التخطيط السكاني والمستقبل:
لايمكن فصل النمو السكاني عن التخطيط فالترابط وثيق الصلة بدرجة عالية،وبالرغم من دعاوى وصخب المالتوسيين الجدد الا ان التقدم الاقتصادي وما صاحبه من تقدم متعدد الابعاد ادى في النهاية الى حصول تعقيدات مركبة في سبل الحياة المعاصرة كي تستمر الدورة الجهنمية المستهلكة لقدرات الانسان المتعددة وبخاصة تفرده ككائن فريد! مما ادى الى حصول تأخر واجب ينحصر غالبا خارج الارادة الذاتية في مسألة الاقتران والانجاب نظرا للرغبة الملحة في اشباع الحاجات المستحدثة من جهة والبذل في سبيل الحصول عليها وهما يحتاجان الى زمن اطول من السابق الذي كان يتميز بالبساطة والسهولة!... ومن هنا كان الانخفاض الكبير في نسبة النمو السكاني العالمي والذي ادى الى درجة نمو متدنية لا يمكن تصورها بالرغم من حالة الوفرة والرخاء والتقدم الصحي الكابح لارتفاع وفيات الاطفال وكبار السن بالاساس ونشوء ما يدعى بالاسرة النووية اي الصغيرة الحجم المرتكزة على الفردية بالقياس الى النوع الاخر المسمى بالممتد البسيط او المركب.
انخفاض نسبة النمو السكاني الطبيعية بدأت في اوروبا والتي كانت نسبة النمو السكاني فيها اعلى من غيرها خلال القرون الاخيرة،والسبب الرئيسي يعود الى ان العالم الثالث بالرغم من اتساع قوة النمو لديه الا انها بقيت نسبة متدنية بسبب ارتفاع حجم الوفيات الناشئة من الوضع المتخلف واضطراب الوضع وخضوعه للمستعمر بصورته العمومية بينما كان النمو العالي في الغرب يستمد قوته من ارتفاع المستوى الاقتصادي والصحي، ولكن الوضع تغير منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والتغيرات الكبيرة التي حصلت على المستوى الاجتماعي والذي ادى الى انخفاض النمو بدرجة مرعبة احيانا لان بعض الدول تجاوزت الخطوط الحمراء بسبب النمو السلبي اي ان عدد السكان بدأ ينخفض فعليا في بلاد مثل المانيا وروسيا او انخفض الى درجة الصفر تقريبا مثل اليابان وغيرها من الدول الغربية التي اخذت تستعين بالقوى العاملة الرخيصة من الدول النامية والتي اندمجت في مجتمعاتها والتي استمرت في نموها السكاني العالي مما سبب رعبا وقلقا لدى التيارات اليمينية المتطرفة التي اخذت تشجع على الكراهية وعداء الاجانب بطريقة مثيرة للاشمئزاز احيانا في محاولة لابقائهم تحت السيطرة وعدم افساح المجال لنمو آخر!.
اغلب الدول النامية انخفض فيها النمو السكاني ايضا منذ بداية الربع الاخير من القرن العشرين لاسباب مشابهة ولكن بقي مرتفعا عن دول العالم الصناعي ولو قارنا الاحصائيات الصادرة من الهيئات الدولية المتخصصة لعرفنا ان الانخفاض كان كبيرا ولو بقي النمو على مستوياته المتعارف عليها اي فوق 3% لوصل عدد السكان الى رقم اعلى بكثير من المعلن حاليا!.
الدول النامية التي استمر نموها السكاني المرتفع حتى فترة السبعينيات من القرن الماضي وجدت في التخطيط الصارم وسيلة لتحديد النمو الغير مرتبط بتخطيط عقلاني مما يؤدي الى حدوث مشاكل مستعصية على الحل،ومن هنا جاء التخطيط المركزي الصارم في فرض الالتزام الاجباري بعدد محدود من الاطفال وكانت الدولة الاشهر في هذا المجال هي الصين نظرا لكونها الدولة الاولى في العالم في عدد السكان بنسبة قاربت 32% ولكن المركز الاول كان لكوبا ومقداره 47% ولكن حجمها الصغير والغير مؤثر كان مغطيا على تصدرها ،وهما كانتا من اوائل الدول التي فرضت تحديد النسل قبل ان تتسع القائمة لدول جديدة اصبحت تنافسهما على الصدارة النسبية بالرغم من ظهور المشاكل الجديدة لذلك التخطيط الصارم!.
ومن الدول المثيرة للاهتمام في هذا المجال كانت ايران!...فقد كانت كبقية دول العالم الاسلامي تمتاز بأرتفاع حاد في النمو السكاني(اكثر من 3.5%) مما استرعى التحول الحاد الغير واقعي لتحديد النسل وفق منهاج الدولة المتشدد وبتشجيع من فئات اجتماعية عديدة في اواخر الثمانينات،وخلال فترة قصيرة نسبيا وصل النمو الى 1.6% عام 1994! ثم استمر بالهبوط وبطريقة اقرب للعشوائية الغير مدروسة بتمعن حتى وصل الى مستويات الدول الغربية المتدنية في محاولة لرفع المستوى الاقتصادي وتطوير البلاد بدلا من تشتيت القدرات على الاعداد المتزايدة!وهو تقليد لبلاد اخرى وقعت في مستنقع الفشل كما اثبت الواقع بعد ذلك،ولكن المخاطر المستقبلية اعاد التفكير في تلك السياسة الخاطئة،فالبلاد واسعة الارجاء ولديها من الامكانيات الاقتصادية القادرة على توفير الحياة الكريمة لاضعاف العدد الحالي ولكن تجاهل آثار الوضع السياسي المتغير المتسم بالعداء المستمر مع الغرب والذي يصل حد المقاطعة الاقتصادية الشاملة هو الذي ادى الى سلوك هذا المنهج المتطرف نسبيا وليس محدودية حجم الامكانيات الايرانية،وهذا ما جعل الحاجة تزداد بعد فترة تصل الى الجيل (20 عاما)الى اعداد اكبر من الفئات الشابة المتبقية لادارة الاقتصاد ورعاية الفئات الصغيرة والكبيرة السن وحماية البلاد مما ادى الى اعادة التفكير في التحرر من تلك السياسة السكانية المتشددة التي ثبت خطأها،وهو ما ينطبق على بلاد اخرى وان كانت اقل نسبية في الحجم والقدرات.
كانت الدول العربية تمتاز بنمو سكاني مرتفع حتى بدأ الحديث كرغبة في التركيز على النمو الاقتصادي،عن تحديد النسل وبالخصوص في مصر وتونس بالرغم من الحجم الجغرافي الكبير للبلدين قياسا بعدد السكان! وقد وصل النمو في تونس بصورة خاصة الى ما دون 1% ولكن هل حقق الاغراض المنشودة منه في توفير حياة حرة وكريمة؟!... الجواب بكل تأكيد كلا!.
فأنعدام الديمقراطية والحرية والشفافية وانتشار الفساد والجهل والتخلف وضعف التخطيط والتمويل وانعدام البحث العلمي وتطبيقاته المختلفة... الخ من الاسباب المؤدي الى نشوء نماذج الدول الفاشلة هي المسببة الرئيسية للتخلف عن ركب التقدم الحضاري وليس عامل ارتفاع حجم السكان كما يدعيه دعاة المالتوسية، فمثلا يتركز اغلب سكان مصر في مساحة صغيرة من الارض بينما تترك بقية البلاد بحجة التصحر والبيئة القاسية بينما كان الاولى توسيع الاراضي الزراعية واستخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة في الانتاج الغذائي للتغطية على انخفاض نسبة العمالة الزراعية وصغر حجم الاراضي الصالحة للزراعة كما هو الحال في امريكا حيث يقدر عدد العاملين في الزراعة دون 4% من القوى العاملة وهم ينتجون غذاءا يفوق عدد السكان البالغ اكثر من 315 مليون بل ويصدرون كميات ضخمة الى خارج البلاد بينما بقيت مصر كبقية الدول العربية تتراجع في كافة المجالات وبخاصة في الانتاج الزراعي الذي سيطر عليه الاستخدام البدائي للعمالة والتكنولوجيا مما ادى الى توسع الاستيراد من الخارج لسد النقص والذي القي تبعاته على النمو السكاني المتوسط الارتفاع وليس العالي بالمقارنة مع الدول المجاورة،والحال قريب في تونس ايضا،فللمقارنة البسيطة هنالك دول صغيرة الحجم ولكنها استطاعت تطوير القطاع الزراعي ليسد اغلب الاحتياجات المحلية ولتقوم بتطوير القطاع الصناعي لغرض التصدير والتغطية على النقص الغذائي ان وجد من قبيل اليابان(127 مليون) وكوريا الجنوبية(50 مليون)وتايوان(25 مليون) ودول اوروبا الغربية الصغيرة الحجم وذات الكثافة السكانية العالية مثل هولندا والدانمارك وبلجيكا والمانيا وغيرها!...فتطوير الاقتصاد هو الاكثر اولوية ضمن سياق التخطيط المستقبلي وليس التخطيط العشوائي المتضمن تخفيض عدد السكان دون تطوير حياة البقية مما يستدعي الحاجة لسد النقص الناشيء من ذلك التوجه الغير مدروس بعناية!.
هناك تعليقان (2):
بتشكرك على هذا الإيضاحات
حول هذا الموضوع ...
دمت بود ..
مقال جميل و به كثير من التعب
تعلمت منه أشياء جديدة
شكر لك
إرسال تعليق