الثورة الثالثة(1917) والرابعة(1979) في هذا التصنيف هما الثورتين الروسية والايرانية، والاختلاف واسعا بينهما بالرغم من انهما يمثلان حالة التغيير الراديكالي في الحكم،فالاولى اي الروسية هي ثورة الحادية تتبع العقيدة الشيوعية الاشتراكية والتي هي عقيدة غير روسية ولكنها عالمية نشأت في اوروبا الغربية ولكن لم تنجح في تربتها! واستندت على خلاصة الفلسفة الالمانية والاشتراكية الفرنسية والاقتصاد السياسي الانكليزي،ولكن مؤيدوها الروس قاموا بتحوير بعض تفاصيل تلك النظرية لكي تلائم الظروف المختلفة لروسيا فأطلقوا عليها تسمية الماركسية اللينينية نسبة الى زعيمهم لينين (ت1924) وهذا ايضا حدث بالنسبة للثورات الشيوعية الاخرى من قبيل الثورة الصينية التي جائت بالتفسير الماوي للماركسية لكي تلائم ظروف الصين وايضا الثورات في امريكا اللاتينية التي تستند للكفاح المسلح للجماعات الثورية هناك، بينما الثانية هي ثورة دينية خالصة تستند على تراث الفكر الاسلامي الطويل المتعدد الاجتهادات والذي لا يعترف مثل الفكر الماركسي بالقوميات والتصنيفات الفكرية الناتجة منها مما يعني ان مفكري الاتجاهين هما من شعوب مختلفة وليسوا من بلد واحد وان كان الفكر الاسلامي اقدم بكثير من الفكر الماركسي واكثر تجذرا في النفوس.
يعني هذا ان الفارق الايديولوجي كبيرا بين الثورتين،ولكن هنالك عدة مشتركات قد يكون اهمها بالطبع التغيير الراديكالي في كلا البلدين مع خروج نفوذهما الايديولوجي الى خارج الحدود .
تميزت الثورتان بتمحور القيادة في شخص واحد يعاونه مجموعة من المفكرين المتبحرين في العقيدة الفكرية لكلا الاتجاهين،وهما لينين في روسيا والامام الخميني في ايران،والواضح ان تأثيرهما مازال باقيا ليس بفضل زعامة الثورة وان كان له دورا هاما في ذلك،بل للدور الفكري الذي لعبه كلا منهما سواء في بلاده او خارجها، كما انهما عانيا من الاضطهاد في الداخل والنفي الى خارج الحدود وقادا الثورتين بعد اندلاعهما،وتميزت حياتهما بالزهد في ملذات السلطة وشهواتها.
عانت الثورتان من الحصار الخارجي والتدخل الاجنبي والقلاقل الداخلية ولاسباب عديدة،وتسبب ذلك في سقوط عدد كبير من الضحايا في كلا البلدين،وبالرغم من ذلك فأن الصراع مع الخارج لم يضعف الثورتين بل العكس حدث! وهو ان نفوذ الثورتين اخذ بالازدياد والتمدد في بلاد اخرى بعضها بعيد جغرافيا وخاصة بالنسبة للثورة الروسية التي اصبحت عقيدتها تسيطر على نصف سكان الارض تقريبا حينها! مما يعني ان الوسائل العسكرية والحصار الاقتصادي لا ينجح في لجم جماح مثل تلك الثورات التي تستند على قاعدة فكرية قوية ومؤثرة في اتباعها،بل ان الذي يحد النفوذ هو عدم وجود الاستغلال والاضطهاد والتمييز الخ من القضايا التي تقوم لاجلها الثورات في العالم.
الخطأ الاكبر الذي وقعت فيه الثورة الروسية هو وقوعها في مستنقع الطغيان الفردي لشخص واحد تحكم بشعوب الاتحاد السوفييتي وهو ستالين(ت1953) وبالرغم من ان خلفائه تحرروا من الكثير من طبائع حكمه الارهابي الا ان البلاد لم تتخلص نهائيا منه بل بقيت خاضعة له حتى ادت في النهاية الى سقوط الاتحاد السوفييتي المدوي عام 1991.
هذا الطغيان الستاليني المرعب تسبب في سقوط عشرات الملايين من الضحايا في منهج ارهابي فريد لا مثيل له في التاريخ وساهمت الحرب العالمية الثانية في اتساع دائرة الضحايا حتى اصبح انهيار الاتحاد السوفييتي مجرد مسألة وقت بالرغم من الانجازات العلمية والاقتصادية الهائلة التي تحققت بالمقارنة مع الحالة المأساوية في روسيا القيصرية والتي ادت ايضا الى انهيارها،فالحالة المعيشية حتى لو تحسنت فأنها تصبح بلا قيمة او معنى اذا خرجت من نطاق حقوق الانسان وحريته الاساسية،ولذلك نجد ان هنالك شعوب كثيرة قاومت حكامها لاجل انتزاع السلطات من ايديهم بالرغم من وجود تحسن في مستوى المعيشة الذي يبقى صوريا الى حد ما اذا لم ترافقه اجراءات جذرية في التغيير.
ان الصراع على السلطة بعد انتصار الثورة هو موجود حتى في حالة الثورات الراديكالية،ولكن للخروج بأقل الخسائر من تلك الحالة الحتمية يكون اذا لم تقع السلطة بيد فرد واحد متحكم بها مما يؤدي الى بناء سلطة تنحرف عن الثورة بدرجة عالية مهما كانت الجعجعة الاعلامية المصاحبة لها!.
الثورة الايرانية ايضا وقعت في نفس مستنقع الصراع الداخلي وتسبب في وقوع خسائر فادحة نتيجة لتمرد عدة تيارات كانت مساهمة في الثورة وبعضها حصل على دعم خارجي، ولكن بقيت بعيدة نوعا ما من حالة وقوع السلطة في يد فرد واحد دون ان يكون هنالك رادع له او تحديد لصلاحياته كما هو شائع في العالم الثالث.
الفكر السياسي الاسلامي عانى كثيرا من اضطهاد الحاكمين وتعرض على مدار التاريخ الى نكبات عديدة تمثلت في مقتل قادته وفشل ثوراته وتشويه مناهجه الفكرية،وفي العصر الحديث ضعف تاثيره كثيرا بعد خضوع البلاد الاسلامية للاستعمار الغربي،وساهم الصراع مع الانظمة التقليدية واليسارية على ابعاده عن السلطة او حتى التاثير المعنوي جموع الناس،ولكن هزيمة تلك الانظمة وفشلها في التطبيق لمناهجها الفكرية ادى الى انتعاش الفكر السياسي الاسلامي من جديد، وحالة الفشل في التطبيق هي مستنقع كل فكر او ثورة او نظام،لان البشر غالبا ما يؤيدون منهجا حياتيا يكون اداة لبناء حياة حرة وكريمة تكون افضل من الواقع السيء الذي يحياه الناس،وفشل التطبيق وان كان في اغلبه لا يعود الى الفكر نفسه بل الى الطبيعة البشرية المتحكمة فيه،فأن اللوم عادة يقع على الفكر ايضا مهما كانت قاعدته الفكرية ثرية في مناهجها!.
كان انتصار الثورة الايرانية عام 1979 هو بمثابة انتصار للفكر السياسي الاسلامي الذي انتشر بعد ذلك في العالم الاسلامي وفق مختلف المذاهب الفكرية في موجة اطلق عليها اسم(الصحوة الاسلامية) والتي مازالت في تمدد في ظل ضعف واضح لكافة المذاهب الفكرية الاخرى التي فشلت في التطبيق بالرغم من الصلاحيات الواسعة والامكانيات المادية الضخمة التي وضعت تحت تصرفها،الا ان ذلك لا يعني نجاح التطبيق الاسلامي في بعض البلاد كما هو واقع في حالة السودان مثلا لانه في النهاية يقع وفق اجتهادات بشرية تخضع بوعي او بدونه الى الظروف المحلية وتعقيدات التفاصيل التي يضيع المجهود الرئيسي فيها.
ان قوة الثورات في حالة التغيير الراديكالي يكمن في ازالتها للانظمة القائمة من جذورها وتأسيس بناء سياسي واجتماعي جديد يكون مناقضا للحالة السابقة ويكون من الصعب على مناصري الحالة السابقة العودة الى سابق عهدها لان فرص العودة والعمل سوف تصبح ضئيلة هذا بالاضافة الى السمعة السيئة التي يحملونها من تجاربهم السابقة.
ان العديد من الثورات والحركات التي تحمل فكرا جذريا في التغيير لم تنجح لكونها لم تبدأ في اجراءاتها العملية بعد تسلمها السلطة مما ادى الى عودة القوى المناهضة وخاصة بمعونة خارجية كما حدث في اوقات مختلفة مثل عودة شاه ايران في انقلاب عسكري عام 1953 على نظام مصدق بمعونة غربية! او عودة الحكم العسكري للسودان عام 1989 .
هنالك الكثير من الثورات الاصغر حجما بالمقارنة مع الثورات الاربع الكبرى،ويعود صغر التأثير الى عدة عوامل اهمها صغر حجم البلاد كما في حالة كوبا ونيكارغوا او تابعيتها الفكرية لمنهج فكري آخر كما هو في حالة الصين وكوريا وفيتنام،ولكن بالرغم من ذلك فأن الصبغة المحلية والتأثير على الجوار يكون موجودا اذا كانت حالة الجوار تسمح في تقبل افكار تلك الثورات الاقل تأثيرا،ولذلك نرى انه هنالك تأثيرا ظاهرا للثورة الكوبية على بلاد امريكا اللاتينية بصورة خاصة مع العلم ان الوجود الكوبي وصل الى بلاد افريقية مثل اثيوبيا وانغولا ولكن لم يكن بمستوى التأثير في امريكا اللاتينية لان حالة افريقيا كان منحصر بصورة بارزة الى حد ما في الجانب الرسمي دون ان ينفذ الى شعوب تلك البلاد التي تختلف كثيرا عن ظروف كوبا،بينما شعوب امريكا اللاتينية وتقاليدها وظروفها هي قريبة لحالة كوبا مما يعني ان التأثيرات المباشرة تكون ظاهرة للعيان بشكل لا يمكن نكرانه!.
في العالم العربي كانت الثورة الجزائرية بالرغم من انها لغرض الاستقلال هي الاقرب لحالة التغيير الجذري لكونها هدفت الى التغيير الجذري للبلاد من واقعها المتردي،الا انها تميزت بضعف الجانب الفكري لكونها بنيت اساسا لاخراج البلاد من السيطرة الفرنسية بالقوة المسلحة،مما ادى الى تقوقعها في حدودها الدولية ولم تتأثر حتى البلاد المجاورة مثل تونس والمغرب بها! وان كان النموذج النضالي الجزائري مازال محط اعجاب الكثيرين.
وما عدا ذلك لم توجد ثورة راديكالية خاضعة لمنهج فكري جديد مناقض للواقع في العالم العربي في العصر الحديث...نعم توجد محاولات عديدة الا ان النجاح لم يكن حليفها لاسباب عديدة بالرغم من اعتناق بعضها لمذاهب فكرية قوية البناء والتأثير وذات تراث عريق،ومن يدري فقد يحدث هنالك تغييرا جذريا محليا او عالميا من ناحية النفوذ والتجديد والتأثير في احدى دول العالم العربي،لانه لا يمكن التنبوء بما يمكن ان يقوم عليه المستقبل...نعم يكون هنالك استقراء له ناتجة من استنباط حالات الماضي الا ان ذلك يبقى في دائرة التنبؤات التي قد تحدث او لا وما اكثر التنبؤات الفاشلة!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق