مراجعات في الاحصائيات:
اجهزة الاحصاء والتخطيط من اهم الاجهزة في الدولة الحديثة وعليها تقع مسؤولية بناء الدولة والمجتمع،لان الاحصائيات الحقيقية هي اساس كل بداية والا لبقينا نجهل حجم امكانياتنا وقدراتنا التي توصلنا الى الطريق الامثل في تطوير حياتنا سواء في الحاضر او المستقبل فيما اذا تعاملنا معها بمهارة ودقة وحرص كما وانها تؤسس لبدايات جديدة في كل مرافق الحياة.
من نتائج الثورات العربية المعاصرة انها كسرت حواجز التعتيم والانغلاق في كل مداخلها ومخارجها،وكشفت لنا عن اوضاع مزرية كانت معروفة بطريقة جزئية متناثرة وليست كلية على مستوى البلد ككل!... فكشفت لنا عن المقدار الهائل من الاكاذيب الشائعة والتي اسست لجهل وتخلف وفساد لا مثيل له،واظهرت للعالم حجم الكوارث التي تحياها المجتمعات العربية بدون قصد منها بالتأكيد وانما من حظها السيء الذي اوقعها في شباك وحوش لا تمت للانسانية بصلة!.
هذا القول يتبادر للذهن بعد كل كشف جديد ومنها ما نشر لبعض الارقام الحقيقية لاحتياط الغاز المصري والذي قدره نظام حسني مبارك البائد عام 2008 بحوالي 76 تريليون قدم مكعب وظهر ان الرقم الحقيقي هو بحدود 28 تريليون فقط! وفق حسابات الخبراء المستقلين،والرقم السابق نشر لغرض تصدير الغاز الى الخارج وبخاصة الى اسرائيل للحصول على ايرادات سريعة دون الاهتمام بالحاجة المحلية للغاز لسنوات قادمة وايضا للحصول على استثمارات وقروض ضخمة وبضمانة ذلك الاحتياطي! وعليه فأن الواقع الجديد يفرض مراجعة سريعة لذلك القطاع الحيوي المتلاعب به!...
فهل نحن على ابواب ثورة معلوماتية حقيقية من الاحصائيات الدقيقة بغض النظر عن ماهيتها؟!وهل ان تلك الثورة المعلوماتية الدقيقة سوف تؤثر وتؤسس لمجتمعات حرة ومنفتحة تمارس الحرية المعرفية كجزء من منظومة الحرية الكاملة بعقلانية وواقعية؟!.
الدقة وحرية الوصول!
توصف قيمة الاحصائيات بالضعف اذا لم تكن دقيقة وقد تصل الى درجة العدم فيما اذا كان الوضع فيها خرافيا ولا يمت للواقع بصلة،وعليه فأن الحرص على الدقة في العمل الاحصائي هي ضرورة لا غنى عنها ولكنها ليست كاملة اذا لم تكن هنالك حرية في نشرها لكل طالب راغب لها وايضا لمن يحتاجها في عمله او تقييمه للوضع وتحليله لان القيمة العالية للمعلومة ترتكز على الدقة والتي من بينها الاحصاء بالطبع.
اذا تم حرمان الجميع من الوصول الى الاحصائية الدقيقة او تم تحريفها بأية وسيلة كانت فأن الضرر سوف يعود على الجميع وسوف يؤسس لمجتمعات مبنية على الجهل والتخلف والارتكاز على احادية الرأي السائد وسوء التقدير وسوف يؤدي الى العنف والانغلاق ومعاداة الاخرين الخ... من النتائج السلبية التي تحصل عادة في تلك الظروف والتي تؤدي الى كوارث مهلكة لا يمكن حتى توقعها وفي التاريخ خير عبر لنا في وقائع انتهت بكوارث نتيجة للتقدير الخاطئ للقدرات والامكانيات الذاتية او للخصوم والتي بنيت عليها قرارات خاطئة ساهمت في الوصول الى تلك النتائج المأساوية،والجميع يعلم ان المنع من التداول وصل الى جهل في طبيعة المجتمع الاسرائيلي الذي يعلم كل شيء عن المجتمعات العربية!... وبالطبع ان عدم الدقة لا تأتي فقط من حالة المبالغة في التقدير بل التقليل ايضا وهو يؤدي الى نفس النتائج الخاطئة وان كانت اقل نسبيا من الحالة الاولى! كما هو شائع في حالة التقليل من الخسائر اثناء الحروب لكونها مؤثرة على الحالة المعنوية لدى الطرفين!.
وهنالك حالة التقليل من قيمة وشأن القدرات الذاتية وتضخيم القدرات لدى الخصوم وهي حالة شاعت في العالم العربي بعد سلسلة من الهزائم،وهذا النوع اقرب الى الهزيمة النفسية من خلال الخوف والرعب من قوة الخصم وضعف الاعتماد على الذات والاستهانة بها الى درجة تحقيرها وتمكين الاخرين منها والخطورة لا تنتهي عند هذا الحد بل يمتد الى الاخرين الذين لا يمتلكون تلك الاحاسيس ولكن الحالة سوف تؤثر عليهم بالتأكيد لان رغبتهم في المقاومة والتصدي سوف تضعف بدرجة ما.
الاحصائيات في عصر العولمة:
اتسعت دائرة علم الاحصاء وتطبيقاته في العصر الحديث،واصبح سلاحا بيد الانظمة سواء في معرفة قدراتها او قدرات خصومها في الداخل والخارج،وعليه فأن الحرية قيدت بشدة في الانظمة الشمولية ولم تسمح الا بنشر ما ترغب بنشره وحسب ظروفها وسياستها سواء من صدق او كذب،اما الانظمة الحرة فهي بقيت في حيرة لان الدقة في العمل والنشر هو جزء من المنظومة الفكرية التي تعيش في ظلالها ولكنها في نفس الوقت تخوض صراعا مريرا مع دول اخرى تمارس السرية في العمل وعليه فقد اخضعت بعض المعلومات للحجب وسمحت بالاخر اذا لم يتعارض مع الامن القومي وان كان احيانا يعتبر سلاحا ضارا في وسائل الاعلام الاخرى!.
ولكن بعد بدء عصر العولمة في عقد التسعينات الذي شهد انهيار الصراع بين الشرق والغرب،اصبحت المعلومة متوفرة الى درجة ان العصر اطلق عليه بعصر المعلومات،واساس المعلومات هي المعلومات الرقمية بالتأكيد ولكن ذلك الانتشار المذهل للمعلومات والاحصائيات لم يواكبه دقة فيها بل ان التضخم شمل الجميع وبذلك اصبحنا نعيش في مشكلة التمييز بين الدقيقة من عدمها،ولكن المعروف ان للدول المتقدمة اجهزة احصائية واعلامية وقوانين متشددة وتطبق احدث الوسائل التكنولوجية الحديثة ولذلك فأن الاحصائيات المنشورة فيها دقيقة وتساعد على توجيه القرارات نحو الاختيار الامثل وتعطي صورة واقعية لامكانيات وقدرات الجميع،كما ان سياسة الحجب او عدم الدقة قد ضعفت بشدة ولا توجد من مشكلات رئيسية سوى مشكلة التفاوت في تقدير بعض الامكانيات التي تعتمد طرق حسابات مختلفة يشار اليها احيانا!.
لم تبقى متخلفة في هذا المجال سوى الدول النامية ومنها دول العالم العربي التي تمتلك اجهزة متخلفة نسبيا وتخضع للقرار المركزي في العمل والنشر! وعليه بقيت حالة الشك والريبة في كل ما تذكره من احصائيات او معلومات لانها سوف تكون دالة على عملها بما يخلفه من اخطاء تحاول الابتعاد عن نشرها حتى لا تثير الرأي العام وكذلك تعطي للعالم الخارجي صورة محسنة او مظللة عن الوضع الداخلي!.
الحالة شبيه بدول المنظومة الشيوعية السابقة التي اظهر الواقع بعد زوال الستار الحديدي،ان الاحصائيات التي تنشرها هي مبالغ فيها ان لم تكن مطلقة في الكذب! وكذلك لم تظهر حجم التخلف الكيفي مثلما هو في الكم! وعليه فأننا نقع في نفس الاخطاء السابقة التي وقع غيرنا بها وصحح مساره من جرائها،دون ادنى ادراك لذلك منا كي نتابع النتائج!.
لا تزال الكثير من الدول العربية تنشر ارقاما قديمة،وهي غير دقيقة على الاغلب في مختلف الاصعدة ومنه قطاع الطاقة المهم!...فالكثير من ارقام الاحتياطي النفطية والغازية هي غير دقيقة وقديمة الى درجة اصبحت علامة فارقة للدول العربية! فمثلا اغلب دول الخليج تعتمد ارقام عقد الثمانينات كأساس للانتاج الحالي الذي يرتكز الاقتصاد عليه! دون حساب كميات الانتاج خلال تلك الفترة الماضية! حتى ان الكثير من المنظمات الدولية صرحت بضرورة تجديدها وان تكون دقيقة ومعلنة لان الاقتصاد العالمي يبني توقعاته في سوق الطاقة على حجم الانتاج والاحتياطي لعقود قادمة!.
المراجعات والضرورة الحتمية!
يحتم الواقع الجديد في الدول التي تحررت من نظمها الاستبدادية ان تقوم بعملية مراجعة دقيقة للاحصائيات القديمة وتقوم بدلا منها بأجراء احصائيات مستقلة لا تخضع لاي تدخل من اي جهة او فرد لانها جزء من عملية الاصلاح والانفتاح التي يلهف الجميع الى تحقيقها باقصى سرعة!.
لقد كشفت الثورات العربية الخديعة الكبرى المتضمنة،النمو والقضاء على البطالة والفقر وظهرت الارقام الحقيقية المرعبة التي كشفت الواقع المزري والتي جعلت الوضع ينفجر!.
ومن ضرورات العمل ان يتم الاعلان عنها بحرية حتى لا يذهب الجميع الى المصادر العالمية لاستقصاء الحقائق لعدم وجود اي ثقة بما يتم نشره في الداخل!.
بداية الاصلاح والبدء بالتنمية الشاملة يكون من اعادة تقييم القدرات والامكانيات لبناء تخطيط مؤسس على دقة واضحة لا لبس فيها!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق