ثورة بلا حدود!
دخلت العولمة في كافة الميادين،حتى وصلت الى الثورات! وكسرت بذلك حواجز عديدة طالما كانت مقتصرة في السابق على فئة صغيرة متميزة تشترك مع فئات اخرى ثائرة ضمن حدود عامل الايديولوجيا الواسع والمثير!...وعلى هذا الاساس اصبحت الثورات الحديثة ومنها الثورة المصرية نموذجا مثاليا للثورة بلا حدود!.
لقد اصبحت القيم الانسانية المشتركة عوامل قوية ودافعة لكل فرد في ان يشترك في ثورة لا تمت له بأي صلة الا من حيث تلك الروابط الفريدة التي يتصف بها الجنس البشري والتي ازداد تأثيرها بفضل التكنولوجيا واتجاه العولمة واصبحت بالتالي العوامل التقليدية مثل الوطنية والجغرافيا والخضوع للحكم المشترك،عوامل مهمة ولكن ليست الوحيدة في ساحة الصراع،بل ضعفت نسبة بروزها في انطلاقة واستمرارية اي ثورة في عصر العولمة الجديد!حتى ظهر للجميع ان بعض الغرباء اكثر وطنية وحركية من ابناء الداخل في كلا الجانبين!.
لقد اصبح الدين واللغة والثقافة والفكر والادب والمبادئ الانسانية العامة والتي من بينها حقوق الانسان المتفق عليها،عناصر هامة في المشاركة في اي ثورة حتى لو كانت بعيدة جغرافيا! واخذت وسائل الاتصال الحديثة تلعب دورها المتميز في بلورة تلك العوامل لتشكل قوة ثورية جديدة ترهب الجميع وتدخل ساحة المعركة في الصراع الابدي بين الخير والشر،او بين الحرية والعبودية...التسميات عديدة ولكن الجوهر ثابت!.
لقد اصبح مثال جيفارا شائعا في عصر العولمة واصبح منهج المشاركة هدفا يتسابق عليه الكثيرون!.
جذور الماضي!:
لم يظهر معنى الثورة بلا حدود من العدم! بل هي حالة موغلة في التاريخ ولكن الطفرة التكنولوجية الجديدة التي ظهرت في العصر الحديث قد ساعد في درجة اتساعها بفضل سهولة الانتقال والاتصال،مما يعني ان لذلك الظهور الحديث جذورا قوية نابعة من التكوين الحضاري لكل فئة او من البناء الثقافي المتنوع لكل فرد.
لقد اشترك البشر بمختلف انتماءاتهم في العديد من الصراعات السياسية والاجتماعية والدينية...وكلما كانت العوامل الجامعة اكبر في تميزها كلما كانت المشاركة والتأييد الخارجي اكبر والعكس صحيح ايضا!.
ان اشتراك مختلف الفئات الخارجية ضمن حركة او ثورة ما،هو دليل على قوتها الايديولوجية من خلال ابرازها للعوامل المشتركة بين البشر وتقديمها على غيرها من العوامل الذاتية التي كلما كانت اقل بروزا كلما اتسعت دائرة المشاركة الخارجية،اي مسألة تناسب عكسي...وهناك مبدأ هام هو ان الاخوة الانسانية والمشتركات الوجدانية بين البشر وعلى مدار التاريخ هي من الاتساع الى درجة تجعل عامل المشاركة او التأييد يأتي ولو بعد فترة طويلة من الزمن ومن اماكن بعيدة...وهذا ما نلاحظه كمثال في ثورة الامام الحسين(ع) التي ايدها عدد كبير من المفكرين والمثقفين من مختلف اصقاع الارض وعلى مدار التاريخ نظرا لما تحمله من مبادئ ومثل انسانية رفيعة، كذلك فأن الثورات الكبرى التي حدثت في التاريخ قد شملها ايضا ذلك الحس الوجداني والمشاركة العاطفية او الروحية معها لمن فاتهم قطار المشاركة الجسدية بفعل التأخر الزمني او البعد الجغرافي...وهذا الجانب لا ينطبق على جانب الاحرار والثوار بل وايضا في الجانب الاخر وهم المكروهين بصورة عامة مثل الاشرار والمخدوعين او اتباع نفس التوجهات الفكرية المنحرفة والذين يتألمون ايضا لعدم مشاركتهم في محاربة تلك الثورات او الحركات بالرغم من سلامة اهدافها وسمو اخلاق قادتها والمشتركين فيها لانها معادية فكريا لهم!.
تظهر الرغبة في المشاركة احيانا في التدوين والتحليل لنصوص الثورات او الافكار والاراء السائدة او المنقرضة،وحينها يتم تداول تلك الاحداث او الاراء وكأنها حقيقة مستمرة وليست شيئا من الماضي،وقد يصل التنازع والخصام الى اعلى الدرجات على حوادث قديمة! وهذا دليل على وجود صراع حضاري مستمر بين كافة القوى وليس صراع مؤقت يظهر في فترة زمنية محددة دون ان يجد له سندا تاريخيا او فكريا...
الثورات والانتفاضات والحركات المختلفة هي كثيرة بلا شك،ولكن التي تجلب الانتباه عادة هي المنتصرة منها او التي تتميز بمنهج فكري يتفق عليه عدد كبير البشر او تكون وقائعها مثيرة للعاطفة او العقل او التي يقوم بها اشخاص له صفات ومميزات نادرة كالثقافة او الشجاعة او الاخلاق!.
تلك الكثرة احيانا تجعل من الصعب متابعتها كلها فضلا عن دراستها وتحليلها ولكن يبقى التركيز على تلك التي تتجاوز الحدود المحلية الى الحدود الاقليمية او الدولية.
مثال مميز!
نظرا لكثرة الثورات او الحروب التي تميزت بعالميتها او قدرتها على الجذب الخارجي،تبرز الحرب الاهلية الاسبانية(1936-1939) بين التيارات اليسارية والجمهوريين من جهة وبين الفاشية الملكية التي أيدها الجيش! والتي سقط فيها اكثر من مليون ضحية،وقد ساهمت القوى الخارجية بدعم واضح لا مثيل له، فقد شارك في جانب كل طرف منهما حكومات وحركات سياسية ومتطوعين يتبعون مناهج متناقضة وقد كان التنافس على اشده بين الطرفين حتى كادت تلك الحرب ان تصبح ميدان للصراع الدولي بل وايضا تعتبر بحق انها نقطة البداية للحرب العالمية الثانية،وقد ساعد تدفق المساعدات من الانظمة الفاشية وتخاذل الدول الديمقراطية في مساعدة الجانب الاخر لتخوفها من وجود التيارات اليسارية المتطرفة،في انتصار الجانب الفاشي الذي مارس الاستبداد لما يقرب من اربعة عقود تالية!.
لقد كانت بحق حربا آيديولوجية بلا حدود لانها تمثل مختلف الايديولوجيات المتصارعة آنذاك في العالم!.
كما يمكن ذكر امثلة اخرى عديدة برزت فيها المشاركة الاممية منها الثورة الفلسطينية والحرب الاهلية اللبنانية وحرب افغانستان وحرب الشيشان وحرب كوريا وغيرها.
الثورة المصرية: ثورة بلا حدود!
منذ انطلاق الثورة المصرية في 25/1/2011 والحدود الجغرافية قد نزعت منها تماما! واصبحت المشاركة الاممية ظاهرة الى درجة يمكن تسميتها بثورة بلا حدود!.
فقد كانت البداية ناتجة من التأثر المباشر لانتصار الثورة التونسية التي تعبر اول ثورة ناجحة في العالم العربي في العصر الحديث والتي كسرت حاجز الخوف والاستعباد منذ عقود طويلة وهذا يعني ان للعامل الخارجي دافعا قويا في كسر حواجز الملل والترقب والخوف من كل شيء!.
لم يشاع عن الثورة التونسية بالرغم من قوة التأييد الخارجي عن انها ثورة بلا حدود،لان الاحداث كانت سريعة ومفاجئة فضلا عن انتصارها السريع الذي لم يتوقعه احد! الا انها اصبحت نبراسا لكل الثورات والاضطرابات اللاحقة...بينما الثورة المصرية كانت الاجواء مهيئة لها فضلا عن الموقع الجغرافي والنفوذ العالي مع اصرار النظام المكروه عالميا على البقاء!.
العامل الاخر يظهر من خلال وجود التكنولوجيا وبخاصة وسائل الاتصالات الحديثة والتي هي في اغلبها غير محلية مما يعني وجود اهمية بالغة لذلك العامل الحيوي في انطلاقة الثورة ومن بعد استمراريتها من خلال نقل الوقائع والاحداث فضلا عن المتابعة والتحليل والتنوع اوالمبالغة والتقليل من شأنها!.
تصنيف الثورة المصرية بأنها ثورة بلا حدود تم من خلال المشاركة الواسعة سواء في داخل مصر او في خارجها من خلال التظاهرات او الاحتجاجات او نشر كل ما يتعلق بالثورة او مساعدتها بمختلف الوسائل،بل حتى النظام المصري الفاسد قد حصل على دعم من جانب الانظمة العربية الاخرى او من جانب اسرئيل بصورة علنية او دعم خفي من جانب دول اخرى قد تعمل خلاف من يشاع عنها!مما يعني اهمية المشاركة الخارجية.
لقد احتج النظام المصري من وجود عدد كبير من الاجانب والعرب ضمن الجماهير الغاضبة،وقد حاول استغلال تلك النقطة لصالحه معتبرا ان ذلك هو دليل على وجود اجندات خارجية تحاول نشر الفوضى في مصر وصولا الى محاولة الامساك بالحكم ومن ثم تحويل مصر الى دولة تابعة!...طبعا هذا المنطق الهزلي السخيف لا يمر على ابسط الناس بسبب الفساد والتبعية المذلة التي يشتهر بها حسني مبارك واركان نظامه! هذا بالاضافة الى التعويض من حالة العداء والكره الغير مسبوقة في التاريخ والتي صاحب ظهور تلك الثورة المباركة...فقد تمثل ذلك في المشاركة الواسعة في التظاهرات والاحتجاجات التي انتشرت في خارج مصر التي قام بها المصريون او المتعاطفون معهم حتى اصبحت المظاهرات الخارجية رديفة لا يمكن الاستغناء عنها للتظاهرات الداخلية! واصبحت جزءا مهما من الثورة.
ان حالة الاشتراك في الثورة المصرية فضلا عن دعمها بمختلف الوسائل والتي وصلت الى اروع الدلالات الناتجة من التضامن الانساني الخالد بينت للجميع مقدار الكره والعداء الذي يتمتع به النظام المصري ليس فقط من جانب الشعب المصري،كلا بل من جانب جميع الشعوب التي ترى حجم النكبات المروعة التي مرت على الشعب المصري وبخاصة في العقود الثلاثة الاخيرة بالاضافة الى الانتهازية المخزية التي تميز بها نظام الديكتاتور حسني مبارك واحتكاره للقرار الذي لا يعبر عن الشعب.
النظام المصري بهذا التميز الفريد من العداء الخارجي فضلا عن صفاته الاخرى المتعارف عليها،لهو اكبر دليل على مقدار الانحراف الذي يسلكه والذي ادى الى سلب كل ذرة تعاطف او احترام معه الا من الفئات الشاذة التي تسير وفق مصالحها الانية دون الاهتمام بمعاناة الاخرين!...بل حتى الحكومات الحليفة انقلبت على اعقابهاعندما رأت انه من الواجب تجنب غضب الشعب المصري والشعوب الاخرى المتضامنة معه،فصرحت بما هو معروف في ان التغيير قد حان اجله وانه من المستحيل ارجاع عقارب الساعة الى الوراء او الدعوة الى تغيير الوجوه في محاولة لركوب الموجودة او ترويضها بما يضمن عدم تعرض المصالح للخطر!.
ان المشاركة الخارجية وبخاصة الشعبية منها لم تمنعه او تحد من قوة زخمه، اختلاف الدين واللغة والقومية بل وحتى اختلاف الرغبات،ولم يؤثر به ايضا انقطاع مصر عن العالم الخارجي،بل ان صوت الثورة اصبح من الخارج اقوى وان الضغط الخارجي اصبح من القوة بحيث لا يسمح لهكذا نوع من الانظمة يفضل الابادة والارهاب بل ومنعه من تحويل ذلك الى صدور الثوار والشعب الاعزل بكل الوسائل، كما ان المشاركة الخارجية كلما اتسعت كلما بينت للعالم حجم التاثير الفعلي لتلك الثورة وانها بالفعل ثورة حقيقية تهدف الى اقتلاع جذور الاستبداد والاستناد الى المبادئ والقيم الانسانية الخالدة،كما وانه قد افشل كافة الوسائل الوضيعة التي يتصف بها هذا النظام والتي من بينها الغدر والخيانة والتحريف والتي يستخدمها لغرض السيطرة على الامور وانهاء الثورة حتى لو بالوسائل البدائية!.
ان الثورة بلا حدود هي التي ينبغي ان تكون مثالا للمستقبل يحتذى به بين الراغبين بالرفض والتصدي،لان اي تحرك داخلي اذا لم يكن مرادفا له فكر سياسي او اجتماعي او ديني واضح فأن نسبة المشاركة او التاثر الخارجي سوف تكون في ادنى مستوياتها!...
كم من الثورات اشتعلت شرارتها بفضل العامل الخارجي، بل وايضا انتصرت! ولا يقتصر العامل الخارجي على العوامل المادية بل وايضا عوامل الدين والفكر والثقافة والادب كانت دافعة لتكوين بناء تنظيمي معارض يريد الاستناد الى بنية فكرية توضح اهدافه كي يكون قادرا على المواجهة فضلا عن الادارة بعد استلام المبادرة.
ان درجة توقع نجاح الثورة بلا حدود تقيد حركتها هو اكبر بكثير من الثورة المنغلقة على ذاتها!...
والامل يبقى موجودا في كل مكان وكل زمان!.
هناك 3 تعليقات:
تحليل جميل
فإجتماع المطالب الإنسانية في بوتقة الشعب مع اختلاف توجهاته وايدليوجياته قد اجمعت مطالب الأمة العربية والإسلامية في المنطلقة انطلاقاً
من تونس ومصر
احسنت يا مهند
السلام عليكم
أحييك أخي الكريم على المقال الرائع في المظهر (اللغة) والجوهر (الأفكار التي يطرحها)..
المقال بحق عميق.. ويؤسس في رأيي لمفهوم جديد..
ومن المؤكد لدى كل متابع أن الثورة المصرية بالفعل تملك من الخصائص المميزة والانفرادات التي لم تُسبق إليها تاريخيا ما يجعلها بحق جديرة بالدراسة من قِبَل العدو والصديق...!
وقبل أن أختم أحب أن أضيف سببا آخر لجعلها ثورة بلا حدود وهو تأثيرها الذي تعدى الحدود وهو ما شاهدناه جميعا في بعض الخطوات الإصلاحية التي بدأ زعماء عرب يتخذونها تجنبا لثورات شبيهة في بلادهم!!!!
دمتَ مبدعا مع تحياتي أخي الكريم.
السلام عليكم
شكرا لك على هذا التحليل العميق والمتميز :)
إرسال تعليق