ثروة الارض -الحلقة الثالثة
يشترط في الانتاج ان يكون ضمن حدود الجدوى الاقتصادية،اي ان العوائد المادية يجب ان تكون اعلى من تكاليف الانتاج والتصنيع،وكلما كان الفارق عاليا كلما ازدادت الرغبة الانتاجية والعكس صحيح ايضا،والرابطة بين الانتاج والعائد ليست طردية او عكسية بالمعنى الدقيق ولكنهما يلتقيان في نقطة حرجة تتساوى فيها التكاليف والعوائد ثم يبدأ العد التنازلي عندها يصبح الانتاج مسببا لخسائر يمكن الاستغناء عنها اذا توفرت مصادر اخرى ارخص ولذلك نرى ان البضائع الصينية قد سادت العالم عندما نافست البضائع المحلية في عقر دارها وبالطبع سوف لن يستمر الرخص الى مالانهاية كما حدث سابقا مع المنتجات اليابانية ومن ثم الكورية والسنغافورية وبقية النمور الاسيوية التي سبقت الصين بالانتاج الرخيص!...من هذا المنطلق يمكن القول ان العائد الاعلى يكون سببا في تأخير استثمار الكثير من المناطق الجديدة او الاقل عائدية لان الدول والشركات الخاصة تبحث عن الارخص والاسهل والاكثر عائدية في انتاج الثروات الطبيعية،ولذلك نرى ان الانتاج يبدأ غالبا في مناطق يسهل على المنتجون الوصول اليها او بأستخدام وسائل تكنولوجية اسهل وعندما يبدأ الانتاج في التضاؤل نتيجة نفاذ الاحتياطيات تبرز الحاجة هنا الى البحث عن مناطق جديدة قد تكون اكثر ثراءا من الاولى ولكن التأخير في الوصول اليها يعود لتوفر الانتاج في مناطق مكتشفة سابقا،مما يعني ان الخسارة سوف تنشأ اذا تمت عملية البحث في ظل توفر الاحتياطيات الكاملة التي تفيض عن الحاجة لفترة طويلة...وهنالك نقطة هامة ينبغي التأكيد عليها وهي ان البحث والتنقيب ومن ثم الانتاج والنقل...هي امور مكلفة جدا وبالتالي ليس من السهولة انفاق اموال هائلة في البحث عن مصادر متوفرة بالفعل وقد تكون خارجية،ولذلك فأننا نرى ان البحث عن الثروات الطبيعية في الدول المتقدمة لم يكن بالجهد المساوي للذي قامت به شركاتها العملاقة في البحث والانتاج في الدول النامية،بل هي تنظر لمسألة الجدوى الاقتصادية ومدى قوة الفائدة بدقة يجعلها تستغني بسهولة عن مصادر مكلفة حتى لو كانت ضمن حدودها الوطنية!...
ويمكن استعراض الكثير من الامثلة النموذجية على ذلك،من قبيل بحر الشمال المقسم بين بريطانيا والنرويج(في حالة اهمال القطاعات الاخرى الاقل اهمية)... فهذا البحر يحتوي قاعه على ثروات طبيعية من ضمنها البترول والغاز الطبيعي،ولم يتم استثماره الا في عقد الستينات ولم يبدأ الانتاج الا في بداية السبعينيات عندما اشتدت الحاجة الى البترول وارتفعت اسعاره بشكل ملحوظ،كذلك فأن الاقتصاد البريطاني كان يمر بمرحلة ركود طويلة يحتاج للخروج منها الى موارد مالية كبيرة وبالتالي اشتدت الحاجة الى انتاج النفط من بحر الشمال،وكلنا يعرف ان البحث عن الموارد النفطية من جانب بريطانيا في مستعمراتها ماوراء البحار كان قبل عملية البحث في بحر الشمال بقرن تقريبا! وكانت منطقة الشرق الاوسط واحدة من تلك المناطق التي بذلت مجهودا للسيطرة عليها بغية الاستفادة من النفط الموجود بالقرب من سطح الارض،بينما احتاجت الى عقود طويلة من الزمن حتى استطاعت تطوير تكنولوجيا قادرة على الوصول الى انتاج النفط بكميات تجارية من اعماق كبيرة مع ارتفاع اسعار النفط التي كانت كفيلة بتغطية تكاليف التنقيب والانتاج والنقل والتكرير،وقد ارتفع الانتاج الباهض التكاليف بشكل كبير بعد عام 1973 عندما ارتفعت اسعار النفط في العالم،واستطاع الغرب من خلال الاستنزاف الكبير للموارد النفطية في بحر الشمال وايضا في الاسكا شمال الولايات المتحدة من تخفيض نسبة مساهمة منظمة الاقطار المصدرة للنفط(اوبك) في السوق العالمية منذ بداية الثمانينات حتى انهار سعر النفط عام 1986 وكانت مساهمة بعض البلدان المصدرة في عملية الانهيار واضحة من خلال المنافسة على الانتاج ضمن سوق عالمية بدأت في تقليص استهلاكها! وعندها اصبح الانتاج من بحر الشمال مكلفا مما ادى الى وصول العائد المادي الى ادنى مستوى له،ولم تجري عملية تخفيض كما هو معروف في مثل تلك الحالات! بل استمر جنون الانتاج حتى تم استنفاذ غالبية احتياطيات بحر الشمال(4 مليار برميل في الجانب البريطاني و10 مليار في الجانب النرويجي الان 2010) وكانت الحالة اكثر سوءا في القسم البريطاني منه الذي وصل الى اعلى مستوى انتاجي له عام 1999 وقارب 2.9 مليون برميل يوميا،وبعدها اخذ الانتاج بالانحدار الشديد حتى وصل الى اقل من نصفه بعد عقد من الزمن،اي 1.4مليون برميل! ولكن ينبغي ملاحظة ان الاقتصاد البريطاني استفاد كثيرا بحيث ارتفع متوسط دخل الفرد من حوالي نصف دخل الفرد الامريكي عام 1977 الى اكثر من 80% الان...
للاسباب الانفة الذكر نرى ان الكثير من الدول النامية الفقيرة التي لا تملك الموارد اللازمة للبحث عن مواردها الطبيعية ولا ايضا التكنولوجيا الباهضة الثمن التي قد تساعدها اذا احسنت الاستفادة منها في تنمية اقتصادياتها المتهالكة،تنتظر طويلا حتى تأتي اليها الاستثمارات الاجنبية التي تساعدها على التنقيب والانتاج مع ملاحظة العامل المهم في بناء اي اقتصاد وهو الامن والاستقرار الذي تفتقده غالبية الدول النامية التي تعيش في ظروف غير ملائمة للنمو الاقتصادي السريع الذي يحتاج الى الشفافية كي تساعده على جذب الاستثمارات الاجنبية والمحلية..
من قراءة الوضع العالمي نرى ان بعض الدول قد ساعدها الحظ قليلا في اكتشاف ثرواتها الطبيعية والبعض الاخر بقي جاهلا لما تحتويه ارضه التي يشاع عنها قلة الموارد الطبيعية كما هو الحال في وضع افغانستان...فهذا البلد يقع موقعه الجغرافي في منطقة شبه معزولة مع طبيعة تضاريس قاسية ويصعب الوصول اليها،كذلك هو محروم من نافذة على البحار التي تسهل التجارة الخارجية والاتصال مع الدول الاخرى،بالاضافة الى الواقع الاثني والسياسي المنقسم على الدوام مما ساعد في ابقاء البلاد في وضع مآساوي لا يمكن المغامرة في البحث عن موارد طبيعية في مناطق تصنف انها خطرة وغير مستقرة على الدوام!...ولكن تلك الصورة اذا تغيرت واحتاج العالم الى المزيد من الموارد الطبيعية لتعويض النقص الحاصل في الامدادات مع استقرار الوضع هناك،فأنه بالتأكيد سوف تجذب البلاد للمزيد من الاهتمام الخارجي بثرواتها الطبيعية،والاكتشاف الاخير في حزيران 2010 عن وجود مايقدر بترليون دولار ماهو الا بداية لاكتشاف غالبية الموارد الطبيعية لانه يصعب كثيرا تنقيب كل بقعة من ارض البلاد الشاسعة،وبالتالي فأن الاكتشاف الاخير ماهو الا نتيجة اكتشاف منطقة جغرافية صغيرة يقال بأن الجيولوجيون الافغان وبمعونة الاتحاد السوفييتي السابق قد اكتشفوها منذ ثلاثة عقود ولكن ابقي الامر سرا حتى تستقر اوضاع البلاد لكي يبدأ الانتاج! مما يعني ان ارض البلاد حاوية لثروات خيالية لا يمكن ابدا التنبوء بحجمها...فالاكتشاف الاخير والذي قدر بتريليون واحد،قدره المسؤولين الافغان بحوالي 3 تريليونات،وهذا المبلغ التقديري هو حسب اسعار عام 2010 مما يعني ان قيمة المكتشف والمقدرة الان ب1-3 تريليون دولار سوف تكون بين 3-9 تريليون اذا تم انتاجها على فترات زمنية طويلة من الطبيعي ان ترتفع الاسعار خلاله لتصل الى اضعاف هذا المبلغ الذي سوف ينهض بالبلاد من كبوتها الطويلة ويحول الحياة البائسة لاكثر من 30 مليون نسمة الى مستويات الدول الناهضة حديثا،ولا ينبغي القول ان الارض الافغانية فقط حاوية لتلك الكميات المكتشفة بل ان المستقبل يبشر بأكثر من ذلك مع ظهور تكنولوجيا احدث مع سوق عالمية ضخمة تحتاج دوما الى الموارد الطبيعية،وبالتالي فأن الفرصة مواتية لافغانستان للخروج من دائرة الفقر والتخلف الى التحضر والاعتماد على الذات وتطويرها بدلا من الخضوع لرحمة تقلبات السوق الدولية والاعتماد على مصدر واحد للدخل.