إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2009/10/21

اسطورة التغيير الفوقي - القسم السابع والاربعون

ان تحرير البلاد والشعوب من نير الاحتلال والاستعباد وبذل الغالي والنفيس في سبيل ذلك هو امر يثير الاعجاب والاشادة به ايا كان مصدره،ويبقى في الذاكرة الحية الى الابد...لكن تحويل النصر الى اداة بغية عمل نصر مشوه آخر على عدو خرافي ويتمثل بالعقيدة الدينية والاجتماعية والفكرية لشعب ما هو الا تحول حقيقي الى احتلال واستعباد اخرين جديدين لاتقل اهميتهما عن الخطر الاول ولا يقلان تدميرا عنه،والعمل الاول لايبرر مطلقا القيام بالعمل الثاني ايا كانت المبررات وقوة الحجج المستندة لها!...



الافة الكبرى للحركات السياسية والعسكرية والفكرية والدينية هي انها بعد تاريخ طويل من الجهاد والنضال في سبيل الحرية والعدالة والمساواة والانتصار على القوى الاستبدادية والاجرامية بمختلف فروعها وطبقاتها،هي انها تتحول بعد وصولها الى السلطة،الى سلطة غاشمة جديدة تتحول الى دموية تأكل ابناء الثورة في البداية! لذلك قيل( ان الثورة تأكل ابنائها!)،ويتحول الحكم الى نوع جديد من الاستبداد المتمكن والمستحكم بالمصائر،يختلف عن الاول بالفكر والاسلوب،ويتحد معه في المضمون والنتائج الكارثية التي تنتهي في الغالب الى ديكتاتورية فردية او جماعية وحشية تكون سطوتها اشد قسوة على الشعوب من الاولى التي تصبح في النهاية اسيرة لها وتتمنى الذاكرة الحية العودة الى المربع الاول برغم مساوئه! والاكثر ألما وحزننا عندما تبدأ تلك الدكتاتوريات بالتحول الى وراثة سياسية حقيقية تتميز بالخواء الفكري والاخلاقي كما حصل في كوريا الشمالية وكوبا وبلاد العرب!...


تركيا الكمالية لم تشذ عن تلك القاعدة،بل كانت نموذجا مثاليا في الديكتاتورية العسكرية حتى اصبحت حجة رئيسية للاتحاد الاوروبي لرفضه الانضمام اليه رغم التوسلات الطويلة والمستهينة حتى بالكرامة الوطنية والشعور القومي والانتماء التاريخي العريق !،وبذلك استحقت النبذ الطويل والابعاد برغم تكرار تلك المحاولات المستمرة التي طال امدها.


عمل مصطفى اتاتورك ومؤيدوه وخلفائه وحماتهم ابناء المؤسسة العسكرية الاضخم عددا في اوروبا بعد روسيا! على الغاء اي صلة لتركيا بمحيطها المجاور العربي والشرقي!، وبماضيها العريق وتاريخها الطويل،وبعقيدتها الدينية التي هي حق شرعي وقانوني وانساني للشعوب،وذلك بأستخدام القوة والارهاب والقمع الوحشي الذي طال عددا كبيرا من الابرياء الذين لحد الان لم تعاد لهم كرامتهم المهدورة من خلال اعادة الاعتبار لهم! بينما مازال الجميع يركع بوعي او بدونه للقاتل الاله الذي تحول من وطني منتصر الى ديكتاتور جديد بقي في الحكم حتى وفاته في سن مبكرة بفضل شربه المفرط للكحول وفساد اخلاقه!...


ان الدعاوى الفارغة للكماليين تتلخص بكون الدولة العثمانية وارتباطها بالشرق المسلم وصولا الى كون طريقة الملبس والاكل واللغة وكتابتها والعبادة وغيرها من الامور الشخصية والتي هي من مرتكزات حقوق الانسان الرئيسية، سببا في تأخر تركيا عن الغرب المتفوق الذي لا يعير لتلك الاشياء اية اهمية ولا يرتبط بها بأي صلة!..


فأي علاقة بين التقدم والتأخر بين طريقة كتابة اللغة التركية بالحروف العربية وتغييرها الى اللاتينية؟! واي علاقة بين طريقة لبس الطربوش ومنعه؟! او منع رجال الدين من لبس زيهم التقليدي واجبارهم على الزي الغربي او قتلهم في ابادة جماعية في امتحانات مهينة للكرامة الانسانية والعقيدة الدينية او منع النساء من لبس الحجاب واجبارهم على السفور الفاضح؟!.. بطريقة تثير الاشمئزاز والاستنكار(تصل الى حد المنع من دخول المدارس والجامعات والمستشفيات للعلاج!) ،حتى في دول الغرب العلمانية البعيدة عن الدين ولكنها تقدس الحرية الشخصية وترى فيها خطا احمر لا يجوز ابدا تجاوزه لاتوجد تلك القضايا الشكلية الخلافية التي تثير الحساسيات وتشغل المجتمعات في التفكير بأسس عقلانية للتقدم والخلاص من المشاكل الرئيسية المعاصرة من قبيل مشكلة الفقر والجهل والمرض والتلوث البيئي وعمل الثورة التكنولوجية بعد الثورة الصناعية وغيرها...


فأية علاقة بين منع الاذان وقراءة القرآن باللغة العربية وبين التقدم المزعوم؟!.


ليست تلك فقط بل ايضا الاضطهاد المستمر للاقليات في البلاد سواء العرقية منها ام الدينية بقي مستمرا الى درجة حرمان الاقليات للتعبير عن شخصيتها الثقافية المتميزة عن الاتراك بل فرض عليهم اجراءات تتنافى مع حقوق الاقليات في العالم ومنها اعتبار بعضها تركي العنصر او الاصل رغم اختلافه الكبير عن الاتراك او منعهم من استخدام لغتهم الاصلية وثقافتهم المتوارثة ولبسهم التقليدي او شعائرهم الدينية !..


هذه الاجراءات ادت الى معارضة شديدة قمعت بوحشية وسببت الآما نفسية في الجسد التركي لكونها خرق فاضح لابسط حقوق الانسان المتعارف عليها عالميا.


ادعاءات اتاتورك والكماليين من بعده، لا قيمة لها امام العقل والمنطق وتخضع لبراهين فكرية ضعيفة الدلالة والسند ،اثبت الواقع والتاريخ خطأها ،لان اساس التأخر العثماني هو الاستبداد والفساد وهما صفتان انتقلتا بحكم الطريقة في التطبيق الى الكماليين! والتحجر، ولذلك بقيت تركيا متخلفة عن الغرب بعد اجراءات اتاتورك القمعية برغم مرور قرابة قرن تقريبا على ذلك التحول القسري بينما في تجارب كثيرة اخرى تحولت بلاد وبصورة اكثر ديمقراطية وملتزمة بالحفاظ على القيم الدينية والثقافية والتقاليد الاجتماعية والحرية الشخصية ،الى دول متحضرة ومتقدمة اقتصاديا وفي جميع المجالات الاخرى على تركيا وخلال فترة قصيرة رغم تخلفها في بداية النهضة يفوق التخلف العثماني جملة وتفصيلا!...وهناك مثالا بارزا ينير طريق الحرية العقلية امام عقول وقلوب من وقعوا فريسة التأثر بالتجربة الكمالية او التجارب المقلدة لها مثل التجربة البهلوية في ايران او التجربة البعثية او تجربة بورقيبة الى اخره من التجارب الفاشلة التي ملئت الدنيا ضجيجا تبين في النهاية انها عواءا فارغا لا قيمة له من اشخاص ضعيفي الثقافة والتعلم والفهم والادراك !...


والمثال البسيط هو المقارنة بين تركيا واليابان...


فالاولى انسلخت عن محيطها وشخصيتها حتى اصبحت حائرة بغية الرغبة في اللحاق بالغرب بسرعة!،بينما بقيت اليابان بلدا متمسكا بكل دقائق الشخصية اليابانية الاجتماعية بما في ذلك المخالفة للشعوب الاخرى التي تراها تخلفا واضحا لا لبس فيه،بالاضافة الى التمسك بكل القيم الدينية والتراثية قامت بالحفاظ على روابطها الوثيقة بجيرانها رغم هدفها الواضح في التنمية السريعة بغية التفوق على الغرب!،فكانت النتيجة ان الاولى رغم انها لم يلحق بها دمار في الحرب العالمية الثانية مثل اليابان كونها لم تدخل الحرب اساسا بفضل رشوة لواء الاسكندرونة عام 1938!،فأنها بقيت متخلفة الى درجة ان الدخل الفردي الياباني يفوق التركي بأكثر من 15 مرة!! ناهيك عن التقدم الاقتصادي الذي لاينكره الا سفيه لايفهم ! برغم ان العوامل المساعدة الموجودة للتطور في تركيا اكثر منها مما موجود في اليابان من قبيل توفر المصادر الطبيعية ومساحة البلاد الكبيرة وتوفر مصادر الطاقة الرخيصة لدى الجيران ووقوعها بالقرب من اقليم ثرية او متقدمة تستطيع بأستثماراتها تطوير تركيا! كل تلك العوامل المساعدة وغيرها بقيت غير مؤثرة في الحكم الكمالي! لغاية عام 2002 وهو فوز الاسلاميين المعتدلين في تركيا بالسلطة وبدأهم منهجا جديدا مختلفا عن السابق اعطى نتائج باهرة رغم المخاطر الداخلية المحيطة بهم وخاصة من جانب المؤسسة العسكرية الكمالية المعروفة بتقاليدها القاسية وتراثها الدموي والغرب المؤيد لها قلبا والمعادي لها في الظاهر كونه يفضلها على الاسلاميين بمختلف درجاتهم! ...


التمسك بالقيم المتوارثة في اليابان لم تكن كابحا لرغبتهم في التقدم بينما اصبح التحرر من القيم المتوارثة في تركيا كابحا ومعطلا رئيسيا لتقدمها! ...وبينما تركيا اهملت التخطيط العلمي السليم للتقدم وركزت على القضايا الدينية والاجتماعية وبقيت اسيرة الديكتاتورية العسكرية وهي القضايا الرئيسية الحازمة في اي رغبة حقيقية في التطلع الى بناء مستقبل زاهر،في المقابل اليابان لم تكن اسيرة تلك القضايا الهزلية التي تلهيها عن التقدم الحقيقي،ولكنها ركزت على البناء والتخطيط ببراعة مما ادى الى اتخاذها نموذجا مثاليا للامم الاخرى والتي كانت متأخرة عنها في تاريخ الانطلاق من قبيل كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وماليزيا وغيرها فكان تلك الدول تمثل المرحلة الثانية من المجموعة الاممية الراغبة في التقدم مع الحفاظ على البناء المتوارث للشخصية الوطنية وقيمها المتميزة عن الاخرين ،وبذلك اصبحت نموذجا مثاليا للمرحلة الثالثة من دول اخرى راغبة في اللحاق من قبيل الفلبين وفيتنام والهند والصين وغيرها...بينما كانت النماذج المقلدة للنموذج التركي الممسوخ،تحصد نفس الفشل الذي حصده الاول دون النظر بعقل وروية لنتائجه والاكثر ألما ان اكثر النماذج المقلدة لتركيا هي في البلاد العربية !! ، بالاضافة الى افغانستان الشيوعية السابقة وايران البهلوية!...


لم تتخلص تركيا من الاستبداد الذي تحول من فردي(اتاتورك) الى جماعي عسكري منذ الانقلاب الاول عام 1960 الا منذ عام 2002 رغم انه مازال للمؤسسة العسكرية نفوذا قويا في الدولة والمجتمع يحاول السياسيون الاسلاميون القريبون من طريقة مهاتير محمد الناجحة في حكم ماليزيا، مكافحته وتقليص تدخله في امور الدولة والمجتمع!...


ليست هناك تعليقات: