إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2009/07/06

اسطورة التغيير الفوقي - القسم الثاني والثلاثون

هذه المواقف المسلحة الثورية للشيعة هي جاءت تطبيقا حرفيا لتعاليم الاسلام بضرورة مقاومة الغازي الذي يدين بغير ملة الاسلام الذي يدعو الى ان تكون الغلبة للمسلمين في بلادهم بلا شك،وبالتالي فأن خير من يمثل تلك التعاليم ويعمل جاهدا لتطبيقها هم رجال الدين وخاصة الطبقات العليا منهم اي المراجع والمجتهدون،الذين يحتفظون بسيطرتهم الروحية على رعاياهم،تلك المقاومة المسلحة العنيفة مع المعارضة السياسية الدائمة للحكم البريطاني لم تبقي اي تفاهم ولو هزيل بين الطرفين في ظل وجود قيادات شيعية متطرفة في عدائها مع اطراف بريطانية تقابل التطرف احيانا بليونة تدل على دهاء وخبرة طويلة او بسوء سلوك من بعض الاطراف الاخرى في طريقة الحكم وخاصة في اذلال الرؤساء المحليين ،فكان لابد من ايجاد وسيلة لمعاقبة الاغلبية على مواقفها العدائية المعلنة ولاتوجد سوى منعها من المشاركة في حكم البلاد وضمان عدم سيطرتها حتى من خلال الجانب الاقتصادي وبالتالي تسليم الحكم للاقلية العربية السنية وهي امتداد للحكم العثماني والتي تمتلك الكثير من الكوادر السياسية والعسكرية (وبعضها غير عربي او عراقي بل ينتسب لاعراق مختلفة استوطنت العراق مع اجهزة الدولة العثمانية ولكنه ينسب نفسه للعرب السنة باعتبار لهم القوة مع تطابق المذهب!)بفضل الخدمة طويلا في اجهزة الدولة العثمانية،هذا بالاضافة الى المرونة في التعامل مع السلطات البريطانية وتعهد البعض منهم في حماية النفوذ البريطاني او حتى خدمته! ولذلك وقع الاختيارعلى عبد الرحمن الكيلاني النقيب (1841-1927)وهو رجل دين كبير السن ولم يعرف عنه العداء لهم بالاضافة الى انه نقيب اشراف الاسرة الكيلانية السنية ولا يحمل ودا للاغلبية الشيعية! ليكون اول رئيس حكومة عراقية وفق المقاسات البريطانية المستقبلية لحكم البلاد وضمان السيطرة عليها وحتى يمهد الطريق لتأسيس مملكة يقودها احد انجال شريف مكة وملك الحجاز الحسين وهو الخيار المشترك الذي يدعو اليه زعماء الشيعة في ضرورة تأسيس حكم يقوم على رأسه ملك عربي بدون اي شرط ان يكون شيعيا او عراقيا! ولذلك لم يقبل هؤلاء الزعماء احد المرشحين وهو الشيخ خزعل امير امارة الاحواز رغم اعلانه صراحة انه شيعي عراقي وانه يمثل الاغلبية !بسبب دعمه الصريح للبريطانيين خلال الحرب العالمية الاولى وبذلك فقد العراق فرصة كبيرة ليس فقط في ان يحكمه احد ابنائه بل من خلال امارة كبيرة سلخت عنه واستولت عليها ايران لاحقا عام 1925 رغم ان اغلبية سكانها لايختلفون حتى في اصولهم الاسرية عن المناطق المجاورة لهم في الجانب الثاني من الحدود!،ثم في النهاية وقع الاختيار الخاطئ على الملك فيصل بن الحسين والمطرود من قبل القوات الفرنسية التي غزت سوريا وفق اتفاقيات سايكس بيكو بعد ان كان يحكمها! فكانت تلك بداية تأسيس الدولة العراقية بطريقة خاطئة لم تكن تمثل مكونات المجتمع العراقي بل وضع لمعاقبة الاغلبية فيه وبمشاركة منها ايضا!ومن قبل مجموعات طائفية وعنصرية تنتسب للاقلية العربية السنية التي لاتزيد عن 17%حينذاك!،ولم ينتج من ذلك الخطأ الكبير سوى توليد اخطاء متوالية كارثية انتهت بغزو غربي جديد! وبذلك يتحمل الجميع وبدون استثناء سواء حكومة التاج البريطاني او رجال الدين الشيعة الكبار في العراق مسؤولية الكوارث التي حدثت بعد ان تسلق على الحكم عتاة المجرمين والمنحرفين والفاسدين بسبب الاختيار الخاطئ وايضا بسبب تحريم المشاركة في الحكم ومناصب الدولة خاصة بعد اصدار الفتاوى في عام 1921 والتي اطاعها الناس مما جعل المدنيين يمتنعون عن المساهمة في بناء وطنهم كبقية الطوائف الاخرى وفي الحقيقة لم تكن مساهمة الطوائف الاخرى ايضا سوى ضئيلة ورمزية ايضا وبقي الحكم محصورا بيد ابناء الطائفة السنية العرب.
نصب الملك فيصل الاول في آب 1921 وكان عربيا سنيا لايختلف عن الحكام العرب الاخرين في شيء سوى في قلة مصاريفه المادية ومحدودية صلاحياته التي يخضع بعضا منها للنفوذ البريطاني والسياسيين الاخرين بالقياس للوضع الحالي الذي يمتاز بفضاعة الاستبداد وبشاعته رغم مرور قرن على ذلك الحدث!!.
رغم تأييد زعماء الاغلبية الشيعية للحكم الملكي الجديد ومعارضة الاكراد والتركمان في الشمال له،الا ان ذلك لم يشفع لهم في ضرورة اشراكهم في الحكم الجديد او تحسين وضعهم الاقتصادي والاجتماعي المزري وكان ان دشن الملك الجديد حكمه بنفي اول مبايع له منذ ان كان خارج البلاد من الوجهاء الشيعة! لكونه معارضا لتوجهاته في الحكم ثم تلى ذلك توتر العلاقة بينه وبين الزعماء الدينيين الذي وجدوا ان الملك الجديد اخل بشروط البيعة له وخاصة في تأسيس حكم وطني مستقل يتساوى الجميع فيه ففي اول وزارة شكلت كان نصيب الشيعة وزارة واحدة! وفي عقد المعاهدة مع بريطانيا والتي تقيد البلاد بحزمة شروط قاسية تجعلها تابعة،ثم انتخابات اول مجلس تأسيسي عام 1922 والمطالبة كانت ان يتم بعد حصول الاستقلال الكامل،وفي الحقيقة تبين اثر خطأ السياسة التي انتهجها الشيعة والاكراد في معارضة الانكليز وتأييدهم لحكم ملك عربي سني من خارج البلاد بصورة سريعة بحيث لم يترك لهم الحكم الطائفي الجديد اي هامش يضمن لهم حتى احترام انسانيتهم وزعامتهم الدينية والمحلية وتاريخهم العريق في محاربة الغزو والاحتلال،فكان على الملك والانكليز ان يقضوا على تلك المعارضة وبأيدي عراقية!،حيث رغم وجود المساوئ عن الاستعمار البريطاني الا انه غالبا ما يحافظ على الزعامات المحلية واحترام عادات وتقاليد الشعوب ولو في الحد الادنى لحقوق الشعوب الشرعية ولم يتصرفوا بطريقة قاسية تنم عن جهل وهمجية الا في حالات نادرة فحسب تقاليدهم العريقة يجب الابقاء على علاقات متباينة مع الشعوب المختلفة وزعاماتهم المحلية بغية فرض الامن والاستقرار لحكمهم وتجنب الاضطرابات التي تسبب الخسائر لهم،وبما ان الحكم الجديد في العراق يحتاج الى تثبيت ولو بفرض القوة على رجال الدين فلم يجد الانكليز من بد سوى ترك التعامل مع تلك القيادات الرافضة لهم مع الحكومة العراقية الطائفية والتي يقودها سياسيون يتصرفون بطريقة همجية متخلفة مع كل ابناء الشعب بما في ذلك زعمائهم الروحانيون وبدون اي رادع ديني او وطني او اخلاقي!.
فجرى تعيين وزير الداخلية عبد المحسن السعدون وهو ضابط عثماني سابق ارعن في تصرفاته فلم يتورع هذا من استخدام القسوة والاهانة في اعتقال كبار رجال الدين الذين كان لهم الفضل في بناء الدولة الجديدة! بسبب معارضتهم لسياسة الحكومة الجديدة،وبما ان ذلك كان صعبا فلم يجد الوزير الخائن من ثغرة سوى التعلق بعصا الجنسية العثمانية فبعض جنسيات هؤلاء الزعماء غير عثمانية التي هي اساس الجنسية العراقية المعتمدة!والسبب في ذلك هو لابعاد انفسهم كغيرهم من العراقيين عن التجنيد الاجباري في الجيش العثماني الذي يقاتل في اماكن بعيدة عن العراق في الغالب،وهي طريقة خبيثة سببت المآسي الكبرى وجرى العمل بها لعدة عقود حتى تطرد السلطة من تشاء من العراقيين وخاصة الذين اكثر منهم عراقة واصالة،فجرى تسفير المرجع الاعلى الشيخ مهدي الخالصي(1861-1925) الى ايران عام 1923،بتلك الحجة الواهية وهي حمله للجنسية الايرانية زمن الحكم العثماني وهو العراقي العربي الذي ينتسب الى قبيلة عربية اصيلة (بني اسد )استوطنت العراق منذ مئات السنين وليس مثل الملك ووزير داخليته! تلك هي من مهازل الدهر،بل وحتى لو كانوا غير عراقيين فالمجتمع العراقي الشيعي الذي هو جزء من المكون الشيعي العالمي لا يعترف اساسا بالحدود القومية والعرقية في اختيار زعمائهم الدينيين فالافضلية للاعلمية في العلوم الدينية والتقوى والورع عن محارم الله تعالى،ولكن تلك الصفات بعيدة عن السياسيين الطائفيين والعنصريين الذين يفضلون الحكم ومصالحهم الانية على المصلحة الوطنية العليا والالتزام الديني والاخلاقي والانساني! والذين تربوا في اروقة السياسة العثمانية البغيضة والتي اوصلت السلطنة الى درجة ان يطلقوا عليها الرجل المريض لعدة قرون ولم تكن محتاجة سوى الى ركلة رجل ترسله الى قبره الابدي المحتوم!.
كانت عملية التسفير الاولى للزعماء الدينيين والوطنيين قد بدأت عام 1922 الى خارج العراق وجميعهم شارك في مقاومة الغزو البريطاني عام 1914 ثم في ثورة العشرين!،ووصلت الذروة في حزيران 1923 بعد نفي المرجع الاعلى الامام الخالصي من الكاظمية وهو الذي دعم الحكم الملكي في بداياته! وعندما وصل الخبر الى المدن المقدسة في النجف الاشرف وكربلاء المقدسة،احتج العلماء الكبار وقرروا الخروج من العراق تضامنا معه بالاضافة الى تسفير آخرين.
وكان هذا التسفير هو الضربة القاضية ليس فقط للمعارضة الوطنية المخلصة الداعمة لتأسيس حكم وطني دستوري،بل لكل جهد وطني مستقبلي يبتعد عن المنافع الذاتية والفساد المستشري في صفوف السياسيين.
ورغم مواصلة المنفيين لجهادهم في ايران ضد النفوذ البريطاني والحكمين العراقي والايراني،الا ان الضغوط كانت اكبر من امكانياتهم فقرر البعض منهم العودة للعراق بعد عام واحد والخضوع لشروط الحكومة العراقية في الابتعاد عن السياسة او ابداء اي معارضة تجاه الحكم الملكي بينما اصر البعض على البقاء في خارج العراق،وبذلك يكون المجال قد اصبح مفتوحا للحكم الديكتاتوري لكي يحكم العراق بدون معارضة جادة ومنظمة ووفق مختلف الصيغ المعروفة من نخب عسكرية الى قومية حزبية والتي تشترك في عامل مشترك هوالتعصب المذهبي الذي يبقى هو الاساس في ركيزة اي حكومة مستقبلية في العراق،وكان مؤسس هذا الاستبداد بالاضافة الى الملك فيصل،وزير داخليته ورئيس الوزراء لاحقا عبد المحسن السعدون الذي انتحر لاحقا غير مأسوفا عليه عام 1929 بعد ان ترك رسالة باللغة التركية الى زوجته يصف اسباب انتحاره! ومازال لهذا الممسوخ تمثال ينتصب في احد اشهر شوارع بغداد دون ان يعرف الكثيرون حقيقته المزيفة!!بينما مازال الكثير من الوطنيين المخلصين وخاصة الذين فقدوا حياتهم في سبيل مبادئهم ،مجهولين لدى الشعب العراقي واذا كانت الحكومات الطائفية المستبدة محقة في منعها اي ذكر للمخلصين كونهم يعرونها من حقيقتهم المزيفة،فليس لدى من جاء بعد عام 2003 اي عذر في بقاء الوطنيين وخاصة الشهداء مجهولين لدى الشارع،وهذه صفة عامة تشترك بها معظم بلدان العالم الثالث ولكن تختلف من بلد الى آخر!.

ليست هناك تعليقات: