إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2009/04/22

اسطورة التغيير الفوقي -القسم الثامن عشر

3 - ليبيا:
من الدول العربية الواقعة في الشمال الافريقي،ذات حجم سكاني صغير(6.5مليون) ومساحة كبيرة اغلبها صحراء قاحلة،ولكنها تحتوى على ثروات طبيعية ضخمة.
محكومة بنظام استبدادي شمولي منذ عام 1969 وهو من اكثر الانظمة السياسية شذوذا في العالم ومن اكثرها تقلبا في المواقف السياسية التي تخضع لمزاج حاكم محدود الثقافة والفكر عصبي المزاج لايعرف له مذهب سياسي محدد،قضى اغلب عمره في الحكم وله قدره عالية على المرونة تجاه ما يهدد بقاءه في السلطة وتتمثل بقابلية عجيبة على التنازل عن المبادئ والقيم التي يدعيها ويحمل لوائها لفترة طويلة وبدون حياء او خجل ويعطي لتبرير ذلك حجج واهية يريد ان يقنع بها الاخرين على الاقل لتفسير تقلباته وخياراته .
لا احد يعرف نظاما مثل هذا النظام الغريب،الذي يختزن بداخله من التناقضات العجيبة ولايحميه منها الا القبضة الحديدية على الحكم،والتي تثير الاسى والحزن لنكبة ذلك الشعب به تلك الفترة الطويلة من الزمن والتي هي في الحقيقة خسارة زمنية لاتعوض نشأت بها اجيال خضعت لنظام محكم من الجهل والتجهيل وتحتاج الى فترة نقاهة طويلة ورعاية واهتمام اطول،كي تستعيد بعد ذلك وعيها لتمارس دورها الطبيعي في الحياة الحرة الكريمة.
استقلت ليبيا عام 1951،واصبحت ملكية دستورية يقودها الملك المسن ادريس السنوسي(1890-1983)وهو كبير ووريث الحركة الاصلاحية السنوسية ذات الطابع الديني الصوفي،وكان مؤمنا تقيا بعيدا عن المظاهر المعروفة عن الملوك العرب في الثراء والانغماس في الملذات الحياتية،بل بقي على طبيعته البسيطة قبل وخلال وبعد الحكم حتى وفاته.
كانت المملكة تنمو بطريقة هادئة نتيجة لاستقرارها السياسي وساعد اكتشاف النفط فيها عام 1959 في تطورها الاقتصادي السريع حيث كانت قبلها في حالة اقتصادية يرثى لها جراء الدمار الناتج من الحرب العالمية الثانية والتي وقعت على اراضيها،وكان تغيير الوزارات والمسؤولين يتم بصورة سلمية،وكانت متفوقة سياسيا حينها على العديد من الانظمة العربية الحالية من حيث نسبة المشاركة الشعبية وسلمية تداول السلطة ومحدودية الصلاحيات للملك.
ورغم القواعد الغربية على اراضيها والتي كانت تؤجر لهم في اتفاقيات سابقة على اكتشاف النفط لحماية البلاد من الاخطار،الا ان الدعم المادي الليبي الى المجهود الحربي العربي والقضية الفلسطينية كان في صدارة الدول العربية ولم يؤثر وجود القواعد الغربية على اراضيها على ذلك او في قراراتها السياسية.
في تلك الفترة كانت دول العالم الثالث وخاصة المستقلة حديثا،تمر بفترات من القلاقل السياسية والاجتماعية وساعد انتشار الافكار الثورية على شيوع الانقلابات والثورات والتمردات المختلفة في ظل بنى امنية وعسكرية ضعيفة،ولم تشذ ليبيا عن ذلك التي كان يوجد لديها جيش صغير لم يكن كافيا للدفاع عن البلاد المترامية الاطراف او فضلا عن النظام والامن في الداخل،مما جعل الاعتماد يكون على الحماية الغربية فضلا عن المال الاتي من تأجير القواعد العسكرية والتي يفيد الميزانية الصغيرة للبلاد،ولذلك وقع الانقلاب العسكري في الاول من سبتمبر(ايلول)1969 عن طريق مجموعة من الضباط الصغار في الرتبة والسن وكان الملازم اول معمر القذافي احدهم وعمره حينذاك 27! وكان بالطبع قليل الثقافة والدراية والحكمة كبقية زملائه وهي صفات ادت الى كوارث على البلاد فيما بعد!.
استغل الانقلابيون وجود الملك المسن في الخارج في رحلة علاج طويلة،وهي من الفرص النادرة التي تحدث للانقلابيين في شتى البقاع للقيام بمؤامراتهم للسيطرة على الحكم،كذلك ساعدت حظوظهم في عدم وجود مقاومة ذات شأن من قبل السلطات وعدم تدخل القوات الاجنبية،مما ادى الى شيوع الكثير من الشبهات والظنون على ذلك الانقلاب المريب وطريقة التخطيط والتنفيذ،ترقى الى جهة الاتهامات والتي فضحها عدد من المشاركين الذين اما هربوا من التصفيات الداخلية او من جراء تأنيب الضمير،فهذا الانقلاب حاول ان يمنح لنفسه صفة الوطنية من خلال انهاء وجود القواعد الاجنبية والتي كان من المقدر ان تنتهي عقود التأجير بعد اقل من سنة ونصف!مما يعني عدم وجود اي داع لانهاء عملها او لعمل ضجة اعلامية مكثفة حول اخراجها من البلاد!.
سيطر الملازم اول القذافي بعد فترة قصيرة على الحكم،ومنح نفسه رتبة العقيد التي يحتاج لها سنين طويلة من الدراسة والتدريب والعمل لكي يصل اليها،كما منح مساعديه واعوانه رتب عالية وبالطبع اقل منه حتى يضمن له السيطرة على البلاد من خلالهم وهي وسيلة يعتاد عليها الحكام الجدد في كل مكان وزمان.
بدأ نظام الحكم الجديد عمله كما هو معروف في الانقلابات التي تنجح في تسلم الحكم،في تنفيذ مراحل تثبيت سلطتها التي تكون دموية في الغالب من خلال البدء في المرحلة الاولى المتمثلة بتصفية اركان النظام السابق،ثم تتحول الى المرحلة الثانية وهي التصفيات الداخلية بين القائمين على نجاح الانقلاب نفسه! والتي تنتهي عادة بسيطرة العنصر الاكثر والاسرع استخدما لعناصر القوة والخبث والسرعة في الغدر والخيانة واستمالة الموالين والمترددين.
ولذلك لم يتأخر القذافي وزمرته في دمج المرحلتين بسرعة كبيرة،مما جعل تصفيات اركان النظام السابق تتزامن مع تصفية المنافسين له من الانقلابيين،وكانت التصفيات من القسوة جعل البلاد بعد ذلك تخضع للارهاب الحكومي المنظم ومازال الارهاب على شدته بنفس القسوة التي بدأ بها والتي يستحيل تصور نجاح ثورة شعبية او انقلاب مادام الخوف يسيطر على الاغلبية الصامتة،وطريقة الارهاب ليست سرية،بل علنية ويعرفها الجميع ان تكون رادع للذين يحاولون تغيير الاوضاع،او تجعل المستضعفين يسيرون بطريق حياتهم وعيونهم الى الاسفل دون الالتفات الى الوراء او النظر الى الامام لرؤية من يقودهم!.
خلال اربعة عقود من حكم القذافي والتي وصلت ايرادات البلاد النفطية الى ارقام فلكية تزيد في تقديري على 600 مليار دولار لشعب وصل تعداده الى مايزيد عن 6 ملايين،كان من المفروض لو انفقت بطريقة علمية مسؤولة ان تجعل البلاد متقدمة اقتصاديا ويكون لديها فائض مالي هائل،وهذا امامنا نموذج النرويج التي يصل عدد سكانه الى 4.8 مليون والذي بدأ انتاجه النفطي من بحر الشمال،منتصف السبعينات من القرن الماضي،ولكن نظرا لوجود حكومات ديمقراطية منتخبة،تحرص على مصالح شعبها وتنفق بعقلانية،ومع محدودية مواردها النفطية بالمقارنة مع ليبيا التي تمتلك من الاحتياطي الضخم(42 مليار برميل بالمقارنة 10 مليار للنرويج) وانتاج قليل الكلفة وجودة عالية لنوعية النفط ومنذ فترة اطول،نرى ان النرويج وصل دخل الفرد فيها الى حوالي 102 الف دولار عام 2008 وفق تقديرات التقرير السنوي لوكالة الاستخبارات المركزية الامريكية والمنظمات الدولية الاخرى،بينما وصل في ليبيا ولنفس العام الى 14 الف دولار دون نسيان ارتفاع اسعار النفط بشكل جنوني،ولولا ذلك لكان دخل الفرد اقل بكثير!،ومن هذه المقارنة البسيطة يمكن ملاحظة نتائج النظامين الديمقراطي والاستبدادي في البلدين واستبيان الافضل للشعبين،مع ملاحظة وجود الملكية الدستورية في النرويج.
مازالت ليبيا لحد الان تعتمد على الشركات الاجنبية في التنقيب والانتاج والتكرير،وبذلك تسقط دعاوى التأميم الفارغة والاعتماد على الذات،وكان من الممكن بناء قاعدة صناعية وعلمية متينة خلال تلك العقود تكون قادرة على ادارة مثلى للصناعة النفطية في البلاد،ومع ان الانتاج النفطي الليبي الحالي يفوق الحاجة المحلية بشكل كبير،الا انها خفضت الانتاج بشكل كبير بعد الوصول الى قمته في عام 1970،هذا بالاضافة الى عدم وجود تصنيع للنفط الخام والغاز الطبيعي الا بنسبة ضئيلة للغاية لاتتناسب مع ضخامة الانتاج وحاجة السوق العالمية،ولو وجدت لوفرت فوائض مالية للبلاد.
انشغل النظام الليبي الحالي في بناء اجهزة عسكرية وامنية منذ تسلمه الحكم،وانفق بسخاء كبير يصل حد التبذير على انشائها وتطويرها ولكن لم يصل بها الى حد القدرة الكاملة عن الدفاع عن البلاد!،نظرا لمحدودية عددها رغم امتلاكها لمعدات حديثة يفوق حاجتها البلاد الطبيعية او القدرة على الاستخدام،واذكر هنا الجنون في حمى شراء الاسلحة بعد ارتفاع اسعار النفط عام 1973 ومنها الطائرات التي لم تصل القدرة الليبية على تشغيل سوى ثلثها فقط!مما جعل المعدات بمرور الزمن تنتهي قدرتها وفعاليتها وتصبح خردة قديمة،وكان الاتجاه الاخر نحو اسلحة التدمير الشامل مثل الاسلحة الكيمياوية والبايولوجية والنووية والصواريخ بعيدة المدى،ولكن الامكانيات الليبية التقنية بقيت حائلا دون الاستفادة منها سواء في التشغيل او ردع الاخرين،وجاءت الرغبة في الخروج من الحصار الغربي عليها والخوف من تعرضها الى غزو مشابه للعراق، فقررالقذافي تدميرها بشكل كامل والغاء كافة البرامج الدفاعية بعد القبض على صدام ببضعة ايام فقط بل حتى تسليم كافة الوثائق وتدمير الصواريخ التي لاتخضع للمطالبة الغربية!،وكان يتوقع مكافئة كبيرة من الغرب على ذلك حتى انه دعا بطريقة مضحكة بلاد اخرى مثل ايران وكوريا الشمالية الى اقتفاء اثره،ولكن الاحباط له جاء سريعا نظرا لتجاهل الغرب مكافئته وقد اعترف بذلك!.

ليست هناك تعليقات: