصورة تدعو الى الدهشة،وهي دلالة بالغة على ان الطغاة يتعلمون من بعضهم طرق الحكم ولايتعلمون عاقبة ذلك الطريق المرعب المنافي للانسانية وعدالتها.
تعاون البكر وصدام في ادارة الدولة في المراحل الاولى،وقد كانا ثنائي مثالي يحتاج احدهما لخبرات الاخر خاصة وان صدام لم يكن يحمل اي مؤهلات دراسية او ثقافية تساعده في حكم البلاد بطريقة عقلانية،ولكن كان يحمل مؤهلات مثالية للقتل والارهاب خاصة وانه كان سجين سابق ومتهم بجرائم كغيره من البغاة الذين رافقوه في حكمه الاسود، واصبح الابرز بأمتياز في تثبيت الدولة وتصفية الخصوم بطريقة بعيدة عن كل المثل والاخلاق ومبادئ الفروسية ،بل لم يتوانى الحكم البعثي من تطبيق اخس وأنذل الاعمال بغية الاستمرار في الحكم اطول فترة ممكنة،لانه كان اجراميا منذ البداية ومستعدا لابادة الجميع! وبذلك صعب عليهم التراجع حتى لو تم الضغط عليهم منذ بداية استيلائهم الغادر على السلطة ولذلك ظهرت نتائج حكمهم الوحشية للناظر وبأبشع صورة ممكن ان يتصورها انسان عاقل.
اول اعمال الحكم البعثي كان محاربة الاسلام وابنائه بكل مايمثله من دين وتراث،فتعرض كبار رجال الدين للقتل والتعذيب والنفي والاتهام بالعمالة! منذ عام 1969 وشمل ذلك رجال الدين السنة ايضا مع المنتسبين للتيارات الاسلامية المختلفة،وبدأت حربا ارهابية ضد كل من يمثل المبادئ الاسلامية حتى ولو كانت بصورة بسيطة مثل الصلاة! وقد فقد عدد كبير من الابرياء ارواحهم نتيجة لممارساتهم العبادية تلك والتي هي بعيدة عن السياسة والتدخل بأمورها المحرمة! ولم تجري تلك الاجراءات الارهابية دفعة واحدة بل كانت متسلسلة ووفق منهاج دقيق يدل على ابداعات عقول اجرامية لاحدود لقدراتها امام التصورات الطبيعية التي من الممكن معرفتها بأعمال الاشخاص الذين يمارسون الاجرام المنظم!.
بدأت التصفيات الجسدية تصل الى رفاقهم(والقوائم طويلة لاحصر لها) وبطريقة خالية من كل مايمثله ذلك من احترام لمبادئ حزبهم المزعومة او حتى لمبادئ الانسانية بل اصبحت الرحمة كلمة مفقودة من قاموس البعثيين الذين فقدوا احترام الجميع منذ عام 1963 وقد وصلت الاستهانة بكرامة حزبهم الذي تحول الى مجرد جهاز امني بحت يفرض على البسطاء وحتى الاطفال الانتماء اليه بالاجبار!.
تميز حكم البكر لغاية عام 1979 بسيطرة الاثنان على السلطة رغم ان صدام ازدادت سلطاته عليه منذ عام 1974 حتى اجبره على التنازل عن رئاسة الجمهورية والقبول في العيش وحيدا تحت مراقبته لغاية وفاته بطريقة مريبة.
كان الحكم في سلوكه السياسي فوضويا ،فالبنسبة للسياسة الخارجية كانت لغاية منتصف السبعينات غير واقعية تماما وخاصة في الاستهانة بقدرات بلدهم المحدودة تجاه قوى كبرى قادرة على سحق العالم العربي برمته!كذلك كانت سياستهم الاقتصادية فاشلة ولا توجد في ادبيات حزبهم سوى استعارة للفكر الاشتراكي رغم اختلاف الظروف مع دول اوروبا الشرقية،ولكن بعد حرب 1973 مع اسرائيل والتي اشترك العراق فيها،فقد تغيرت الامور بعد تصحيح اسعار النفط واصبحت الواردات النفطية العراقية من الضخامة بحيث تستطيع التغطية على فشل الدولة وتحويله الى نجاح بفضل الماكنة الاعلامية العملاقة التي امتلكها في محاولة للحلول محل عدوهم عبد الناصر في زعامة العالم العربي والتي كانت صعبة عليهم نظرا لخلافهم الكبير والمزمن مع الجناح الاخر لحزب البعث في سوريا!والذي كلف البلدان الكثير من الخسائر المروعة،بينما بقيت دول الخليج في حالة قلق من حكم حزب البعث في العراق لكونه لايعترف اساسا بشرعيتها لانه كان يدعو الى الوحدة العربية الفورية وتحت قيادته! ولكن الظروف بعد نجاح الثورة الايرانية تغيرت وتحول العداء الى تحالف قوي،عندما اجتمع الجميع للوقوف بوجه المارد الايراني خوفا من انتشار الثورة ومنعا لوصول الشيعة لحكم العراق!.

ليست هناك تعليقات: