اسطورة التغيير الفوقي - القسم الثامن والخمسون
المبحث التاسع:
انهيار القيم والسلوك:
عملية الخضوع الكامل والطويل للانظمة المحكومة بفئات فوقية،سوف يؤدي الى بروز عادات وقيم جديدة تختلف عن عادات وقيم المجتمعات المتحررة بحيث تصبح زيارة افراد من كل طرف للاخر مفاجئة للطرفين وكأنهما يعيشان في كوكب آخر بعيد عن الارض!...ولكن مع بروز تلك الاختلافات يطرأ على الذهن سؤال يتعصب لاجاباته الكثيرون وهو: من الاقرب للطبيعة الانسانية السوية من الطرفين في سلوكهما المحير النابع من اختلاف العادات والتقاليد والبيئة والتي من ابرز خصائصها المجتمعات المحكومة بنظم فوقية متسلطة لا ترى اي داعي من السماح للجميع في المشاركة في الحكم واتخاذ القرارات او في المجتمعات الاخرى؟! هل الحق هنا كاملا لا يتجزأ في طرف دون الاخر؟!...وما هي المعايير النسبية في الاختيار والحكم بين الطرفين؟!...
اخطر ما في اجوبة تلك الاسئلة في عقول ابنائها من الطرفين هو التعصب الاعمى الذي يصل الى القبول بأبادة الاخر او التشجيع على ابادته وضربه بقسوة بطريقة تتنافى من الفطرة الانسانية!...ولكن نبدأ بالاجابة على السؤال الثاني! وهو انه لا يوجد الحق المطلق في جانب ايا من الاطراف بل موجود الحق النسبي،بمعنى انه لكل طرف اخطائه او صوابه،لكون الانسان غير معصوم عن الخطأ بطبيعته
ولذلك فهو معرض للخطأ على الدوام ولكن الفرق شاسع وكبير بين الاخطاء الفادحة والاخطاء البسيطة!...
من هذا المنطلق يمكن القول ان المعايير النسبية في الاختيار والحكم هي تكون الاكثر قربا للطبيعة الانسانية السوية وللقيم المتفق عليها من قبل الجميع والتي نطلق عليها القيم الانسانية العالية دون ادنى تحوير لها بالاضافة الى العادات والتقاليد التي لا تتنافى مع حرية الانسان وحقه في الحياة والعبادة الخ... من حقوقه التي اتفقت عليها مختلف الشرائع...اذا هنا لدينا معايير نسبية يتم على اساسها الاختيار بين من هو الاقرب للصحة في السلوك والقيم التي تديره ويمكن لنا بعد ذلك ان نبحث في اجابات السؤال الاول!...
لا مجال للشك والنكران من كون الانظمة الفوقية التسلطية هي تتسبب في ولادة عادات وقيم جديدة في المجتمعات الخاضعة لها وهي تختلف عن الانظمة المتحررة التي تنقسم ايضا بين معتدل او متطرف في التحرر والذي يتسبب في كوارث اذا لم توضع ضوابط معينة للتحرر لانه تنشأ ايضا عادات وقيم جديدة قد تكون ضد الفطرة الانسانية!هذا القول في الانظمة المتحررة من التسلط الفوقي فقط.
والقيم الجديدة التي تنشأ من الحكم الفوقي كثيرة جدا وتتعارض مع القيم الطبيعية لحقوق الانسان مما يعني اننا اذا وضعنا الطرفين في ميزان واحد فأن الاكثر خطأ في ذلك وفق المعايير النسبية هو طرف الانظمة الفوقية وحسب حجم تلك الاخطاء والمشاكل الناتجة عنها على كافة الاصعدة...فالعادات والسلوكيات تصبح متلائمة مع المزاج الحاكم ووفق عقيدته سواء في الدين والحياة!...نعم في الدين ايضا الذي هو من المفروض خارج السيطرة والتبعية لكونه اسمى وانقى،ولذلك قيل سابقا ان الناس على دين ملوكهم!ويمكن لنا ان نشاهد الكوارث في حالة التبعية للحاكم!... مظاهر القوة والاستعباد هي تولد قيم جديدة تتلخص في مسبب واحد وهو الحفاظ على الحياة من الاضطهاد الذي قد يتسبب بالقتل!،ولذلك فأن مظاهر الكذب سوف تستشري في المجتمع بشكل مروع الى درجة يمكن بسهولة معرفته حتى للناس البسطاء،بل ان الكذب اصبحت له درجات واحجام قد تكون صغيرة ولذلك يقبلها المجتمع بسهولة ويعتبرها سلوكا غير مرضي!...
قبل النهضة الحديثة في العالم كان ممكن ان يتم نشر الكذب دون ان يجد هنالك من يتصدى له بسبب ضعف وسائل الاتصال بين الشعوب والافراد! ولذلك نرى ان الاكاذيب تستمر لقرون عديدة بالرغم من تصدي الكثيرون لها بعد ذلك بالوسائل العقلية والنقدية المنطقية!...ولكن في العصر الحديث اصبح كشف الكذب سهلا جدا لكونه منتشر بشكل عجيب وغريب ولكن الاسوأ ما فيه هو تحوله الى سلعة شعبية رائجة انتقلت من التعامل بين القواعد الشعبية والطبقات الفوقية الى التعامل اليومي بين البسطاء انفسهم مما ادى الى انهيار القيم الجمعية للشعب برمته وحلول قيم جديدة منافية لها!.
ومن خلال رؤية المتحدثين في وسائل الاعلام المختلفة وخاصة المرئية منها يمكن بسهولة رؤية الكذب الواضح خاصة في التزلف المثير للسخرية للسلاطين واعوانهم! بحيث اصبحت العبارات المحفوظة سلفا هي المقدمة الطبيعية للحديث حول اي موضوع مهما كان بعده عن الحاكم وزمرته!...ان تلك العبارات الدالة على الكذب المكشوف هي ناتجة من حقب زمنية طويلة من الاستعباد لشعوب بأكملها وهي تنتج غالبا من الخوف والرعب الذي يسري في الدم منذ الولادة وحتى الوفاة دون ان يكون هنالك ادنى امل في التحرر منه!...ان عبارات مدح الحكم والحاكمين وطبقاتهم لا يختص بنظام دون آخر او شعب دون آخر مهما اختلفت نوعية الانظمة الفوقية ولكن مع الاسف الشديد تنتشر تلك الظواهر الكاذبة في المجتمعات العربية اكثر من غيرها من بقية المجتمعات الاخرى لكونها خضعت للحكم الشمولي ذو الصفة الاستعبادية الابوية منذ الاف السنين دون ان تجد فسحة من الحرية الا لفترات قصيرة سرعان ما تنهار على يد ضربات الحكم الشمولي اللاحق!.
ان الكذب الواضح في المدح سوف يؤدي في النهاية الى تجنب قول الصدق مهما كانت بساطته ولذلك فأن انهيار المجتمعات يبدأ في نكران وجود اخطاء في المجتمع تستدعي التصحيح والادعاء بأن الصحيح هو السائد الذي سوف يتسبب في النهاية بكوارث هائلة بحيث يصعب تجنبها!...
ان تجنب قول الاكاذيب هو يؤدي الى الهلاك للنفس في الانظمة الفوقية ولذلك تستدعي الفطرة الانسانية ضرورة المحافظة على الحياة وحمايتها من خلال التنازل عن كافة الحقوق الطبيعية للانسان وحسب الاولية!،بينما في الانظمة المتحررة منها يؤدي الى شيوع الاستقلالية في الرأي وتشخيص الخطأ بغية اصلاحه ايا كان مصدره دون الخوف من عقاب لان الجميع متساوون في الحقوق والواجبات وبذلك تنعدم صفات التسلط المتسببة في رعب المجتمع برمته...
ان وجود التسلط للفئات الفوقية بدون ضوابط او تحديد سقف زمني له...يعني ذلك ان على الجميع الخضوع للامر الواقع وتكييف اوضاعهم المآساوية وفق ذلك الخضوع والذي من ضمنه ان الحاكم يبقى الى الابد في كرسي الحكم ولا يخرج منه الا بالقوة التي ترغمه على الخضوع،مما يؤدي الى تقبل الامر وعدم الرغبة في استلام المسؤوليات الكبرى في ادارة البلد والاكتفاء بالمسؤوليات الصغيرة واحباط كل مسعى للتغيير حتى لو كان سلمي!.
الامثلة كثيرة على وجود الاكاذيب ولكن اكثرها رعبا هي تلك الكبرى والتي يتم ترديدها من قبل الفئات الفوقية الحاكمة لنجد صداها بعد ذلك يتردد عن طريق الطبقات السفلية وكأنها ببغاوات بدون فحص او تمحيص لمفرداتها! من قبيل الانتصار على الخصوم اوقات النكبات او الهزائم في الحروب والنزاعات من قبيل الادعاء في انتصار النظام الناصري في مصر في حروبه الثلاث ضد اسرائيل اعوام 48و56و67 او ادعاء نظام البعث في العراق، الانتصار في حروبه الداخلية والخارجية او ادعاء خصوم الحوثيون في اليمن والسعودية في ابادتهم! او استمرار الادعاء بالانتصار في داخل المانيا النازية في اواخر الحرب العالمية الثانية عندما وصلت قوات الحلفاء الى داخل حدود المانيا نفسها وفق منطق غوبلز الشهير!.
وعموما ان تلك الاكاذيب سوف تنكشف للجميع لاحقا ولكن بعد ان يجرف الطوفان الجميع!...ان العيش في ظلال تلك الاكاذيب يجعل من الصعوبة على الفرد ان يقبل الحقائق كونها غريبة عنه وتتنافى مع الموروثات من القيم المجتمعية الناشئة من الخضوع الطويل،لا بل ينظر لها على انها اكاذيب يجب ان تحارب بكل ما اوتي من قوة بالرغم من قوتها المنطقية والبراهين الاستدلالية المتعددة الدالة عليها،ولذلك فأننا نرى الكثيرين عند المواجهة الفكرية مع الحقائق اما ان يواجهها بزمرة الاكاذيب الهزيلة او ان يبتعد عنها لكونها في رأيه جارفة ومضللة!.
ان الحقائق سوف تكون خطرا على الجميع وليس فقط على الطبقات الفوقية التي تراها خطرا يهدد وجودها وتبذل اقصى ما في وسعها لابعادها او تحريفها! اما الفئات الاخرى المحكومة فكيف تراها خطرا عليها؟! لانها ببساطة تتعارض مع الموروثات الكاذبة او المظللة!...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق