إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2009/02/08

اسطورة التغيير الفوقي - القسم الخامس

الانقلاب العسكري:
هو الاشهر والاكثر وقوعا كما هو الاكثر قربا احيانا من طبقات الشعب الدنيا.
يقوم عادة بالانقلاب العسكري، ضباط كبار تدعمهم قوة مسلحة تعتمد على ولاء الجنود لها بفعل التنظيم والعمل المشترك حسب الرتب العسكرية مع نظام الانضباط العسكري المتشدد الذي يفرض طاعة كبيرة تصل الى حدود غير معقولة في الدول النامية.
القوات المسلحة هي جزء فعال في بنية الطبقات الفوقية من المجتمع،وحتى لو كان جزء كبير منها يعيش كبقية طبقات الشعب الاخرى(الجنود وضباط الصف) ولكن قياداته العسكرية واتباعه للاوامر العليا الصادرة اليه تجعله بعيدا فعليا عن الطبقات الدنيا ويكون في نفس الوقت الاكثر قسوة في تطبيقه المباشر للاوامر على المدنيين.
تحاول الانظمة الاستبدادية جاهدة لجعل القوات المسلحة في افضل حال حتى لا يقوموا بأنقلاب على الدولة من جراء سوء الاوضاع المعيشية،وفي نفس الوقت تقوم بمراقبة شديدة الوطء عليهم حتى لا يغيبوا عن المراقبة الامنية الضرورية لمنع حدوث التمرد والانفلات الامني.
في الوقت الحاضر قلت الانقلابات العسكرية لعدة اسباب:
اولا:الانظمة الاستبدادية الحالية هي في اغلبها ناتجة من انقلابات عسكرية سابقة،وبالتالي تكون لديها خبرة واسعة في مجال مكافحة الانقلابات والتعرف على الخطط الانقلابية وطريقة عملها حتى لا تأخذهم على حين غرة وقبل تنفيذ مخططاتهم،بالاضافة الى الخبرة المتراكمة في الحكم والتي تجعلهم اكثر حيطة وحذر من انفلات الوضع الامني مع استخدام اقصى درجات القسوة والعنف ضد من يفكر مسبقا بعمل انقلاب،واستخدام احدث النظم التكنولوجية لخدمة النظام ومكافحة المعارضين وخاصة استخدام الاتصالات الحديثة وانشاء اجهزة امنية معقدة تراقب بعضها البعض وبناء قوات عسكرية مدربة تدريبا خاصا ومجهزة بأحدث المعدات وتكون مختلفة عن الجيش وتعمل مباشرة تحت قيادة الرئيس ونوابه،ولذلك اصبح عمل الانقلاب ونجاحه صعبا للغاية.
ثانيا: الوضع الدولي الان تغير كثيرا عن السابق،من خلال انتشار النظم الديمقراطية التي اخذت تحل محل النظم المستبدة وقد ادى ذلك الى انتشار ثقافتها الحرة،وهذا ادى الى تغير النظرة تجاه الانقلابات العسكرية بأعتبارها رجوع الى الماضي المظلم من خلال استرجاع الذاكرة التي تختزن كم هائل من الخروقات في مجال حقوق الانسان وعمليات الابادة الجماعية وقمع المعارضين والفساد الاداري وغيره من المعوقات لحدوث تنمية شاملة للمجتمع،بل انها وسيلة لمنع التحضر الانساني من النفوذ الى داخل النفوس.
ثالثا:انتهاء الحرب الباردة بين المحورين الاشتراكي والرأسمالي كان له اثره الفعال، والذي كانا يحاولان استمالة اكبر عدد من الانظمة لصالحهما بدون تمييز هل تلك الانظمة جديرة بذلك ام لا؟! ...وقد استغلت الدول النامية بالخصوص والتي تعيش تحت اشد الانظمة قمعا من هذا الوضع لصالحها في البقاء على الساحة الدولية،لا بل اكثر من ذلك حصلت على شهادة حسن سيرة وسلوك ودعم مالي هائل،كانت نتيجته وبالا على العالم اجمع،ووصمة عار في جبين المعسكرين.
لذلك نلاحظ ان الانقلابات قلت حتى اصبحت نادرة الوقوع في مناطق كانت تتميز بوجود الانقلابات العسكرية مثل تغير الفصول في السنة،ومن ابرز الامثلة على ذلك هي امريكا اللاتينية والتي كانت مضرب الامثال في حدوث الانقلابات العسكرية اصبحت الان جميع نظمها السياسية هي ديمقراطية وتتقلب بين اليمين واليسار!...واذكر الارقام القياسية في حدوث الانقلابات في بلد مثل بوليفيا وصل الى مايقارب المائتين!او منافسيها في هاييتي والدومنيكان وجزر الكاريبي الصغيرة ايضا!او في بلاد اخرى كبيرة مثل البرازيل والارجنتين،مما يدل على كونها العملة السابقة الموحدة لامريكا اللاتينية والتي رمتها في مزبلة التاريخ الى الابد،والاكثر مدعاة للفرح ان حدوث الانقلاب العسكري في هاييتي بداية التسعينات بعد ان اصبحت القارة خالية من الحكم الاستبدادي ومنها العسكري ماعدا كوبا بالطبع!،قد واجه معارضة شديدة من جميع البلدان حتى تم اسقاطه بعد بضع سنين بتدخل خارجي مدعوم داخليا.
اما في قارة اسيا فقد ابتعدت بدورها عن الانقلابات العسكرية وانتقلت دول اشتهرت به مثل كوريا الجنوبية واندونيسيا رغم اضطرابات عام 1998 والتي غيرت الحكم الديكتاتوري الى ديمقراطي ولم تبقى سوى تايلاند التي قام فيها انقلاب عسكري اخير عام 2006 نظرا لانتشار حالة الفساد والانقسام في البلاد ومع ذلك واجه رفضا داخليا ودوليا شديدا وواسعا،اما الحالة الشاذة في آسيا منذ عقود طويلة من الزمن فهي بورما المحكومة بطغمة عسكرية مستبدة منذ عام 1962 جعلت البلد ضعيفا ومتخلفا الى ابعد الحدود رغم ثرواته الضخمة وتنتهك حقوق الانسان على نطاق واسع وخاصة مع الاقليات ومعزول عن العالم الخارجي،وهي تقدم اروع الامثلة على همجية الانقلابات العسكرية ونتيجة اعمالها المنافية للتطور الانساني.
وتبقى القارة الاوروبية نظيفة من الانقلابات العسكرية حتى في بلد يحاول الانتماء اليه ويشتهر بها مثل تركيا التي تحاول التخلص من الماضي العسكري البغيض رغم سيطرة العسكر على مقاليد الامور في الدولة وتدخلهم المستمر في السياسية والناتج من تراث طويل من السيطرة العسكرية بحجة حماية العلمانية مع ضخامة حجم القوات المسلحة.
اما القارة التي مازالت تحتل المركز الرئيسي في عدد الانقلابات العسكرية فهي افريقيا،رغم اتساع دائرة النظم الديمقراطية فيها،وهي رغم الادانات الشديدة من قبل المجتمع الدولي،فأن العسكر مازالوا يجدون في الانقلابات فرصتهم الوحيدة للوثوب على السلطة والتمتع بميزاتها المثيرة مع توفر الظروف الموضوعية لنجاح تلك الانقلابات ومن ابرزها انتشار الفساد على اوسع نطاق في دول القارة مع وجود الفقر والتخلف والانقسامات العرقية والدينية الشديدة وضعف سيطرة الدولة على كامل التراب الوطني،والامثلة كثيرة في هذا المجال وآخر انقلاب كان نهاية عام 2008 في غينيا بعد وفاة رئيسها المشهور بطغيانه ببضع ساعات!!.
اما في العالم العربي فمازالت موريتانيا هي البلد الوحيد الذي حدثت به انقلابات في هذا القرن(2005 و2008) رغم نجاح التجربة الديمقراطية بعد الانقلاب الاول...اما بقية البلاد العربية فرغم عدم حدوث انقلاب عسكري فيها منذ آخر انقلاب حدث في السودان عام 1989 الا انها مازالت محكومة بنظم عسكرية او يتمتع العسكر فيها بنفوذ قوي مثل السودان ومصر وسوريا وتونس والجزائر واليمن وليبيا،بالاضافة الى موريتانيا.
رابعا: الظروف الجديدة في العالم قد جعلت من الانقلاب العسكري صعبا ،مثل صغر حجم الجيوش بالقياس الى عهد الحرب الباردة عندما كانت احجامها كبيرة جدا،فعلى سبيل المثال اصبح حجم القوات المسلحة في روسيا وامريكا نصف حجمها في الثمانينات وكذلك حذت حذوهما الكثير من الدول الاخرى،وكذلك قلة الحروب والنزاعات المسلحة بين الدول تؤدي الى جعل التطرف القومي في ادنى مستوياته مما يجعل الاسباب المؤدية الى الانقلاب ضعيفة.
رغم وجود بعض الصراعات المسلحة في العالم الا ان خطر التصادم المسلح قلت وبالتالي جعلت الانفاق العسكري منخفضا نتيجة لتخفيض عدد الجيوش وهذا سبب رئيسي في عدم وجود القدرة المسلحة للسيطرة على البلد.
خامسا: الوعي بمخاطر الانقلاب العسكري في داخل القوات المسلحة نفسها ازداد ايضا نتيجة لوجود تراث اسود ناتج من الانقلابات العسكرية السابقة من قبيل الصراعات الدموية بين المشاركين انفسهم والتي تمتد الى فترات زمنية طويلة تنتهي بضحايا كثيرين،مما يجعل الرفض في المشاركة داخل تلك الاجهزة العسكرية مانعا رئيسيا لانجاح اي انقلاب.
بالاضافة الى اسباب اخرى يمكن ادراجها من خلال الوقائع التاريخية.
التغييرات التي حدثت في المجتمعات التي تعرضت لانقلابات عسكرية كانت مآساوية ومخيبة للامال،فالطبقة العسكرية لا تختلف في منهجها العملي وطريقة تركيبتها عن بقية الطبقات الفوقية للمجتمع،ولكن هي الاسوأ من حيث استخدام المنهج الديكتاتوري في طريقة حكمها للبلد بسبب كون الاساس في بقاء القوات المسلحة في اي بلد في العالم هو الانضباط العسكري المتشدد الخاضع للقانون والذي يمنع الجدل واعطاء الرأي في مناقشة الاوامر الصادرة والتي يكون بعضها منافي لحقوق الانسان واحترام آدميته او حتى رفض المشاركة في العمليات العسكرية التي يتصف بعضها بالقذارة نتيجة القتل الوحشي للمدنيين وممارسة سياسة الارض المحروقة.
عدم تنفيذ الاوامر يؤدي الى التهلكة في بعض البلاد او الى العقوبات الصارمة مما يجعل من الصعب تغيير تلك المناهج في حالة تسلم العسكر للسلطة،ولذلك نجد ان المدنيين سواء من افراد الطبقات العليا للمجتمع او المعارضة من الاسفل في تسلسل الطبقات،يواجهون صعوبة بالغة في العمل مع العسكر بعد نجاح انقلابهم والذي يسمى غالبا ثورة! وبالتأكيد ان الثورة الحقيقية هي بعيدة كل البعد عن العسكر جملة وتفصيلا،ولذلك من السذاجة بمكان ان نرى لغاية الان عدد كبير من النخب المثقفة مازالت تتحدث عن الانقلابات العسكرية الماضية بأعتبارها ثورات وطنية!! رغم انها جرت بلادهم الى دمار وخراب مادي ومعنوي،نحتاج الى اجيال طويلة لازالته من العقول والقلوب ومناهج الحياة.
لايتقبل العسكر النقد اثناء حكمهم البلد من المدنيين،وبما ان النقد ممنوع وفق التربية العسكرية الصارمة فيما بينهم والذي يتجرء على ذلك فسوف تكون نهايته مآساوية بالتأكيد! ولذلك يطالب الكثيرين عودة العسكر الى ثكناتهم والالتفات الى عملهم الرئيسي المتعارف عليه،وهو حماية البلاد من الاخطار الخارجية،ولكن هل يلتزم العسكر بتلك الدعوات؟! ...الجواب بكل تأكيد:كلا !....

ليست هناك تعليقات: