إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2009/02/04

اسطورة التغيير الفوقي - القسم الرابع

اخطر الطبقات الفوقية واكثرها تدميرا للمجتمع هي الطبقة المسلحة(العسكرية والامنية)،ومن خلال تقسيم هؤلاء وفق عملهم يمكن الاستنتاج ان اكثر هؤلاء خطرا هم الطبقة العسكرية وبعدها يأتي الطبقة الامنية وهي التي تراقب الطبقة السابقة بحكم وظيفتها حماية الدولة والمجتمع من الانقلاب العسكري والاضطرابات الشعبية. ويعود التقدير النسبي للخطورة الى عدة اسباب: اهمها هي كبر حجم القوات العسكرية وصغر حجم القوات الامنية،وهو عامل رئيسي في المسألة،كذلك ان القوات العسكرية تعمل بشكل جماعي ضمن تصنيفات عسكرية(مثل فرقة ولواء) ومدربة تدريبا قاسيا، بينما اغلبية الاجهزة الامنية تكون تصنيفاتها صغيرة الحجم ومشتتة على نطاق واسع من البلد،وثالثا تكمن قوة الاجهزة العسكرية في قوة امتلاكها للاجهزة الثقيلة بينما تكون الاجهزة الامنية محرومة منها كون اعمالها في الغالب استخبارية وتحقيقية وفرض الامن على بقية افراد الشعب،والمعدات الثقيلة المقصودة هنا هي الدبابات والطائرات والسفن الحربية والمدافع وغيرها،ويكون دورها فعالا في سهولة السيطرة على البلد او في محاربة الاعداء في الخارج،بالاضافة الى قرب الاجهزة العسكرية من بقية افراد الشعب كون ان عملهم الرئيسي هو حماية البلد مع معيشتهم البسيطة القريبة من الطبقات الدنيا من المجتمع وخاصة في حالة وجود التجنيد الاجباري الذي يكون فرصة كبيرة مثالية لعدد كبير من الناقمين على الدولة ضمن صفوفه والذين لا يحصلون على مخصصات كافية،بينما في المقابل تكون معيشة الاجهزة الامنية افضل بكثير كون ان الدولة تعتمد في بقائها عليهم وبالتالي ضرورة الحفاظ على ولائها للدولة من خلال صرف المخصصات الكبيرة وتوفير كل مستلزمات المعيشة الضرورية حتى لايحدث التذمر من سوء ظروفها المعيشية،مع غض النظر في بعض الاحيان عن استغلالهم لمناصبهم في كسب مادي ومعنوي اكبر من عامة الشعب.
العامل الاخير والاكثر خطورة في عمل الاجهزة الامنية هو احتكاكها مع القوى المختلفة للمجتمع وخاصة السياسية منه،ومن جراء عملها هذا،خلق بينها وبين بقية افراد الشعب حالة من العداء العلني المستحكم وخاصة في ظل استخدام تلك الاجهزة لكل الوسائل الهمجية والوحشية في سبيل فرض القانون والنظام على المجتمع،وبالتالي اصبحت بصيغة او بأخرى،سوطا بيد الحاكمين،ولذلك نجد ان اغلبية الذين يسقطوا ضحايا النظم المستبدة هي من خلال الاجهزة الامنية ثم تأتي بعدها بفارق كبير الاجهزة العسكرية.
الاسباب السابقة وغيرها من اسباب اخرى،ادت الى ضعف الانقلابات الامنية وقلتها كون ان المجتمع يحمل حقدا او عداءا غير مستتر على عملها وبالتالي يكون من الصعب عليه تأييد جلاديه اذا قاموا بعمل مضاد للدولة،لان الذاكرة الشعبية لا تمحو بسهولة خروقات تلك الاجهزة الامنية بحقها خاصة في حالة عدم تطبيق العدالة او في محاربة العمل السياسي،ولذلك غالبا ما يستبعد العاملون في تلك الاجهزة القيام بحركة معادية الا اذا عرفوا ان النظام يحتاج الى تجديد زائف للحفاظ عليه مع ضرورة خداع الشعب لكسبهم وقتيا بغية الاستفادة من عامل الوقت لتثبيت اسس النظام التي تكون في البداية ضعيفة البنية.
عملية القيام بحركة مسلحة لتغيير النظام من خلال الاجهزة الامنية وهي احد طبقات المجتمع الفوقية الحاكمة،يحتاج قوة مسلحة كبيرة للسيطرة على اجهزة الدولة المختلفة،تعجز عن تجميعها لانها بسهولة يمكن ان تكتشف من قبل النظام بينما على العكس من ذلك،يسهل على الاجهزة العسكرية تجميع المعدات الثقيلة والافراد لكون عملهم يتطلب ذلك،ولذلك نرى ندرة الانقلابات الامنية بينما تسود حالة الانقلابات العسكرية.
الانقلابات الامنية في حالة حدوثها، لاتعتمد بصورة رئيسية على القوة المسلحة الا بعد تحالفها مع قوى عسكرية اخرى لكونها كما اسلفنا عاجزة عن تهيئة القوة اللازمة لتغيير الاوضاع،ولكن في الغالب تستخدم القوى الامنية خبرتها المعروفة في الانقلاب من خلال اجراءات بعيدة عن استخدام كثيف للقوة،مثل عمليات الاغتيال لكبار المسؤولين البارزين والتي اذا نجحت فسوف يؤدي الى حدوث خلل وفوضى في الدولة تسهل لبقية المتآمرين الدخول من خلالها لفرض الهيمنة على الدولة،او في حالة اعتقال القادة الكبار وتصفيتهم بعد ذلك،وغيرها من الاساليب الامنية التي تحاول القوى السياسية المعارضة تطبيقها لغرض تسلم الحكم...ذلك يعني ان استخدام وسائل الخداع والمكر والايقاع بالخصوم في امكان تواجدهم وتصفيتهم او اعتقالهم،هي من الاساليب الشائعة لديها.
نجاح الانقلاب الامني هو ضرورة قصوى للمتآمرين للحفاظ على بقائهم على قيد الحياة،لكون ان الدولة سوف تسحقهم بسهولة خاصة في ظل كره شعبي واسع لهم،وبالتالي مجال المناورة لديهم محدود جدا.
في حالة نجاح الانقلاب الامني،هل يحدث تغيير كبير في المجتمع حتى في ظل رغبة صادقة لبعضهم فعل ذلك؟...
الجواب بكل تأكيد كلا!!...لان طبيعة سيرة وسلوك العاملين في الاجهزة الامنية،هي مختلفة كليا عن طبيعة سيرة وسلوك القوى السياسية المعارضة الراغبة في احداث تغيير جذري في المجتمع. يخضع سلوك العاملين في الاجهزة الامنية الى ضوابط قاسية تسبقها حالة من الفرز المتشدد في قبول عمل المنتسبين الجدد اليها ويكونوا في الغالب من نفس الطبقة الحاكمة سواء دينيا او مذهبيا او عرقيا او حتى مناطقيا! لان رابطة الدم والعقيدة من الروابط القوية التي تمنع الانقلابات الداخلية.
كذلك ان عمل المجموعة الامنية الواحدة يجعل من الصعب على فرد او اكثر احداث تغيير جذري بعد تسلم الحكم،لان العلاقات المتشابكة والخوف المتبادل الممزوجة بالريبة والشك بالاضافة الى التاريخ الاسود لكل شخص منهم يجعل مهمة المصلح المفاجئ صعبة للغاية اذا لم تكن مستحيلة.
في حالة نجاح الانقلاب الامني،يمكن رؤية الضبط الامني في اعلى مراحله كون القادة الجدد هم اصحاب السلطة الامنية السابقة ونظرا للخبرة التي يحملونها فسوف يكون الامن مستتب في اعلى درجاته،وسوف يكون هنالك تضخم في حجم تلك الاجهزة كما سوف تكون صلاحياتها اكبر بالنظر الى تسلق منتسبيها للمناصب الرسمية والتي سوف تدار بأسلوب امني بحت،بالاضافة الى الاجهزة السابقة.
لكن هل الامن يكفي؟...الجواب :كلا بكل تأكيد!...
البلد يحتاج الى كل شيء واهم شيء هو الحرية السياسية ،ولذلك فأن اي انقلاب امني مهما كانت دوافعه فسوف يكون في اقصى حالات العداء للتيارات السياسية بسبب الخبرة السابقة المستندة على عداء لاحدود له بين الطرفين وخاصة اذا كانت ايدي تلك الاجهزة ملطخة بدماء الابرياء من الحركات السياسية،وحتى لو فرضنا ان الانقلاب الجديد سوف يعفو عن المغضوب عليهم ويسمح بهامش حرية اكبر في بداية المراحل الاولى من الانقلاب،فان الانقلاب على الاعقاب سوف لن يتأخر كثيرا!! وسوف تعود السيرة الطبيعية للسلطة الجديدة الى سابق سلفها،وسوف نرى ان كل ماحصل هو مجرد لدعم السلطة الجديدة وتحسين صورتها امام الرأي العام،وبذلك تكون غير محتاجة لسلسلة الاصلاحات الشكلية مادام الامن قد استتب لها،وان العمل من اجل الوطن وفق رؤيتهم بدأ بدون خونة من اصحاب الاراء المخالفة!!.
ولهذه الاسباب نستنتج من ان الانقلاب الامني هو خطر على البلد من خلال تسلم اشخاص قضوا شطرا كبيرا من حياتهم في محاربة المعارضة وخدمة الانظمة السابقة وبالتالي صعب جدا تغيير سلوك هؤلاء حتى لو مرت على تسلم سلطة ديمقراطية السلطة التي تكون بحاجة لخدماتهم! لان البلد يكون في حالة انتقال جذري من الديكتاتورية الى الديمقراطية وبالتالي فأن تدريب العاملين في الاجهزة الرسمية السابقة على ضرورة احترام حقوق الانسان مهما طالت مدته فأنه لن ينفع لسببين رئيسيين اولاهما ان التغيير في السلوك الانساني بحاجة الى فترات زمنية طويلة حتى يمكن مشاهدة اثره وخاصة بعد سن الشباب،فما بالك اذا كان العاملون في اجهزة قمعية لها تراث طويل من الدفاع عن دولة الاستبداد! فبالتأكيد النتيجة سوف تكون سلبية...اما السبب الاخر فهو المجتمع نفسه لن يتغير بسهولة ولذلك نجد ان الامم السباقة في الديمقراطية واحترام حقوق الانسان بالاضافة الى الترسيخ في التراث الشعبي،هي الاكثر نجاحا في التطبيق من الامم التي دخلت متأخرة في الطريق...الامثلة كثيرة ومنها ان بريطانيا متفوقة على المانيا مثلا في التطبيق الديمقراطي والاخيرة بدورها متفوقة على امم اوروبا الشرقية التي انتقلت الى الديمقراطية التعددية منذ عقدين فقط من الزمن...هذا يؤدي الى انتقال احترام الحريات الى كافة اجهزة الدولة وخاصة الامنية منها.
يمكن قراءة بعض الامثلة على ذلك ومنها حالة الانقلاب الامني لزين العابدين بن علي على رئيسه الذي فقد السيطرة العقلية من جراء الشيخوخة،الحبيب بورقيبة في 7\11\1987 وكان للرئيس الجديد خبرة طويلة في الاجهزة الامنية التونسية المعروف عنها وحشيتها وشدة قمعها لمختلف التيارات السياسية،ولذلك فأن النظام الجديد بأجراءاته الشكلية التي تصاحب عادة كل نظام جديد من عفو واطلاق مساجين وفسح المجال للعمل السياسي والصحافة الحرة وغيرها،يكون من خلال القراءة المستقبلية التوقع ان الانقلاب على الاعقاب لن يتأخر،ولذلك فأن الكثير من السذج الذين لا ينظرون للمشكلة نظرة نقدية بحتة،سوف يصدقون تلك الاجراءات والغريب في الامر كما في حالة المثال التونسي ان الكثير من ضحايا النظام هم يصدقون ويطبلون لتلك الاجراءات والتي لم تستمر سوى سنتين فقط حتى رجعت الامور الى سابق عهدها ومازال الرئيس الجديد يحكم البلاد بقبضة حديدية ناتجة من خبرة طويلة في السلك الامني منذ اكثر من عقدين!.
خلاصة القول ان اسلوب الانقلاب الامني هو لن يغير من الامور شيئا سوى تغيير الوجوه التي اعتادت على التجهم!..وبما ان الاجهزة الامنية هي جزء هام من السلطة الفوقية،فأن اسطورة تغيير الواقع من خلال الفوق الطبقي هي واقعة لا محالة وهو وهم ثابت لا يتغير بتغير الاماكن والازمان...

ليست هناك تعليقات: