اسس البنية التحليلية:السياسة نموذجا -الحلقة الثامنة
وايضا في حالة الثورات والتي تكون حالة الهيجان في اعلى مراحلها مما يجعل السيطرة على المشاعر والاحاسيس والتي تطبق على ارض الواقع،من خلال مقارنة الاحداث التي جرت اثناء وبعد الثورات الكبرى في التاريخ من قبيل الثورة الفرنسية عام 1789 والثورة الروسية عام 1917.
انه امر صعب امام العقلاء واصحاب الرأي والقرار ان يخالفوا الشارع الثائر والناجح في ثورته التي تخرج غالبا عن طريقها المرسوم،ولذلك نرى ان عملية التحليل من جانب جهات بعيدة عن مراكز النزاعات للاحداث الجارية في بلاد اخرى تخضع لظروف قاسية من قبيل الحروب والثورات هي اكثر صوابية ودقة من اصحاب المشكلة او المتأثرين بها،وهنا يجب الابتعاد عن حالة الاستهانة بالاخرين لكون تحليلهم ضعيفا او قاصرا عن حل المشكلات العالقة لان حالة الانسان في اوقات الازمات خاصة التي يتم تحجيم الحريات فيها تختلف كثيرا عن اوقات الراحة والحرية والهدوء التي يعيشها والتي تساعده على ابداء الرأي لتحليل الاوضاع وطرح الحلول...
ليس شرطا ان يكون الزمن دائما في جانب المتأخر الزمني! بمعنى ان ليس من الضروري ان تكون جودة التحليل اقوى في زماننا من الماضي بسبب كون الماضي ايضا حاويا لعقول جبارة قيمت الامور وفق اطر ابداعية ولكن قد تكون الظروف غير ملائمة لها في طرح الاسباب والحلول الممكنة او انهم سابقين لزمانهم! ولذلك نرى ان الكثيرين من الكتاب والمفكرين كانت لهم آراء في غاية العمق والقوة والدقة في زمانهم بينما نرى الكثيرين في الوقت الحاضر تكون ارائهم في غاية الضعف والضحالة بل سخافة لامبرر لها والناتجة من اسباب شتى بحيث يكون انعدام استفادتهم من العامل الزمني واضحا وبمثابة اطلاق صفة الجهل والتخلف عليهم لان هذا العامل مهم جدا في حالة الاثارة والتقييم!...
اما العنصر الثاني،وهو المكان...ولا نقصد به المكان الجغرافي الخارج عن سيادة الحدود الدولية،بل هو المكان في داخل البلد نفسه من خلال الاماكن العامة والخاصة وتأثيرهما على الحالة العامة للتحليل...
لا شك في ان المراكز الاكاديمية العالية تكون بمثابة الخزانات البشرية القادرة على التحليل من مصادره الرئيسية المعروفة لان المستوى التعليمي والمعرفي يكون اعلى عندهم من غيرهم وبالتالي يكون الاعتماد الرئيسي عليهم من خلال استشارتهم في مختلف القضايا او منحهم الحق بالتحليل وفق ما توصلوا اليه من خلال امتلاكهم لقدرات معرفية كاملة ...ولكن مع الاسف الشديد فأن النمو الكمي في اعداد المنتسبين للدراسات الاكاديمية رافقه نمو سلبي في الكيف،بمعنى ان القدرات المعرفية للفرد الحالي اصبحت اضعف بكثير من الماضي! بينما المفروض ان يكون الواجب العلمي هو ان القدرات المعرفية المتراكمة يجب ان تكون عامل ايجابي وليس سلبي في بناء القدرات الفردية والتي استفادت احيانا من التطور التكنولوجي في خلق مجال افضل من الرفاهية والفراغ لدى الفرد...ويعود السبب الرئيسي الى الاهمال الشديد من كلا الطرفين سواء من قبل تلك المؤسسات او الافراد ولاسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا! ولذلك نرى المستوى الهزيل في البناء المعرفي وخاصة من ناحية الثقافة الخارجية التي تعطي للفرد قدرات اضافية بلا شك وتساعد على بناء الشخصية وتطويرها بما يخدم اغراضها النظرية والعملية لان المعرفة الاكاديمية تبقى قاصرة عن منح الفرد القدرة الكاملة للتطور والتحليل لان الدوافع الذاتية تبقى اكثر فعالية وتأثير على الفرد من الدوافع الخارجية عليه والمتمثلة بالواجب التعليمي الذي هو اشبه بحالة التجنيد العسكري الاجباري الذي يشمل جميع الشبان القادرين على حمل السلاح مما يعني وجود اعداد كبيرة بينهم غير قادرة او راضية عن العمل العسكري! بينما تكون الحالة اكثر ايجابية وانفتاح في حالة التطوع التي يتم اختيار الشخص الراغب من خلال توفر الصفات والرغبات المطلوبة مما يعني وجود عنصر قوي قادر على الدفاع افضل بكثير من العنصر المجند! ولذلك نرى ان غالبية الدول الان قد الغت عملية التجنيد الاجباري ولا ترجع اليها الا في حالة الضرورة القصوى لانعدام الكفاءة فيها!...
اذا فأن المستوى الفكري والتعليمي للكوادر القديمة هي افضل بكثير من الكوادر الحالية الا في حالة العلوم والتكنولوجيا التقنية والتي تطورت من خلال التراكم العلمي نفسه!...
المستويات التعليمية والثقافية لطبقات المجتمع تظهر نتائجها من رؤية طرق التفكيروالتحليل،وهي تختلف بالطبع بأختلاف الطبقات والمستوى الثقافي للفرد نفسه،وقد نرى احيانا اناس بسطاء في المعيشة او لم يحصلوا على قدر كاف من التعليم ولكن لديهم القدرة التحليلية الهائلة والتي يكون مصدرها اما وراثيا او من خلال البيئة او الموهبة الفطرية او المكتسبة!...وعموما فأن امثال هؤلاء هو اقلية تثير الانتباه ولكن منسية وغير قادرة على اثبات نفسها في المجتمع...
مراكز ومؤسسات المجتمع هي احدى الاماكن الهامة التي ترفد الانسان بالقدرات الضرورية لعملية التحليل،من قبيل الاشتراك في المنتديات الثقافية والالتزام في الحضور او المشاركة في الجمعيات الثقافية او الدينية او السياسية او الانتماء الى الاحزاب والمنظمات السياسية التي تقوم بعملية تثقيف كبير لمنتسبيها بغية توعيتهم وتعبئتهم فكريا لمواجهة الخصوم مما يعني ان لها تأثيرا ايجابيا بالرغم من سلبيات الاتباع الذي يدافعون بشدة عن فئاتهم بدون وعي او نقد ذاتي!...
من ابرز الاماكن الشعبية والتي تكون محل اهتمام الجميع،هي المقاهي بكافة انواعها وان كانت الاهمية بالطبع تعطى للمقاهي الثقافية التي يتواجد المثقفون فيها للتسلية والترفيه او لتدارس الامور،وحينها يمكن للانسان البسيط الحضور والاستفادة بدون تعصب من خلال وجود اصحاب الرأي والخبرة والذين يقومون بأبداء آرائهم المختلفة حول كافة القضايا خاصة التي تتعلق بأختصاصاتهم العلمية او الادبية...لقد لعبت المقاهي دورا كبيرا في بناء القدرات الفردية من خلال الاحتكاك المباشر مع اصحاب الفكر والرأي والذين هم في الغالب يكونوا منشغلين في معاركهم الادبية مثلا مع آخرين من الخصوم في ساحات النزاع وهي المقاهي الشعبية! وقد استطاعت بعض المقاهي ان تبني لنفسها شهرة محلية او عالمية من خلال بروز العديدين فيها من الزوار واصبح من النادر ان نجد بلدا ما بدون المقاهي التي تنتشر فيها الافكار والاراء والطروحات الميدانية ولذلك نرى عن بعض الاحزاب قد نشأ من داخل بعض المقاهي! ...وفي الحقيقة ان اللجوء للمقاهي الثقافية كان بسبب عدم وجود مؤسسات آخرى تقوم بتجميع الناس وبخاصة الطبقة المثقفة فيها مع منحهم الحرية الكاملة في التعبير لذلك أخذت المقاهي دور تلك المؤسسات وان كان من سلبياتها انها تضم العاطلين عن العمل والكسولين الغير جادين في بناء حياتهم من جديد!...ومع هذا فأن الدور الايجابي واضحا بلا شك بل ان بعض الثورات بدأت شرارتها من خلال تواجد الثوار في بعض المقاهي او وجود اجتماعاتهم فيها!... وكذلك فأن ابداع الكثيرين من الكتاب والمفكرين والادباء كان يبدأ من المقاهي وقد تجلى ذلك في عدد كبير من النتاجات الادبية المشهورة، فحالة التلاقح بين ادمغة البشر في تلك الاماكن يساعد كثيرا على ولادة ابداعات رائعة الجمال ...
وهنالك اماكن اقل اهمية تدعى الدواوين او المضايف وهي تنتشر في شبه الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام،وقد اشتهر لبعض الادباء او السياسيين بل وحتى رجال الدين بأن لهم تلك الاماكن التي هي اماكن لانتاج الافكار من خلال المناقشات الحرة الناتجة من مزج عقول الداخلين فيها مع استبعاد كامل لمجالس اللهو والطرب المنتشرة والتي تفوق في عددها الاماكن الثقافية!...
المكان الاخير الذي يمكن الاشارة اليه والغريب بالطبع!...هي السجون والمعتقلات الجنائية والسياسية! لانها تجمعات من بشر ناقمين على الدولة والمجتمع ومن مختلف الطبقات ومعبرين عن ذلك السخط احيانا بأعمال جنائية او تمرد سياسي! ولذلك وصفت السجون والمعتقلات وخاصة في الدول الاستبدادية والتي تعتقل الكثير من الابرياء من اصحاب الفكر والرأي،بأنها جامعات لتخريج الثوريين!...فليس غريبا ان نرى ان هنالك الكثيرين من القادة والساسة هم من خريجي تلك المراكز التأديبية الوحشية! والتي اصبحت مراكز للتثقيف والتعليم لكونها اماكن لمراجعة الذات ومحاسبتها او اعادة بناء الذات لمواجهة الدولة والمجتمع من جديد!،ولذلك فأن بعض الطغاة ومن خريجي السجون قد انتبهوا لتلك الظاهرة وخطورتها عليهم من خلال توليد اشخاص جدد قادرين على تهديدهم فاستفادوا من تجاربهم معها كثيرا مما ادى الى قيامهم بأعمال اجرامية من خلال قتل اكبر عدد ممكن او تدمير شخصية السجناء ومسخها من خلال ممارسة اقصى انواع التعذيب النفسي او الجسدي!...وكان من ابرز الطغاة الذين استفادوا من تلك التجربة هو ستالين ثم تلاميذه النجباء في العالم العربي !...فمن خلال توفر الفراغ هناك مع وجود اشخاص يمتازون بأمتلاكهم لثقافة عالية او روحا ثورية ناضجة،تكون الاستفادة في اعلى مراحلها من خلال المناقشات الحادة التي تحدث بين المجموعات المعتقلة بشرط تجاهل الدولة للامر وتوفيرها المواد الخام(المواد المطبوعة والمرئية) لبناء العقول الجديدة القادرة على التمييز من خلال الاستعانة بقدرات المدرسين المعتقلين!...
اذا للمكان والزمان تاثيران كبيران على بناء القدرة الفردية للتحليل السياسي ويظهر التأثير من خلال النتائج العملية الصادرة والتي تتكون من مجموعة من العوامل والمصادر المختلفة التي لا ينبغي اهمالها!...