إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2009/08/19

اسطورة التغيير الفوقي - القسم الثاني والاربعون

الصراع المثالي للتغيير الفوقي في السعودية هو الذي حدث بين الملكين سعود(1902-1969) واخيه وولي عهده فيصل(1906-1975) خاصة خلال الفترة الساخنة بين عامي 1957 ولغاية عام 1964 وهو الذي انتهى بسيطرة الملك فيصل على الحكم وازاحة اخيه الملك سعود ثم نفيه الى اليونان حيث توفي هناك.
الصراع بينهما شمل ايضا افراد الاسرة الاخرين والذين ايد القسم الاكبر منهم الملك فيصل هذا بالاضافة الى المؤسسة الدينية التابعة لجهاز الحكم بينما بقي الشعب منعزلا بصورة شبه كلية عن تلك الصراعات رغم انها غالبا ماتؤثر عليه بشكل او بأخر! خاصة في الجانب الاقتصادي...
كان الصراع بينهما يختزن في مجمله اختلافا في طبيعة شخصيتيهما ورغم ان تلك الخلافات كانت منحصرة في الشؤون الشخصية وطريقة ادارة الدولة! الا ان طبيعة التكوين الفكري لكليهما هي واحدة بدون اختلاف مهم يمكن الاشارة اليه!...فالملك سعود تميز ببذخه الفاحش الى درجة اثارت استياء اخوته !(وهي صفة عامة عند افراد الاسرة الحاكمة) الذي ادى الى افلاس الخزينة حتى لم يبقى بها سوى بضع مئات من الدولارات في آذار 1958 مما جعله يعين اخيه فيصل وهو ولي العهد في ادارة شؤون الدولة بعد فشله في الادارة وهو يختلف عنه في كونه قليل الصرف على ملذاته الشخصية رغم انه متزوج من عدة نساء الا ان اخيه الملك سعود اصبح رمزا سيئا للتبذير والاهتمام بالشهوات فقد كان مزواجا الى درجة تثير الانتباه بحيث تفوق على ابيه! فقد وجد له اكثر من 111 ولد وبنت !! بالاضافة الى عشرات الزوجات(توجد اسمائهم في الانترنت فضلا عن المصادر المطبوعة)،بينما الثاني وبرغم زيجاته المتعددة(في بعض المصادر7 وعدد الابناء والبنات18)! الا انها بقيت في حدود المعقول حسب طبيعة المجتمع والدولة في السعودية المتقبلة لتلك الاعداد اما في خارجها فالحالتين نادرتين لدى غالبية الشعوب الاخرى!...اما في المصروفات فقد اشتهر الملك سعود الى درجة التبذير الفاحش في بناء القصور الخرافية او الصرف على الاتباع بدون قيود او حدود او حتى في محاربة المعارضين اللذين ينتسبون لدول اخرى مثل مصر حتى تسبب في فضيحة مشهورة تمثلت في محاولة اغتيال عبد الناصر بعدة ملايين من الدولارات عام 1958 عن طريق عبد الحميد السراج رجله في سوريا!...وقد ادى كل ذلك الى الوصول الى درجة الافلاس كونه يفوق كثيرا واردات الدولة بل وحتى مصاريفها على الشؤون التعليمية والصحية والاجتماعية مجتمعة!،ورغم محاولة فيصل وبقية الامراء تحجيم الانفاق الى النصف الا انه بقي يشكل اكثر من نصف الميزانية في حينه! . واستمر الخلاف بين الاخوين بين مد وجزر حتى انتزع الملك فيصل في غياب اخيه في الخارج كل معالم السلطة الحقيقية وجعلها بيده وبيد اخوته المؤيدين له مع تأييد رجال المؤسسة الدينية المحافظة في آذار 1964،وكاد ان يكون الصراع دمويا بسبب رفض الملك سعود التنازل المهين عن سلطاته بسبب سوء تصرفاته الا ان ازاحته نهائيا في تشرين الثاني (نوفمبر)1964 عن السلطة ونفيه الى خارج البلاد هو الذي حفظ للاسرة تماسكها من جديد كما حمى النظام من الانهيار خاصة وانه كان يخوض في ذلك الوقت صراعا دمويا عبثيا في اليمن ضد مصر واليمنيين المؤيدين للحكم الجمهوري وقد كلف البلاد كثيرا....
هذا الصراع بين الملك واخيه هو الاكثر نموذجية في استعراض طبيعة المتغيرات في الحكم السعودي التقليدي،فالتغيير الذي حصل كان على رأس سلطة الدولة فحسب ولم يشمل المجتمع ككل،وهو لم يؤدي سوى الى تغييرات طفيفة من قبيل تخفيض النفقات الى درجة كبيرة والخضوع لبعض الضغوط الدولية بغية تحسين صورة النظام في الخارج مثل الغاء الرق بصورة رسمية عام 1964 رغم معارضة المؤسسة الدينية لذلك الالغاء! وبقاءه بصورة فعلية لسنين اخرى بعد ذلك!...
لم تتغير طبيعة النظام منذ ذلك التغيير ولحد الان،فمازال الحكم قبليا شموليا بعيد عن كل انواع المشاركة الشعبية ومازال الملك هو رئيس الوزراء وله السلطات الواسعة ثم بعد ذلك لولي العهد وبقية الاخوان والاحفاد!،ومازالت نفقات الملك والامراء كبيرة وتفوق كثيرا المعدلات المسموح بها للحاكمين في كل بقاع العالم ! الا ان تضخم الايرادات المالية الناتجة من تصدير النفط بسبب ارتفاع الكميات المنتجة والاسعار منذ عام 1973 ادى الى تغطية النفقات الكبيرة للاسرة الحاكمة والموالين لها وتحويل الباقي الى اجهزة الدولة ثم بقية افراد المجتمع ! ...ومازالت السياسة الداخلية على حالها في التشدد الديني والمذهبي مع الاخرين في عالم تنتشر فيه مظاهر التسامح، ومنع كل المظاهر السياسية المعروفة مثل الاحزاب وتوزيع السلطات والسماح لمؤسسات المجتمع المدني بالعمل وايضا تقييد حرية الاعلام والمرأة وغيرها من المظاهر المعتادة من الدولة السعودية بقيت دون ادنى تغيير يمكن الاشارة اليه منذ ذلك الانقلاب الذي حصل عام 1964 وبالتالي فأن اسطورة التغيير الفوقي السعودي هي ظاهرة ثابتة وسوف تستمر هكذا الى عقود طويلة ايضا (مالم يحدث زلزال سياسي ) بسبب عدم تفهم الاسرة الحاكمة لطبيعة المتغيرات الكبرى في العالم وخاصة منذ انتهاء الحرب الباردة عام 1990 وتحكمها بأمكانيات البلاد الضخمة والتي تسهل عليها فرض كل سياساتها بالقوة او ببذل الاموال ...فالاسرة بصورة عامة هي لاتختلف عن معظم القبائل في شبه الجزيرة العربية سواء في تركيبتها المترابطة او في عاداتها وتقاليدها التي تخضع للبداوة اكثر منها لتعاليم الاسلام المتشددة في الشورى والاخلاق والزهد والمعاملات المختلفة...والاسرة الحاكمة وصلت للحكم بطريق العنف والكفاح المسلح القريب لدرجة ابادة المعارضين والمتستر بتعاليم السلفية الدينية التي ترفض التعايش مع الاخر وهو معروف من خلال تاريخ الحركة في المملكة خلال القرون الثلاث الماضية،كما ان صفات التحضر والتي تضعف فيها القبضة الحديدية للحكم ومركزيتها هي بعيدة عن البيئة في اقليم نجد الذي هو مصدر السلطتين السياسية والدينية للبلاد...ان الرهان على التغيير من داخل الاسرة الحاكمة هو خيار وهمي هزيل لايرقى الى البحث العلمي المجرد لوضعه تحت المجهر حتى يمكن استخلاص النتائج المستقبلية والتي توضع عادة لرسم خارطة التغييرات الدولية في المستقبل.
اما في السياسة الخارجية فلم يكن هنالك تغيير حتى ولو نسبي يمكن الاشارة اليه، فقد بقيت السياسة موالية للغرب الداعم لوجود المملكة على الخريطة اثناء الحرب الباردة وبعدها!.. وبقيت سياسة محاربة الانظمة القومية واليسارية العربية في طليعة الاهداف المرسومة لسياسة المملكة ثم اضيف اليها العامل المذهبي كمؤثر قوي لتسيير دفة السياسة الخارجية (الذي كان سمة النظام في داخل البلاد) بعد الثورة الايرانية عام 1979 وهو بعدا جديدا سبب الكثير من الصراعات الدموية في الشرق الاوسط خاصة في العقدين الاخيرين! وبالتالي بقيت السعودية نموذجا ثابتا في الحكم التقليدي الغير محايد في الصراعات الخارجية بل يده ممتدة الى افغانستان وباكستان والعراق ولبنان وبقية دول الخليج كما شكلت محورا محافظا يحارب لاجل ابقاء الاوضاع العربية على حالها وعدم السماح سواء للنظم اليسارية او للافكار الثورية (الدينية او العلمانية على حد سواء) بالانتشار والسيطرة على النظم والمجتمعات العربية من جديد ...الا ان الملاحظ ان السياسة الخارجية السعودية العلنية والسرية لاتخضع لمبدأ القوة المسلحة بسبب العجز السعودي التقليدي عن الدفاع عن النفس رغم الانفاق الدفاعي والامني الضخم! بل تستخدم دول وحركات وشخصيات كمرتزقة يحاربون عنها بالنيابة كما حصل في العراق اثناء حرب ايران او في لبنان واليمن وافغانستان وغيرها ماعدا الصراع الحدودي مع قطر لان الاخيرة دولة صغيرة جدا يمكن استخدام القوة المسلحة معها!...ومازال هناك بعض الانظمة العربية التي تدور في الفلك السعودي هي التي تقوم بدوره في الصراع مع الاخرين مقابل المال من قبيل النظامين في مصر والاردن....
التغيير الحقيقي في المملكة السعودية لن يكون من داخل الاسرة حتى لو اعتنق بعض الامراء المتحكمين للامور التنفيذية للافكار التحررية لان السياق العام سواء داخل الاسرة او لدى المؤسسة الدينية هو معارض لاي تغيير مهما كان نسبيا فما بالك اذا كان جذريا يهدف الى تغيير طبيعة الدولة والمجتمع! لانه يخالف اسسهم الايديولوجية الدينية والسياسية التي بنيت عليها تلك الدولة..التغيير الحقيقي يكون من خارج البنية الفوقية(الاسرة الحاكمة والمؤسسة الدينية) سواء من داخل المجتمع وهو ضعيف جدا بسبب عدم القدرة على التغيير لعدم امتلاكه كل مقومات القوة والثبات بوجه النظام بالرغم من حيازته للتأييد الشعبي الواسع!...او التغيير القادم من خارج الحدود وهو الاكثر قدرة على التغيير الجذري وهو خاضع لمبدأ التحولات الدولية المتغيرة ولكن في ظل بقاء الغرب وزعامته للعالم ثم حاجته الماسة للبترول سوف يكون بقاء السياسة الغربية ثابتة بدعم النظم المحافظة ومنها السعودية لانها الاكثر ملائمة لحفظ المصالح الغربية في المنطقة دون ادنى تهديد وحسب وجهة النظر الغربية طبعا، دون مراعاة جانب الاحتقان الداخلي والذي انفجر على داعميه بصورة عشوائية في احداث سبتمبر 2001! هذا بالاضافة الى ان انخفاض عدد السكان في السعودية وبقية دول الخليج وامتلاكها للفوائض النفطية الضخمة الذي لن يستمر اكثر من قرن اضافي من الزمن!يغطي على الاخطاء ويجعل الانفاق على المجتمع كافيا لدرجة سيادة التخدير المتزمت الرافض لمبدأ التغيير الكامل والذي هو عادة يكون لبناء الدولة والمجتمع على اسس صحيحة تستند على قوة الارادة الشعبية الحرة دون ان يكون هنالك اثر سلبي على المستوى المعيشي المرتفع او على الاسرة الحاكمة ماعدا تقليل صلاحياتها التنفيذية والتشريعية وبناء البلاد بصورة عقلانية بعيدا عن الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل او الاعتماد على الحماية الغربية التي لن تستمر مثل النفط للابد!هذا بالاضافة الى انه سوف يمنع نمو التطرف بشتى اشكاله المعروفة وخاصة التكفيرية التي تدعو الى ابادة الاخر!...مع العدل والمساواة والحرية والديمقراطية يمكن للجميع العيش بأطمئنان وسوف تتطور البلاد بصورة طبيعية بدلا من العيش مرعوبين من كل شيء خيالي يمكن ان يتصورنه....


ليست هناك تعليقات: