إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2009/06/04

اسطورة التغيير الفوقي - القسم الثلاثون

اسطورة التغيير الفوقي - القسم الثلاثون
من الملاحظ في هذا الانقلاب انه كان اسلامي النزعة بسبب شيوع الصحوة الاسلامية في العالم الاسلامي منذ انتصار الثورة الايرانية عام 1979 بينما كان انقلاب النميري عام 1969 يساريا لشيوع المد اليساري في العالم حينها! ولكن الحقيقة الساطعة التي لا يختلف عليها اثنان هي ان العسكر في اي بلد لا يتمسكون بفكر آيديولوجي مهما كان تأثيره عليهم وعلى الشعب والعالم،ولكن يصبغون انفسهم بتلك النظريات السائدة وفق اسباب شتى يمكن دراساتها في بحث منفصل ومفصل،ولكن اهم تلك الاسباب ان الاقتناع الايديولوجي لقادة الانقلابات العسكرية مهما كانت قوته فأن تأثيره سوف يزول او يضعف امام التربية العسكرية المتشددة والتي هي اقرب للنزعة الاستبدادية منها لاي فكر آخر عاجلا ام آجلا،وكذلك الحاجة الماسة للدعم المحلي والدولي لبناء اجهزة السلطة الجديدة وبالتالي ينبغي عليها لفترة متوسطة الامد ان تميل مع اتجاهات التيار الشعبي والرسمي العالمي !وهذا يؤدي الى نتيجة منطقية وهي أن هدف السلطة والتمسك بها هو الهدف الاسمى للانقلابيين بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية ثم تأتي بعده بقية الاهداف الاخرى والتي تكون ثانوية بالطبع تجاه الهدف الرئيسي(الغاية هنا تبرر الوسيلة).
ورغم ماقيل عن كون الانقلابيين هم جزء من بنية تنظيم الزعيم الاسلامي السوداني حسن الترابي،الان ان الاحداث بعد ذلك اثبتت ان العسكر هم من خارج التنظيم وقد يكونوا متأثرين بالتنظيم او جمعتهم الظروف الموضوعية بسبب المشتركات الكثيرة بين الطرفين او حتى وجود من ينتسبون للتنظيم بالفعل ولكن نسبتهم اكيد محدودة ولايخضعون في النهاية الا للتسلسسل التراتبي العسكري ،ولذلك فقد نشأ تحالف بين الطرفين ساعد على تقوية السلطة وتثبيتها رغم معارضة غالبية التيارات السياسية الاخرى لها،وقد اصبح الترابي الرجل الثاني في السلطة وهو كان الوجه المدني لها والمنظر الرئيسي للنظام،وهي ميزة كبيرة لنظام متخلف فاسد مثل نظام البشير يرفض كل الحلول السلمية لحل مشكلات البلاد وخاصة المشاركة في السلطة وتحويله السودان الى بلد تشغله الصراعات الداخلية عن بناء قوته السياسية والاقتصادية،ولكن النتيجة المتوقعة مهما طالت هي ان التحالف سوف ينهار بين حزب الترابي وسلطة العسكر بقيادة البشير لاختلاف الطرفين الفكري والسلوكي بينهما بصورة كبيرة رغم ان الظاهر هو المشتركات الاسلامية في السنوات الاولى من الانقلاب،فالبشير وهو نموذج للعسكري العربي تقف عقليته عند حدود ضيقة بينما يقف الترابي على ارضية صلبة من التفكير الحر المتنور والذي يستند على ثقافة متنوعة ثرية منفتحة بنيت خلال عقود طويلة من الجهد الذاتي والخبرة العملية،رغم وصمة العار التي تلفه في بناء نظام عسكري ديكتاتوري لفترة تزيد على عقد من الزمن مهما كانت غايته في الاستفادة في نشر الوعي الديني وتحويل البلاد الى حكم اسلامي متنور،ولذلك كان الفرق بينهما شاسعا ويستحيل الجمع بين المتناقضين لفترة طويلة.
وبعد مرور عقد من الزمن اطاح البشير بحليفه الترابي نهاية عام 1999 بعد ان احس بخطره على نظامه وان دعوات الترابي التنظيرية سوف تكون وبالا على النظام، وبذلك اصبح النظام عسكريا بأمتياز ليس له حليف سياسي رئيسي يمكن ان يشترك معه في الحكم،وبذلك توسعت سيطرة البشير وعملائه على اجهزة الحكم،ورغم عقده السلام مضطرا مع المتمردين في الجنوب عام 2005 الا انه واجه مشكلة اقليم دارفور والتي كانت مآساة انسانية كبيرة شارك في تأجيجها بدلا من حلها،مما ادى الى صدور مذكرة الاعتقال الدولية بحقه بأعتباره مسؤولا رئيسيا عن الابادة الجماعية في الاقليم،وهي لاول رئيس في سدة الحكم في التاريخ الحديث،وهو دليل على تقدم البشرية ولو بصورة متأخرة لتنفيذ العدالة على الجميع بدون استثناء.
ومنذ صدور تلك المذكرة رفضها البشير ومعها الاعتراف بالمحكمة ايضا في وسيلة مفضوحة للاستهانة بقراراتها والتشكيك بمصداقيتها! وهي دلالة لا تقبل الشك على تورطه بتلك المجازر الوحشية،وقد ظهرت مع الاسف الشديد وبمرارة على انعدام المسؤولية الاخلاقية والانسانية،حقيقة العالم البشعة وهو وقوف الكثيرين من القادة والمفكرين وبعض العامة الى جانبه باعتبار ان المحكمة وقراراتها سياسية وهم يتجاهلون بطبيعة الحال ان وقوفهم معه سياسي ايضا!!وسبب ذلك في نظرهم ان المحكمة اداة بيد الدول الكبرى مع العلم ان المسألة جنائية وحتى لو كانت فعلا المحكمة اداة سياسية فهي مبرر لاقيمة له لان تجاهل العدالة التي لاتفرق بين احد وآخر مهما كان منصبه مع تجاهل ملايين الضحايا والمشردين هي انحدار كبير في المستوى الاخلاقي لدى هؤلاء الذين يدعون التصدي للسيطرة الغربية على العالم!.
وقد شاهد الجميع الديكتاتور البشير وبعض اركان نظامه كيف تهستروا منذ صدور مذكرة الاعتقال بحقه، وقد غطت ملامح الخوف والرعب عليه،على مظاهر تهستره وخاصة في جولاته الداخلية والخارجية ومحاولاته المكشوفة في التقرب من الجميع حتى لو بصيغة طريقته المثيرة للسخرية في الرقص الشعبي!وهي ملاحظة مثيرة وجديرة بالاهتمام لكون اغلب المذنبين في مختلف القضايا الجنائية هم يتهستروا بالفعل اذا كانوا في متناول اليد او تحت الانظار.
ان الحال الذي وصل عليه النظام العسكري السوداني هو مؤسف للغاية،فرئيسه مطارد من قبل العدالة الدولية لثبوت جرائم نظامه الوحشية في اقليم واحد وهو دارفور فكيف في بقية الاقاليم الاخرى! ثم ان الحرب في الجنوب وشرق البلاد لم تسلط الاضواء عليها وعلى المآسي والمتسببين بها،هذا بالاضافة الى تسلطه الطويل على الحكم بطريقة غير شرعية والفساد المصاحب له،هما كافيان لاعتقاله الى المحكمة الدولية بتهم جديدة اخرى لاتقل بشاعة عن التهمة الموجهة اليه عن مآسي دارفور والتي تناساها حكام الدول الاسلامية واشغلوا شعوبهم ايضا عنها رغم انها مأساة انسانية لبشر رغم انهم مسلمون لكونهم اي الحكام متورطون في مآسي مشابهة لها في بلدانهم ،اذا لم تكن دموية وفي حجمها فعلى الاقل سياسية واجتماعية واقتصادية!.
حتى الدول التي ساندت المحكمة حاولت التفاوض معه للخروج من الازمة،ولكن يكفي قرار النظام بطرد المنظمات الانسانية وبالتالي فقدان مساعدة مئات الالاف من المحتاجين لهم،هو جريمة اخرى تضاف الى جرائم هذا النظام الديكتاتوري المتخلف والذي لو حل محله وخلال عقدين من حكمه نظام مدني نزيه لاستفاد الشعب السوداني من ثرواته الضخمة في بناء اقتصاد قوي متين يكون نموذجا للاخرين ولكن تلك الحياة تحت ظل الطغاة: عبودية واذلال وفقر وجوع وجهل وتخلف ....
في دراسة سير وسلوك الانقلابات العسكرية الثلاث في السودان منذ استقلاله،يتبين لنا ان اجهاض الحكم المدني الديمقراطي هو جريمة خيانة لاتغتفر،فهي سبب رئيسي للكوارث التي حدثت والتي سوف تحدث في المستقبل،وضياع عقود طويلة من الزمن غير مبررة اطلاقا مع سوء سلوك في الحكم،والانقلابات استندت على قوة الجيش والذي يشكل الشماليون الاغلبية في قياداته وبالتالي سوف لن يرضخوا للحكم المدني التعددي،وبذلك يكون من الاجدر بالحكومة المدنية القادمة هو منع التمييز ضمن اجهزة القوات المسلحة مع تنويعها وضم كل المعارضين المسلحين لها حتى يمكن كبح جماح الانقلابيين في المستقبل مع مراقبة شديدة له،بينما الحل الاخر والمتمثل بتقليل العدد وتقليم اضافر الجيش هو في الحقيقة غير واقعي بسبب كبر مساحة البلاد وتعدد دول الجوار والتي تختلف سياساتها مع السودان في الغالب هذا بالاضافة الى عدم استقرار الجيران شبه الدائمي،كل ذلك يفرض على السودان بناء قوات مسلحة قوية وضخمة العدد حتى تفرض السيطرة والامن على البلاد وبالتالي ان المهمة الاولى هي اعادة تأهيل الجيش وفق المهنية الحرفية ومنعه بكل الوسائل من التدخل في السياسة مع فرض اشد العقوبات على المخالفين لان للبلاد تاريخ سيء مع الحكم العسكري والذي يتعارض وجوده مع عالم حر ديمقراطي،يجعل من اهم اولوياته هي حقوق الانسان والتطور الاقتصادي،اما الانشغال بأمور جانبية اخرى مثل الصراعات الدموية الداخلية فهي دمار بكل معنى الكلمة لان الجميع سوف يكون خاسرين،بل حتى العالم الخارجي سوف يخسر مكانة البلاد في دعم استقراره ويكون مشغولا في مساعدة ابنائه واطعامهم.
الحكم العسكري هنا هو خير مثال على ان خرافة الانقاذ والتغيير وغيرها من المسميات المضحكة هي وسائل تغيير بالية بل هي خرافة لا يعتقد بها الا مكابر!
فالنظرة الاولية على اوضاع البلاد الراضخة تحت الحكم العسكري ومقارنته بالحكم المدني الديمقراطي هي واضحة للعيان بما لايقبل مجال للشك،والتجارب هي خير دليل على اثبات البرهان كما هو واقع ضمن البحوث العلمية التطبيقية،والتنظير لاثبات وجود الحكم العسكري او الدفاع عنه او عن رموزه هو كارثة فكرية للعقل البشري الذي لا يستوعب التجارب التاريخية على عدد كبير من البشر بينما يستوعب التجارب على بعض الفئران بغية كشف دواء جديد!!...
الانقلابات العسكرية في السودان لم تمنح الفرصة للحكم المدني لاثبات انه الاجدر بالحكم كون الفترات الزمنية قصيرة مع وجود الاضطرابات المتكررة في البلاد،كما ان عدم استيعاب لمبادئ العدالة الانسانية والحرية بصورة مطلقة من قبل الكثيرين حتى من خارج السرب العسكري،هو سبب رئيسي في استمرار الازمات لان مع وجود العدالة والحرية والمساواة سوف تقتنع كل الاقليات والاعراق في العيش في وطن آمن يحيا الجميع فيه،وبدون ذلك فالحروب والقتل والتدمير ودعوات الانفصال سوف تكون مستمرة الى ان يجلس العقلاء في الدولة لحلها وبصورة جذرية دائمة وليست حلول وقتية تفرضها الظروف الغير طبيعية....
ما الحل؟!...
ببساطة ان القبض على البشير وزمرته المتسببة بكل الدمار والجرائم ضد الانسانية هو الطريق الامثل لقطع الطريق على كل من تسول له نفسه في المستقبل في ان ينقلب على الشرعية الدستورية ليحكم البلاد دون الخوف من العقاب مادام السابقون يعيشون بأمن وامان! وهذا ليس فقط للسودان بل لكل بلد ايضا...
في اعتقاله هو رسالة واضحة لكل مستبد خائن لشعبه ان يكف عن جرائمه ويرحل!...وهي بالتأكيد نهاية للحكم العسكري الفاسد وبداية لحكم مدني تشرف عليه المجموعة الدولية،ولكن الطريق بعد ذلك سوف يكون صعبا لكون غالبية الجيران هم على نفس شاكلة النظام السوداني الحالي وبالتالي سوف يعملون كما عملوا مع العراق بعد 2003 في زعزعة الامن والاستقرار بغية خلق مناخ لعودة الحكم المستبد من جديد،وسوف تكون اليد الاكبر في ذلك للبلاد المحكومة منذ زمن بعيد بنظم عسكرية مستبدة مثل مصر وليبيا واريتريا،هذا بالاضافة الى بقية الجيران الاخرين الذين لهم مصالحهم الاخرى ايضا....
الاستناد الى دولة دستورية مستمدة من صندوق الانتخابات ليس سهلا ولكن هو الطريق الامثل لخلق بلد آمن ومستقر تعيش فيه القوميات والاعراق والاديان وفق قاعدة العدالة والمساواة....

ليست هناك تعليقات: