اسطورة التغيير الفوقي - القسم ال
اسطورة التغيير الفوقي - القسم السادس والخمسون
من اخطر انواع الارهاب هو الارهاب المتلبس بلباس ديني او مذهبي لان الاديان بصورة عامة هي ضد العنف والارهاب ولكن التفسير الشخصي الضيق والتعصب له هو الذي يلبس الارهاب بلباس ديني مزيف،وتكمن خطورته انه يمكن تبريره بشتى الطرق الشرعية ثم جعل فاعله بمرتبة المجاهد او القديس او الفدائي! خاصة في قتله الابرياء بطريقة وحشية او التلذذ بتعذيبهم او اغتصابهم الى اخره من الاعمال الوحشية التي خرجت من الوصف الادبي لها الى المجال المرئي! بفضل انتشار التكنولوجيا الحديثة التي اصبحت تستخدم في نشر الارهاب بدلا من نشر العلم والوعي بين الاخرين! والقاتل هنا اذا اخطأ فأنه اخطأ في الاجتهاد وبالتالي له اجر واحد! وكأن ذلك الخطأ ليس جريمة كأي فعل جرمي الذي هو ايضا اجتهاد شخصي من القاتل وحسب ظروفه الشخصية!...
استخدام احدث الوسائل التكنولوجية وخاصة في مجال الاتصالات هو وسيلة مفضلة لزرع الرعب والخوف بين الاخرين وكذلك عملية تضخيم الاحداث خاصة بالنسبة لاخرين يعيشون بعيدا عنها مما يجعلهم يتلقون المعلومة دون التأكد من صحتها ثم تأخذ الكثير من الصور المرئية لتؤكد المعلومة وقد تعجز الوسائل الاخرى في الغالب من الحد من ذلك التضخيم خاصة بين من يؤيد تلك الاعمال الوحشية لسبب او آخر مما يعني مضاعفة المآساة الانسانية من خلال انتشار الارهاب ثم انتشار الدعم المعنوي له ... والصراع المستمر بين الارهاب الحكومي والارهاب المضاد هو حرب علنية ولكن غير تقليدية وتأخذ وسائل مختلفة ولفترات زمنية طويلة حتى يعجز اصحاب الحل والعقد من انهائها وبالتالي تتسبب في خسائر مادية او معنوية لاحدود لها...
الارهاب مارسته العديد من الحركات السياسية المتطرفة كوسيلة لاجبار الرأي العام على الخضوع لارائها وايضا لارهاب العاملين في الدولة للتنازل والمساومة...وفي الحقيقة انتشر ارهاب الرأي العام في العقود الاخيرة ويعود السبب الرئيسي الى قوة الاجهزة الامنية وخاصة حمايتها لافرادها بينما تهمل حماية المجتمع من آثار اعمالها! لان القدرات الامنية تبقى محدودة وليست شاملة للجميع وكذلك كون افراد المجتمع هم اهداف سهلة على المهاجمين فضلا عن كونهم سلاح اعلامي!...
لوحظ ان الارهاب يقل كثيرا في داخل الدول التي تمتلك اجهزة قمعية مرعبة بينما يزداد قوة في الدول التي خرجت من عباءة الديكتاتورية حديثا او التي تخف القسوة الامنية فيها! ويعود ذلك الى الرعب والخوف على الحياة وسلامتها من انتهاك الاجهزة الامنية لها في الحالة الاولى والتي تمارس رعبا مبرمجا للقضاء على اي بذور للتمرد في داخل كل شخص! مع علمها اليقيني انها لا تستطيع اقتلاعه وانما مجرد اخماده الى اجل غير مسمى!...
الارهاب لا يستطيع تغيير الافكار والاراء التي يعتقد بها اصحابها!...نعم قد يجعل افرادها يخضعون ظاهريا او يمارسون التقية للخوف على ديمومة الحياة ولكن معتقداتهم سوف تبقى حبيسة الصدور الى ان تحين الفرصة لاخراجها الى ارض الواقع، بالرغم من ان الكثير من الاراء والافكار والمعتقدات قد قضي عليها بفعل الارهاب الحكومي كما هو الحال في اسبانيا بعد سقوط غرناطة عام 1492 الا انه سرعان ما تحل محلها اراء ايضا لها صفة المعارضة! ولكن يبقى للارهاب الفكري اثره الظاهر وخاصة من خلال تخوين الاخرين او اتهامهم بالعمالة كما حصل مع الانظمة الشيوعية واليسارية ضد خصومها او اتهام الاخرين بالكفر او الشرك كما يحصل للتيارات السلفية او الجهادية ضد خصومها او من يختلف معها بالرأي والعقيدة!! والنوع الاخير اخذ في الانتشار في العالم الاسلامي منذ مطلع القرن الخامس عشر الهجري الى درجة اصبح يعتبر حربا داخلية تثيرها اطراف عديدة وخاصة من حكومات عرف عنها البعد عن الدين فضلا عن الاعتقاد به! لتحقيق مآربها الانية دون الاهتمام بخطورة تلك الاعمال التي تصل الى حد ابادة مجموعات بشرية كاملة وهي جريمة تعاقب عليها كل القوانين السماوية والارضية!...الا ان تعميم الارهاب على المسلمين فقط هو خطأ كبير لكون الارهاب عالمي ينتشر في كل مكان،ولنا مثال على الارهاب الصربي الذي تجلت وحشيته المفرطة في حربي البوسنة وكوسوفو في عقد التسعينيات من القرن العشرين...
امثلة مختارة:
لنبدأ بأختيار امثلة غير شرقية حتى يمكن اثبات ان التطرف والارهاب لا يختص بطرف دون اخر او بزمن دون آخر!...
1-الارهاب الشيوعي:
الارهاب الشيوعي الذي تحكم بروسيا وبشعوب اخرى كثيرة في داخل الاتحاد السوفييتي السابق وايضا في الدول التي خضعت له في اوروبا الشرقية لفترة طويلة هو نتيجة طبيعية لحالات التطرف في الفساد والديكتاتورية للحكم القيصري وفئاته الفوقية التي استمرت في تعصبها الاعمى لفترة طويلة دون ان تعي ان ذلك سوف يؤدي الى نشوء تطرف مضاد سوف يقضي لاحقا عليها بمجرد توفر الظروف المناسبة له! وقد كان امام الحكم القيصري فرص عديدة للاصلاح الجذري بغية المحافظة على استمرارية الحكم ولكن التعصب والاستبداد الفوقي الغبي هو الذي اعمى بصيرتهم في ضرورة اتخاذ الوسائل الكفيلة بتفريغ شحنات الغضب المخزونة في صدور المعارضين!... فقد تأسست في المنفى الكثير من الاحزاب الاشتراكية المتطرفة وبخاصة الشيوعية منها ويمكن القول ان ثورة عام 1905 ضد الهزيمة امام اليابان هي جرس انذار مبكر ولكن قمع الثورة والاصرار على عدم منح الاصلاح طريقه ليصلح البلاد هو الذي وفر الظروف المناسبة لنمو التطرف وبأقصى حالاته الدموية التي وصلت حد ابادة الملايين من البشر من غير المشاركين للطبقات الفوقية في الحكم القيصري لان التطرف اعمى لا يميز بين البريء والمذنب الا في نطاق ضيق يكون غالبا بعد فوات الاوان!...فقد بدأ الارهاب الحكومي المنظم والرهيب بعد انتصار ثورة 1917 والتي خرجت من مسارها الطبيعي الى مسار الاستبداد الذي مثله ستالين ابشع تمثيل وهو المعروف عنه انه من اقسى الطغاة وأكثرهم اجراما ورعبا في التاريخ،فكانت البداية ضد المعارضين السياسيين ومجموعاتهم المسلحة ثم تطور الامر الى كل من يعارض اجراءاتهم القمعية حتى وصل الامر الى ابادة شعوب بأكملها وتحويل اكبر بلد في المساحة في العالم الى سجن مرعب لا يتصور بشاعته الا من عاش في ظله،وبرغم وفاة ستالين(اصبح نموذجا مثاليا للطغاة الجدد) عام 1953 ورغم ان خلفاءه خففوا من اجراءاته القمعية الوحشية فأن الاستبداد الشيوعي استمر حتى سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991 ! مما يعني ان التطرف الشيوعي وارهابه المعروف كان من اهم اسباب الانهيار للمنظومة الشيوعية في اوروبا،مما مهد السبيل الى ظهور الحركات القومية العنصرية والتي ارهبت خصومها مما سببت بظهور ارهاب عالمي جديد تمثل في الحروب والنزاعات في البلدان الشيوعية السابقة مثل روسيا في الشيشان او في يوغسلافيا السابقة او الحرب بين آذربيجان وارمينيا الخ...
تمثل الارهاب الشيوعي في بناء اجهزة حكومية امنية عديدة تساعدها في عملها الاحزاب الشيوعية الحاكمة ومنظماتها المتعددة وساهمت جميعها في تأسيس سلطة ديكتاتورية مرعبة مارست الارهاب الداخلي واحيانا الخارجي ايضا في تمويل حركات متطرفة او انظمة قمعية اخرى موالية وخاصة في العالم الثالث،وكانت نتيجة الارهاب الشيوعي سقوط عشرات الملايين من الضحايا الابرياء! مما يعني انه كان الارهاب الاكبر في القرن العشرين.
وكان التطرف والارهاب الشيوعي حاضرا بقوة في آسيا من خلال الانظمة الشيوعية مثل الصين وفيتنام ومازالت كوريا الشمالية نموذجا مثاليا حاضرا للارهاب الحكومي الشيوعي المنظم الذي حول البلاد الى سجن مرعب!.
2- الارهاب في العالم الثالث:
كما هو معروف فأن الغالبية الساحقة من دول العالم الثالث هي انظمة قمعية فاسدة ومتخلفة الى ابعد الحدود المتعارف عليها! وهي استفادت كثيرا من الصراع بين العالمين الرأسمالي والشيوعي اثناء فترة الحرب الباردة في بناء انظمة ارهابية متطرفة في داخل وخارج بلدانها حتى اصبح التطرف والارهاب والتمرد هو من سمات العالم الثالث التقليدية!... فقد وصلت انظمة الى قمة الوحشية الارهابية من قبيل نظام بول بوت في كمبوديا الذي اباد ثلث الشعب خلال اربعة اعوام فقط!! او ارهاب الانظمة الموالية للغرب في جنوب شرق اسيا من قبيل نظام سوهارتو في اندونيسيا الذي قتل مئات الالاف من المعارضين في عام 1966 فقط، ونظام ماركوس في الفلبين ونظام بورما العسكري الذي مازال يمارس الارهاب الحكومي منذ نصف قرن!...
اما في افريقيا فالحديث يطول لانه من النادر ان تجد نظاما لم يمارس الارهاب ضد مواطنيه! مما يعني انها خير منتج لحركات ارهابية معارضة ويمكن ملاحظة بعض الامثلة النموذجية مثل اثيوبيا التي عاشت مرحلة ديكتاتورية الملك هيلا سيلاسي الارهابية والتي اخرجت لنا نظاما ارهابيا اخر حل محله بفعل حالة التطرف المضاد وهو نظام منغيستو الشيوعي الذي انهار هو الاخر بعد ان نشر الخراب والدمار في البلاد التي تمزقت بفعل تلك الاحداث المؤلمة...
وهناك النموذج الانغولي التي جعلت البلاد في حالة حرب اهلية بين الارهاب الشيوعي الحكومي والارهاب المعارض الموالي للغرب حتى توقف مؤقتا بمقتل زعيم المعارضة عام 2002!...
اما في روديسيا الجنوبية والتي يطلق عليها الان زيمبابوي فقد كان الصراع بين النظام العنصري ومعارضيه يخضع لقاعدة الارهاب الحكومي والارهاب المضاد الذي انتهى الى الحالة المأساوية الان في سيطرة الارهاب المضاد وتحكمه في البلاد مما يعني خروج البلاد من تطرف وارهاب الى تطرف وارهاب آخر برغم اختلاف الشكل فأن المضمون واحد بلا شك!!.
3- الارهاب في العالم العربي:
لا تختلف دول العالم العربي عن بقية دول العالم الثالث في كون الارهاب الحكومي سمة بارزة من سماته المستمرة منذ قرون طويلة دون ان تجد الحرية والديمقراطية والعدالة مكانا لها في تلك البقعة الكبيرة والمهمة من العالم! مما يعني ان ظهور الحركات المتطرفة هي نتيجة طبيعة بل رد فعل واقعي للتطرف الحكومي الذي لم يختلف في تصرفاته برغم اختلاف النظم الشكلي وتطورها البطيء!.
ان الارهاب الحكومي في مصر هو الذي ولد الارهاب المضاد سواء في اواخر ايام الحكم الملكي والذي عجل بسقوطه الحتمي عام 1952 او في ولادة نظام جمهوري عسكري متطرف اصبح الارهاب الحكومي صفة مميزة له مما ادى الى ضعف واضح في ظهور الحركات السياسية المعتدلة لان النظام قمعها هي الاخرى او لا يسمح في تواجدها بقوة مرة اخرى مما يعني ظهور التطرف المضاد في التوجهات السياسية والذي تطور لاحقا الى ارهاب ممزوج بالتكفير استمر لفترة طويلة برغم قوة وشدة القمع الحكومي له!...
والارهاب الحكومي تجلى في دول اخرى عديدة مثل الاردن واليمن والسعودية وليبيا وتونس وغيرها بنفس الاساليب المنتشرة في بلاد اخرى الا ان نظام البعث في العراق تفوق عليهم في قسوة اساليب الارهاب التي تماثل الاساليب الستالينية مما عجل بسقوطه ثم منعه من العمل السياسي الذي حرم الاخرون منه!... والنتيجة الطبيعية في العالم العربي هي ظهور حركات مسلحة تمارس الارهاب العلني وبتأييد من قطاع جماهيري واسع ناقم على الاوضاع او نتيجة لانتشار حالة الجهل والتخلف والفقر والحرمان لدى شعوب تلك البلدان!...
ويمكن تصنيف منظمة القاعدة على انها نموذج مثالي امتص طاقات المتطرفين التكفيريين المنتشرة في العالم العربي وحولها بفضل الامكانات المادية وتوفر الظروف المثالية له في افغانستان وباكستان ومن ثم العراق بعد عام 2003 في بناء قوة ارهابية عالمية وبمعونة نظام طالبان الارهابي المتخلف قبل سقوطه المحتوم عام 2001 لتمارس ابشع الجرائم وبغطاء شرعي مزيف خرج من نطاق الحرب ضد اجهزة الامن المتعددة الى الحرب ضد الجماهير الضعيفة لمحاولة السيطرة عليها وتوجيهها بالقوة المفرطة المدعومة بمنهج فكري متطرف له جذور تاريخية ومستند على دعم قيادات دينية متعددة تحاول استخدامه في صراعها ضد انظمتها القمعية!...
لقد تغافلت الكثير من الانظمة العربية في خروج ابنائها للقتال مع القاعدة وبقية الحركات الارهابية المشابه لها كوسيلة مثالية للتخلص من شرهم داخل حدود بلدانها ! او نقل ذلك الشر الى بلاد اخرى معادية فكريا او مذهبيا كأحدى وسائل الحرب الباردة! ولكنها كانت مخطئة تماما في ذلك التوجه لانه لاحقا سوف ينتقل ذلك الارهاب الى داخل اراضيها كما حصل لامريكا التي دعمت الكثير منها لفترات زمنية سابقة!ومهما كانت الاجراءات القمعية فأن ذلك الارهاب سوف يبقى يترصد الفرص المناسبة للتوجه الى اي بلد يجد فيه فرصة ملائمة لتطبيق افكاره المتطرفة المستمدة من تراث طويل من الارهاب الفكري والحكومي الذي ساد العالم الاسلامي لحقب زمنية تكاد تغطي معظم تاريخه الطويل المليء بالمأسي والمحن!...
مهما كانت الاجراءات القمعية المتخذة فأنها لن تقضي على الارهاب لكون المولدة له مازالت مستمرة في التشغيل!...نعم ان تدمير الحصاد الفاسد لا يكون وسيلة ناجحة مادامت زراعته مستمرة من خلال ممارسات القمع والارهاب والتطرف الحكومي.!..