اسس البنية التحليلية:السياسة نموذجا -الحلقة السابعة
الزمان والمكان واثرهما:
كما هو معروف فأن للزمان والمكان اثرهما الفعال في تكوين البنية التحليلية بصورة عامة وهي ناتجة من التراكم الموجود بفعل التطور الحضاري الانساني المستمر،وايضا بسبب تاثيرات المكان من خلال المكونات الثقافية والموروثات البيئية والتي لها تأثيرا بارزا في العملية التحليلية برمتها وخاصة في المجال السياسي...
ولكن كيف يكون للزمان تاثيره في العملية التحليلية؟!...
في الحقيقة ان الزمن عامل مهم في بناء البنية التحليلية وليس فقط في حالة الماضي بل ايضا في الوقت الحاضر للبنية التحليلية...ففي الحالة الاولى فأن التحليل السياسي سوف يناسب عقول الناس في وقت حدوثه،بمعنى ان عملية التحليل السياسي في السابق هي اقل مستوى بكثير من الوقت الحاضر والذي سوف يكون اقل مستوى بالتأكيد من المستقبل!...اذا نحن في داخل عملية تراكم معرفي سوف تؤثر في البنية التحليلية وتساهم في تطورها بفعل الخبرات الزمنية والافكار العلمية الجديدة...ولذلك نرى ان عملية التقييم للاحداث التاريخية هي تتجدد بأستمرار وتصبح اكثر ثراءا من خلال التقدم المستمر في العلوم المختلفة،بحيث نرى ان قراءة الحدث التاريخي تختلف بأختلاف الازمنة وتأثيراتها الجانبية وللتبسيط اكثر نقرأ الاحداث التاريخية بطريقة اكثر موضوعية وعمقا من السابق الذي يقرأها ايضا وحسب المستوى العلمي الموجود آنذاك،فعلى سبيل المثال الثورات التي حدثت في العالم الاسلامي او في اوروبا،فأن القراءة الحالية لها تكون مختلفة الى حد كبير من القراءة السابقة والتي تكون في اضعف حالاتها عند وقوع الحدث نفسه! لان الحالة النفسية للانسان مع خضوع اللاوعي للاحداث والبيئة وغيرها من العوامل الاخرى،تجعل من الصعوبة عليه ان يقوم بعملية تحليل منطقية وموضوعية لاستحالة الحياد او انعدام التأثر التي لها تأثير بارز على عملية التكوين التحليلي،ولذلك فأن القراءة للماضي من وجهة نظر حالية هو افضل بكثير من القراءة السابقة خاصة مع وجود قراءات متعددة خلال الفترة الواصلة بين الحدث نفسه وبين الزمن الحالي،والتي تفيد قراءة الحدث من وجهة نظر جديدة،ولكن يبرز امامنا سؤال محرج وهو هل يمكن الاستهانة بعقول الماضيين او من عاش الحدث نفسه؟!! لكوننا اكثر تطورا منهم ...وللجواب يمكن القول ان الانسان في المستقبل سوف تكون له نفس التساؤل والاجابة الحالية عنا سواء سلبية او ايجابية!...ولذلك فأن الاستهانة خطأ كبير لا يمكن تبريره ولكن يمكن القول ان القراءة الهادئة ومن خلال استخدام ارقى واعمق الوسائل النظرية المتاحة هي تكون في المستقبل لكون عملية الاستفادة اكثر وايضا الخروج من دائرة التأثير الكلي الى دائرة التأثير الجزئي والمتمثلة بالموروثات والتي يخضع لها الانسان الحالي بدون مناقشة لها او تمحيص لمصادرها ونتائجها ولكنها تضعف بمرور الزمن!...
لكن مع التأثير المهم للزمن فهل يمكن رؤية مخاطر على العملية التحليلية من المؤثرات الناتجة منه؟!...
الجواب:نعم ايضا للزمن الحالي سلبيات وبالرغم من وجود كافة الوسائل المتقدمة من خلال وجود مؤثرات قوية عليه تتمثل في الحالة الجمعية للشعوب،بمعنى ابسط هو ان الحالة النفسية والمادية للشعب يجب ان تكون في اعلى درجة من الهدوء والراحة! لان في الانعدام او الضعف تظهر تأثيراتهما السلبية على التحليل السياسي برمته...فمثلا ان حالة الحروب والنزاعات والتي تخضع فيها المجتمعات الى اجراءات تحد من حرية الفرد والمجتمع وخضوع الجميع الى عملية قذرة تسمى بغسيل الادمغة والتي هي خضوع الفرد مع مسخ شخصيته الاستقلالية الحرة من خلال الاعلام الموجه سواء اكان حكومي او معارض ! مع وصول عملية التأثر السلبي المزدوج من الحروب والعنف الى داخل النفوس مما يؤثر على نفسية الفرد بل يدمر كل انسانيتها سواء كليا او جزئيا والتي تظهر في تحليلاته المنطقية الفاقدة لجوهر الموضوعية المستندة غالبا على شرط الهدوء بغية البحث عن حلول جذرية للمسائل المتنازع عليها والتي لا تأتي من خلال البحث في ظروف العصبية والتعب النفسي وانعدام التوازن ولذلك نرى ان الانظمة والشعوب التي تخوض نزاعات كبرى مع الاخرين تكون النتائج السلبية ظاهرة للعيان من خلال ردود الفعل في حالة الوعي او بدونه من خلال صدور القرارات او البحث في مصادر المشكلة او تحليلها بغية الوصول الى نتائج عملية لحلها وتجنب الاخطاء مستقبلا في حالة حدوث نفس المشكلة ووفق ظروف مماثلة...
مثال محرج: هنالك بالتأكيد امثلة عديدة اذا تم استعراض التاريخ،ولكن نذكر هنا مثالا محرجا دالا على فقدان الوعي الجمعي لشعوب بأكملها الا لزمرة قليلة تكون مع الاسف الشديد شاذة في وقتها بالرغم من قوة ادلتها العقلية والنقدية! ولكن تتعاظم بطريقة مثيرة مع تطور الزمن لتصبح الفئة الشاذة هي الغالبة والفئة السابقة الغالبة هي شاذة في المستقبل مما يضعنا امام حقيقة مثالية وهي انه لا ثبات للمواقف والافكار والرؤى في حالة السيادة على الساحة فقد تتغير مع تغير الظروف وقد تثبت ايضا! وحسب الموقف والظرف.
المثال هو: اثناء حرب 1967 بين الدول العربية واسرائيل،نلاحظ ان شعوب الدول المهزومة عسكريا وهي مصر وسوريا والاردن لم تطالب بمحاكمة المسؤولين المباشرين عن تلك الهزيمة العسكرية المخزية من دولة صغيرة الحجم لثلاث بلاد اكبر منها ومدعومة من قبل بلاد عربية اخرى ايضا!... بينما عادة في الدول ذات الحكم الديمقراطي والتي تتعرض الى اي مآساة قومية مثل الحروب او حتى النكبات الطبيعية فأن اللجان التحقيقية والمحاسبة تأخذ دورها وتعطى لها الصلاحيات الواسعة ويكون جميع المسؤولين خاضعين لاجراءاتها وولذلك نرى ان اخطاء صغيرة قد تسقط حكومات قوية في دلالة واضحة على مدى قوة الوعي والثقافة والشجاعة لدى القوى الشعبية بالاضافة الى توفر الشجاعة الادبية في الخضوع للقانون واحترامه مما يدل على وجود بقايا وطنية لمن يتعرض الى اتهام فقدانها من لدى مرتكبي تلك الاخطاء!...ومن الامثلة على ذلك اسرائيل نفسها فبعد حرب 1973 وهزيمتها الجزئية فيها،فقد تبعها اجراء محاكمات ولجان تحقيقية للمسؤولين عن تلك الحرب وظروف اندلاعها وهي تسببت في نهاية مداولاتها في سقوط الكثيرين مما يعني ان الوعي في تحمل المسؤولية سوف يزداد امام الحكام الجدد بسبب عدم الرغبة في الوقوع في نفس الاخطاء والاثبات بالتمسك بالثوابت الوطنية وهذا ادى الى تحسن كبير في اداء الحكومات الاسرائيلية بعد تلك الحرب بغض النظر عن الرأي في ذلك الاداء...بينما في المقابل العربي تطور الامر الى شيء فريد من نوعه وهو قيام الرئيس المصري عبد الناصر بتقديم استقالته اثناء الحرب واعلانه تحمله المسؤولية المباشرة للهزيمة النكراء ولا ندري مدى صدقية ذلك فهي خاضعة لتأويلات عديدة اغلبها يبعد الصدقية!،وفي المقابل فأن رد الشعب المنهوك خرج بطريقة اثارت انتباه الكثيرين من البلاد المحكومة بنظم حرة، الى الشوارع بطريقة تهيج جمعي فظيعة ودالة على فقدان القدرة على التوازن والعمل وفق المنهج النقدي المعروف في ضرورة محاسبة جميع المسؤولين عن تلك الهزيمة المنكرة وتقديمهم لمحاكمات عادلة تخلص البلاد منهم وممن سوف يتبعهم في المستقبل ويحاول العمل بنفس الطريقة والاسلوب في الحكم!...ولذلك عندما رأينا اعداد غفيرة من الناس تخرج مطالبة الرئيس بالعدول على الاستقالة وكأن البلاد ليس فيها من هو قادر على تحمل المسؤولية مما يعني ان الهزيمة الداخلية كانت موجودة قبل ان تكون هنالك هزيمة خارجية!ثم راينا بطريقة المسرحية الهزلية كيف عاد عبد الناصر عن استقالته فورا وبدئه بمحاسبة رفاقه بعد تحميلهم المسؤولية المباشرة للهزيمة!...لقد كان الخروج عن رأي اغلبية الشارع بمثابة الخيانة الوطنية حينذاك! ولكن مع ذلك فأن عدد كبير من الطبقة المثقفة الحرة جاهرت برأيها بضرورة التغيير والمحاسبة ثم اخذت اعداد اضافية تعبر عن آرائها الحقيقية ولكن بعد وفاة عبد الناصر عام 1970! مما يعني ان الخوف بقي بالرغم من شدة الهزيمة كامنا في النفوس التي فضلت البقاء على قيد الحياة ذليلة على ان تجاهر برفض الهزيمة والخيانة!...كان من الصعب جدا ان يخرج العقلاء واصحاب الفكر من دائرة التأثير والهيجان الزماني والمكاني حينذاك ولكن الان الظروف تغيرت بالرغم من التمسك غير المنطقي والعقلاني لدى البعض في دعم سلوك الرافضين للتغيير والمحاسبة! اما الان فأن الظرف الزمني تخلص من تأثيرات تلك المرحلة واصبح النقد اكبر للحالة الواقعية بحيث اصبح مقاربا للنقد الغربي في مفاجأته من ان شعب منكوب يطالب بعودة زعيمه الديكتاتور المهزوم والمتسبب ليس فقط للهزيمة العسكرية بل لاغلبية المشاكل التي حاصرت البلاد قبلها وخاصة من الناحية الاقتصادية او من ناحية الرعب الامني!.
ان عدم وجود محاسبة نقدية ادى الى تكرار نفس الاخطاء في مصر لان انعدام المحاسبة معناه ليس فقط تكرار للاخطاء بل تشجيعا عليها دون الخوف من المستقبل والعقاب لان كارثة بحجم نكبة 1967 لم تستطع تنبيه الشعب من الغفلة فكيف تكون النكبات الصغيرة التالية لها؟!...انه لامر مرعب بلا شك ولا يخص مصر وحدها بل اغلبية شعوب العالم العربي،بل وبعض بلاد العالم الثالث!...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق