المعارضة بين الواقعية والمثالية:
منذ بداية نشوء انظمة الحكم المختلفة والمتعارف عليها...نشأت في مقابلها المعارضة والتي يمكن تعريفها بأنها:الجهة الاخرى التي تملك تصورا مخالفا للحكم من مختلف التوجهات وهي ساعية لتطبيقه في الحكم في حالة وصولها اليه ولكنها لا تملك اليد المبسوطة للتطبيق!...مما يعني ان مجرد المعارضة للحكم هو بمثابة رفض نظري وعملي للافكار والمبادئ التي يجري العمل بها! وهنا نقع تحت رحمة الحكم اذا كان يقبل بذلك ام يرفضه جملة وتفصيلا! كما ان نشوء المعارضة بمختلف توجهاتها يعود الى اختلاف البشر في مكوناتهم الدينية او الفكرية او الوراثية وعدم اتفاقهم بصورة مطلقة حتى يمكن تجنب المعارضة مما يعني ان مقولة عدم وجود معارضة ما هي الا خرافة لا يمكن تصديقها بأي حال من الاحوال وتحت اي ظرف كان!...
هذا بالاضافة الى ان المعارضة ليست دائمية لفرد او مجموعة بحد ذاتها، لانه قد تتحول للطرف الاخر اذا تغير الحكم للطرف الاخر ،مما يعني ان افراد الحكم السابقين قد يتحولون الى معارضين جدد في حالة فقدانهم للحكم كما نلاحظه في الدول الديمقراطية التي تخضع لنظام برلماني حر.
المعارضة الكلية والجزئية:
لا شك في ان درجات المعارضة مختلفة وليست في مستوى واحد او نسق عام او خاص مشترك،وبذلك نكون قد وضعنا مقياسا جديدا لتعامل الحكم مع المعارضة بحسب اختلاف درجة الرفض الشمولي الى الجزئي!...هذا يعني ان المعارضة قد تكون مشتركة مع الحكم بدرجة معينة من النسبية النظرية او العملية،او مختلفة الى درجة مطلقة بحيث لا يمكن حصول تنازل من الطرفين في حل وسطي يجنب مآسي النزاعات ودمويتها!...
المعارضة بمختلف درجاتها تنشأ غالبا اذا صدرت افكار واعمال من الحكم المعاصر وتخالف بنسبة ما مجموعة بشرية تحكمها،وكلما كانت تلك الافكار والاعمال متطرفة او مخالفة للمشاع كلما كانت درجة المعارضة اكثر تطرفا في التصدي لها والعكس ايضا صحيح مما يعني ان التطرف دائما يولد المعارضة المتطرفة ويكون الوضع اكثر قسوة اذا كان العنف مصاحبا للحالتين مما يعني ان حدوث تقارب بين الطرفين يكون صعبا للغاية،وهذا يعني ان الخضوع للنهج العقلاني هو بمثابة تجنب حدوث الكوارث المستقبلية وصيانة الامم من الانزلاق اليها مما يؤدي الى خسارة جسيمة في الارواح وما تملكه من مادة اضافة الى الزمن الضائع الذي لا يقدر بثمن ابدا والذي يتم تجاهله بغرابة شديدة من الطرفين احيانا!.
المعارضة الجزئية هي التي تشترك مع الحكم بدرجة ما في النظرية او التطبيق ولكن الاختلاف يكون في التفاصيل التي يجري السير عليها،وغالبا ما يكون الخلاف حول مستويات وتفاصيل التطبيق اكثر منه في الجانب النظري الذي يتم التساهل معه اكثر احيانا...وبالطبع يكون هذا النوع من المعارضة اقل قبولا للغالبية الراغبة بالتغيير او حتى خضوعه للمبادئ الاخلاقية العامة الداعية الى احترام ارادة الاغلبية لانه سوف يسير على نفس المنهج ولكن بأسلوب جزئي مختلف!...وهذا النوع من المعارضة يكون اقل استعدادا لتقديم التضحيات في سبيل تطبيق المثل العليا ويكون اسهل في تداوله في سوق العرض والطلب! بأعتبار ان المعارضة تتكون من نسيج غير متناسق لا يتفق بدرجة مطلقة ولكنه يتفق بدرجة نسبية قد تكون خاضعة للمساومة من قبل بعض الاطراف !...
المعارضة الجزئية تكون اقل عمرا من المعارضة الكلية المطلقة لانها متربطة بدرجة معينة من المشتركات مع الحكم وبالتالي فأنه في حالة زوال الحكم فأنها سوف تختفي او تضعف كثيرا حتى تصبح من مخلفات الماضي الموضوعة في متحف التاريخ الذي يضم كل رخيص ونفيس!...كما ان المعارضة الكلية تكون اكثر قوة وشعبية من المعارضة الجزئية لكونها حاملة لمشروع ادارة جديدة او تغيير جذري ممكن ان يحسن الاوضاع القائمة مما يجعل التطلع اليها هو بمثابة الرغبة في الخلاص من سلبيات الحكم التي تكون هي المغطاة على ايجابياته! لان البشر غالبا ما يتذكرون الاساءات او الاخطاء ولا يتذكرون المحاسن او الايجابيات التي قد يعتبرونها واجبة لا تستحق الشكر والتقدير!.
الامثلة كثيرة على هذا النوع من المعارضة وعلى مدار التاريخ رأينا صورا مختلفة له،فالانظمة الشيوعية السابقة في اوروبا الشرقية كانت تحمل في داخلها درجة معينة من المعارضة سواء في داخل الطبقات الحاكمة او خارجها! لان المعارضة قد تكون احيانا موجودة في الحكم نفسه!كما في حالة الائتلافات السياسية لتشكيل حكومات الشراكة الوطنية التي تكون غالبا هشه وغير واقعية للادارة كونها تنزلق الى مستنقع المساومات والمحاصصة المذمومة التي توصل غالبا غير الاكفاء الى مناصب لا يستحقونها! ولكن السبب في نشوئها يعود الى تعمق درجة الاختلاف بين الاطراف في عامل معين غير جامع!...وللخلاص من هذه السلبيات يكون من خلال عدم اخضاع القاعدة وبخاصة افراد الاجهزة التنفيذية الى تقسيمات الرأس الحاكم المتغيرة...
وللعودة للمثال السابق فأنه بعد سقوط الانظمة الشيوعية عام 1989 رأينا كيف اختفت المعارضة الجزئية او ضعفت الى درجة اصبحت تمثل فئات صغيرة جدا لا اهمية لها في الميزان الشعبي العام،ويمكن لنا تذكر النهاية المأساوية لاصدقاء لينين الذين اختلفوا معه بدرجة نسبية حول النظرية الماركسية والتطبيق البلشفي لها بحيث لم يبقى من افكارهم سوى ما موجود في كتب التاريخ والسياسة! بل حتى ان التروتسكية التي خالفت النهج الستاليني المرعب لم يبقى منها سوى مجموعات صغيرة تحمل رايتها لان تروتسكي نفسه كان عنيفا وان كان بدرجة اقل من همجية ستالين عندما كان جزءا من السلطة ولكن عنفه لم يستمر كونه طرد ونفي ثم اغتيل بعيدا عن بلاده! ولكن استمرارية فكره لحقبة طويلة يعود الى انه كان اقوى في درجة الثقافة والتنظير من ستالين ومن تحالف معه وبالتالي كان اقوى في الحجة والمنطق ثم حصول التعاطف معه بعد الطريقة البشعة في تنفيذ عملية الاغتيال!.
المعارضة الجزئية كانت ايضا في داخل الصين الشيوعية سواء اثناء حكم ماو تسي تونغ اوخلفائه والتي لم تستمر كثيرا ولذلك رأينا انهيار المعارضين الشيوعيين في محاولة انقلاب عام 1971 او محاولتهم تخفيف حدة الاحتجاجات في ثورة الطلاب عام 1989...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق