إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2011/10/30

المبالغة والتهويل في الاداء والتقييم

المبالغة والتهويل في الاداء والتقييم:
هل ممكن لفرد او مجموعة صغيرة التحكم نظريا بسلوك وسياسات انظمة لها قدرتها الجبارة في التحكم بهذا العالم؟!...ام ان للتحكم درجات نسبية لا يمكن الاتفاق عليها؟!.
تتحكم في السلوك البشري،جملة من الطبائع المتناقضة في مركب واحد يحاول العلم ان يجد لها تفسيرات مختلفة تتطور بمرور الزمن واحيانا تنتهي بعض تلك التفسيرات الى نهاية محزنة لان الاعتقاد بصحتها اخذ حقبة زمنية طويلة!ومن ضمن تلك الطبائع السائدة هي المبالغة في الاداء والتقييم للفرد والجماعة سواء اكانت فكرا او سلوكا ونقيضها ايضا في نفس الوقت اي الاستهانة والحط من القيمة وضعف التقدير الخ !.
في الحالة الاولى اي المبالغة والتضخيم يكون الفرد في الغالب خاضعا لا شعوريا لجملة من المعتقدات والاراء والشخوص النافذة والتي يجدها قريبة منه او يحاول تجنب خطرها ان امكن!وفي المقابل فأن حالة الاستهانة والاحتقار والتسقيط والحط من قيمة الاخر تستند على جملة من الحقائق الثابتة والتي من بينها الرفض والعداء المسبق الذي يعطي للرأي والسلوك صورته النهائية بغض النظر عن صدقية الفكرة وماهية الرأي،وعليه فأن التقييم الموضوعي هو غير موجود بصورته المطلقة ولكنه موجود بصورة نسبية مما يعني ان الاستدلال على تلك الاراء يكون متفاوتا او ضعيفا ويجب الاحتكام للمناهج والوقائع التي ثبت للجميع حياديتها او عدم تأثرها بالاراء المحيطة وحينها قد يكون لتقييمه درجة معينة من النسبية الصادقة.
المبالغة والتهويل والتضخيم...الخ من الاشتقاقات اللغوية المتقاربة في المعنى والدلالة، هي قديمة من قدم التاريخ والتي تختزن كنوزه على صور متعددة لا حصر لها من الامثلة الراسخة التي تثبت مدى حجم الكارثة المروع المتمثل بالمبالغة والتضخيم اذا استبعدنا حالة الاستهانة والحط والتقليل!...وبما ان التقدم العلمي المعاصر والتحضر قد وصل مراحل متقدمة جدا بالقياس للماضي،فأن تلك الظاهرة المقيتة والتي تسود بدرجة اعلى في المجتمعات الاكثر تخلفا او المجتمعات الخاضعة لقوى خارجية وداخلية سالبة لارادتها،لم تنتهي بل مازالت موجودة مع انتشار الاعلام المسيس والمزيف والخاضع ولكن الامر يخف كثيرا في حالة المجتمعات المفتوحة والقريبة لبعضها البعض والتي تجعل من امر الاحتكام الى الاصول النقدية امرا ملحا لتفسير الظواهر وتبيان الحقائق مع التركيز على حرية الفرد وتقديسها والحفاظ على الجماعة من الاثر السلبي لسيطرة الفرد المتحكم.
المبالغة في العرض والتحليل سوف يؤدي في النهاية الى تأسيس مناهج فكرية ضعيفة المحتوى ومستندة على اسس غير واضحة او متغيرة بفعل العوامل السياسية والثقافية الغير ثابتة...او تؤسس لمرحلة مستحدثة من البناء الفوضوي الذي سرعان ما يرى ضعفه امام التحديات المختلفة في ساحة المعارك الفكرية.
يمكن كشف الحالات المتلاعب بها من خلال الاستناد الى الاصول الغير ممنهجة وفق قيود معينة،كما ان المعارضة والممانعة تكون سببا وجيها في استعراض السلبيات وتجاهل الايجابيات وحينها يمكن معرفة حجم المبالغة والتهويل وهذا من الفوائد الجلية للمعارضة بأي صورة كانت!.
تقييم الافراد!
تشكل المبالغة والتهويل حيزا كبيرا من تفكيرنا كأفراد وايضا جماعات وبخاصة اذا كانوا من مناطق بعيدة يصعب امر التواصل والتلاقح معها مما يجعلها فريسة سهلة امام الاخرين المعتنقين لنفس المنهج والراغبين في تضخيمه بغية كسب المزيد من الانصار والمؤلفين والكوادر الثقافية المتقدمة التي لها تأثير بارز في دعم اي مجموعة او الحط والتقليل من قيمتها في مسرح العقائد والافكار العالمي، تلك الصفات السالفة الذكر ترتكز اساسا في العقل الباطني والظاهري ويصعب استئصالها ولكن يمكن التقليل من درجة خطورتها اذا امكن استخدام القواعد المنطقية التي يقف الفرد حائرا في التحايل امامها.
نعم هنالك اشخاص اثروا لفترة معينة في جزء كبير من العالم والبعض منهم مازال تأثيره ظاهرا ولا يقبل المراوغة كما في حالة الحط والتقليل من اثر الانبياء(ع) والمصلحون الاخرون،كما ان الاخر ساد لفترة من الزمن قبل ان يهبط مرة اخرى بعد ان فشل التطبيق مثل فكر ماركس ومدرسته او المدارس الفاشية المتطرفة!.
ومن بين الافراد في العالم المعاصر الذين وضعت شخوصهم واعمالهم في خانة التضخيم والمبالغة هو برنارد لويس،احد كبار علماء الغرب في الاثار والتراث الفكري السياسي.
لقد طرح هذا المستشرق والباحث في التاريخ والاثار واللغويات،الكثير من الدراسات والبحوث المختلفة والتي حصلت على تقدير ممتاز لغرض الاستفادة ،وعرف عنه ايضا خصومته لبلاد الاسلام والعرب كما ان توصياته وآرائه تؤخذ في الاعتبار وتدرس وتقيم في داخل الدوائر السياسية بأكثر مما هو متعارف عليه لدى اخرين،وقد تضخمت تلك الوقائع والاراء بصورة مثيرة للانتباه بل واصبحن الشغل الشاغل للبعض! كما ان الكثير من السياسات المختلفة نسبت زورا وخطأ اليه،ولكن في الواقع ان نسبة تأثيره في الغرب ليست بالصورة التي يراد منها حصر كافة السياسات المستقبلية بشخصه بسبب وجود عدد كبير من الباحثين ومنهم المخالفين له والذين هم على اتم استعداد لبحث تناقضات النظريات التي يموت فيها البعض!.
الاثر التعليمي والاداري الذي يحدثه برنارد لويس يحد بصورة واقعية من القدرة الدعائية التي يحضى بها ضمن الصفوف الخلفية التي لم تتطلع عليه اساسا!...صحيح ان تلامذته ساهموا بشكل واضح في تقرير سياسات دولهم ومنها اخماد بعض ثورات البلاد النامية الا ان تأثيره يجب ان يكون ضمن حدود الواقعية،فأي شخص الان بالتحديد لا يستطيع بمفرده ان يقوم ضمن مناهجه المعرفية ان يحدث ثورة كبرى من التغيير السلوكي والمنهجي بسبب الثورة التكنولوجية الحديثة التي سمحت لجميع الاراء والافكار بالعمل مما يعني ان نسبة الهيمنة الفردية قد انخفضت بشكل كبير لا يمكن تصوره...نعم قد افادت التكنولوجيا في نشر الافكار والاراء لشخص ما ولكنها ضمن مشروع المشاركة العالمية الذي يقبل التعددية،وبالتالي فأنه لا لويس ولا غيره قادرين على الهيمنة الفكرية المطلقة على السلوك الغربي بسبب تشعب وتضخم مراكز الدراسات والقرار والنفوذ والثقافة الخ.
الشهرة التي يعتقد بها البعض من انه سوف يرسم خريطة الشرق الاوسط او يفرز مزيدا من التقسيم،هو لا محل له ضمن سياق التاريخ والحاضر الذي تعجز اكبر المؤسسات الامنية في التنبوء بحركته المستقبلية لغرض الترويض والسيطرة!...هذا من ناحية ومن ناحية اخرى فأن تقسيم الشرق الاوسط والعالم الاسلامي ككل قد مر عليه قرن تقريبا اي قبل ولادة برنارد لويس نفسه وسبقه في الدعوة الى التقسيم والتمزيق واثارة الفتن وغيرها زمرة كبيرة من المستشرقين ورجال السياسة والفكر في الغرب مما يعني انه لن يكون الوحيد في هذا المجال،ومن يدري فقد لا يكون لاتباعه تلك الهيمنة الموجهة للسياسة الدولية.
تشبه قصة تأثير لويس المبالغ في السياسة الغربية قصة عبد الله بن سبأ الخرافية في التاريخ الاسلامي والذي نسبت اليه كل الحوادث السياسية في فترة زمنية قياسية ومضطربة ناتجة عن سوء سلوك ادارة وصراع سياسي محتدم بين اطراف مختلفة لها قدسية،ولرفع الاتهام بالخطأ لاحد خلقت تلك الشخصية الوهمية اونسبت اليها وقائع لا يمكن لاي شخص غريب يظهر فجأة في مجتمع يعرف افراده جيدا،فيحدث ذلك الاثر الدامي في الجسد الاسلامي الا لغايات مخفية يحاول البعض التستر عليها من خلال نسج الكثير من القصص والروايات التاريخية لابعاد الشبهات او التقليل من حجم الاتهامات لمجموعة من الافراد يقدسها قطاع واسع من المسلمين!...واثر ذلك الوهم المعرفي هو ظاهر في استمراريته الى الزمن الحالي دون ان يحذف او تجرى عملية مراجعة تاريخية كبرى.
كما ان اجراء مقارنة بين تأثير لويس الحالي في السياسة الغربية وبين تأثير المدرسة الليبرالية الجديدة في الاقتصاد الرأسمالي بزعامة ملتون فريدمان،تظهر بعض ملامح التقارب...فالاخير بالرغم من تأثيره البارز الا انه ليس المؤسس او المنظر الوحيد ضمن هذه المدرسة الاقتصادية الشهيرة ذات النفوذ العريق،كما ان تلامذته والمعتقدين بأفكاره هم جزء من تلك المدرسة وقيادتهم وتأثيرهم لم يكن بمستوى تأثير الديكتاتوريات العربية في بلدانها بسبب انعدام السلطة الاستبدادية القادرة على التطبيق الاعمى لتلك الافكار! بل ان ادارتهم كانت ضمن اللعبة الديمقراطية السياسية اي ان الفترة الزمنية بقيت محدودة ضمن نطاق مجتمع حر يسمح بالتعددية الفكرية والثقافية،هذا بالاضافة الى بقاء المدارس الاقتصادية الاخرى التي تحاول ايجاد الحلول للمشاكل التي تعاني منها المدرسة الليبرالية الجديدة!وهذا يعني تداخل في الاراء والادوار ضمن ادارة الدولة والمجتمع.
لم يكن فكر برنارد لويس بمستوى العديد من الفلاسفة والمفكرين الذين سبقوه او حتى الذين جاءوا بعده،ولكن تأثيره زاد من خلال دوره وتلامذته ومريديه وبدعم اعلامي واضح وضع عليه صفات ومميزات تفوق الواقع بكثير،كما ان انتشار افكاره وآراءه هي ضمن سياق مدرسة معرفية متطرفة قديمة الجذور وينتسب اليها عدد كبير من المفكرين وصناع القرار،وهذا يعني ان نسبة حيازته الفكرية ضمن تلك المدرسة هي نسبية فكيف جرى تضخيمها الى درجة التحكم بالعالم الغربي الذي يحكمه توزيع الادوار وصناعة القرار!.
مسألة التقسيم الطائفي والعرقي في الشرق الاوسط تحديدا يعود في الاساس الى وجود تربة خصبة له من خلال هيمنة بعض القوميات والاعراق والمذاهب مما يولد صراعات دموية عميقة الجذور لا يمكن حلها ضمن سيادة الاستبداد والتخلف ومن خلال خطابات رنانة يلقيها جهلاء في الثقافة والفكر بل ضمن مناخ حر لمجتمع متطور وهو غير موجود لحد الان في العالم العربي!.
ضعف الانتساب الوطني لدى غالبية شعوب المنطقة او تطرفه لدى اقلية يعود الى عدم فهم المعاني الوطنية ضمن الابعاد الاخلاقية والانسانية المتعارف عليها،بل وضعت الاخر تحت الاقامة الجبرية لغرض الابادة البطيئة او الاذلال المستعجل!...في المقابل فأن وجود رابطة وطنية قوية ضمن مجتمع متعدد هو مانع من دخول كل الافكار المتطرفة التي يدعو اليها لويس وأذنابه ويجعلها في متاحف التاريخ للمدارس التي سادت ثم بادت!.
المبالغة في دور برنارد لويس وأداءه وغيره ليس له مكان من الدقة الواقعية ولكن في الوقت نفسه تكون الاستهانة خطأ كبيرا يؤدي الى حدوث خلل معرفي بما هو سائد من اتجاهات فكرية تقود العالم سياسيا ولو لمرحلة زمنية معينة ضمن سياق تبادل الادوار!.





ليست هناك تعليقات: