اسس البنية التحليلية:السياسة نموذجا -الحلقة السادسة
البيئة والتحليل:
للبيئة تأثيرا هائلا على اسس البنية التحليلية،فهي شمولية بكل معنى الكلمة،لانها تتضمن التأثيرات الدينية والاجتماعية والاقتصادية والعرقية واللغوية والتاريخية والجغرافية الخ من التصنيفات العديدة التي تدخل في نطاق تلك الكلمة...
يدخل تأثير البيئة في كل فروع ومناهج ونتائج العملية التحليلية ولذلك من الصعب جدا ليس فقط التمييز بل استحالة الفصل!...
ومن هذا المدخل يمكن القول ان البيئة تدخل وبشكل يهدد من سلامة العملية التحليلية برمتها! ومن ضمنها عملية التحليل السياسي والتي هي مكون معرفي تتداخل فيه مختلف العلوم وخاصة الانسانية منها...
للبيئة تأثيرين ايجابي وسلبي على عملية التحليل السياسي،ولكن الاثر السلبي هو اكثر طغيانا وشيوعا بسبب قوة التأثير البيئي على الشخصية الفردية لانه احد ابرز مرتكزاتها بكافة اسسها المعروفة وخاصة الدينية والعرقية والاجتماعية...
من المستحيل ان يتم انتزاع الاثر البيئي من مكونات الشخصية الفردية! ولكن في نفس الوقت يمكن تحجيم هذا الاثر او الاستسلام له!...وفي الحالتين يكمن الخطأ!..لان التطرف غالبا ما يبعد الفرد عن الحقائق المتعددة الاراء!.
عموما يمكن الاستدلال من القول السابق ان كلما كان الفرد مبتعدا عن تأثيرات بيئته في التحليل كلما اقترب من الموضوعية ولكن بشرط ان لا يعوض الابتعاد بالعداء الصريح لبيئته الاصلية كما يفعل بعض دعاة التغريب والحداثة!...والعكس صحيحا ايضا وهو كلما استسلم الفرد الى تأثيرات بيئته فأن عملية التحليل سوف تضعف بشكل يدعو الى اهمالها لفقدانها الاصول الموضوعية في البحث والتقييم!...
عموما يمكن الاستدلال من القول السابق ان كلما كان الفرد مبتعدا عن تأثيرات بيئته في التحليل كلما اقترب من الموضوعية ولكن بشرط ان لا يعوض الابتعاد بالعداء الصريح لبيئته الاصلية كما يفعل بعض دعاة التغريب والحداثة!...والعكس صحيحا ايضا وهو كلما استسلم الفرد الى تأثيرات بيئته فأن عملية التحليل سوف تضعف بشكل يدعو الى اهمالها لفقدانها الاصول الموضوعية في البحث والتقييم!...
اذا كان ذلك صعبا فمن هو المحظوظ في التقييم والتحليل؟!...
الجواب:هو الشخص المحايد الذي يكون غير خاضع لتأثيرات البيئة في القضايا التي تحدث بين فرقاء متعددين!...ولذلك نرى انه اذا امتلكنا الوسائل المعرفية الكافية لعملية التحليل السياسي،فأن صفة الحياد تجعلنا اكثر موضوعية ودقة في استخدامنا للوسائل المعرفية،فعلى سبيل المثال بالنسبة لمواطني الشرق الاوسط يكون تحليلهم للاوضاع في امريكا اللاتينية هو قوي لان فرص الخروج من الحياد ضعيفة الا اذا كان الصراع بين اليساريين واليمينيين والمراقب كان يميل الى احدهما!...ولذلك نرى انه حتى في هذا المثال الواقعي الدال على ابعاد كاملة متعددة الجوانب فأن للبيئة تأثيرا ولو بسيطا كأن يكون الاعتقاد السياسي مثلا!...
في مثال اخر اكثر واقعية بالنسبة لمواطني العالم العربي او الاسلامي،وهو الرؤية والتحليل للصراع بين الاسرائيليين والفلسطينيين،فمن جانب مواطني العالم الغربي فأن اغلبية التحاليل سوف تكون في صالح الطرف الاسرائيلي بسبب البيئة،بينما اغلبية التحاليل من جانب طرف العالمين العربي والاسلامي سوف تكون كفة الميل في صالح الفلسطينيين! حتى ولو كان التحليل خاطئا الى حد ما،لان الاثر البيئي سوف يشل المقدرة الفردية على الاستقلالية والموضوعية في التقييم!...نعم قد نرى في الطرفين شواذ الا ان اغلبية الشواذ سوف يكونوا في حالة من العداء مع الموروثات البيئة وصراعاتها مع القيم والمبادئ الانسانية المختلفة التي قد تتآلف او تتخالف مع القيم والمبادئ الموروثة والمكتسبة بفعل الاثر البيئي مما يجعل تلك العملية ايضا غير واقعية!...
التحليل المقارن:
للوصول الى اقرب التحاليل موضوعية في تلك الاجواء المرعبة،يكون في حالتي التحليل الحيادي او التحليل المقارن!...
عرفنا حالة التحليل الحيادي من خلال البعد بكافة انواعه عن حالات الصراع او المشاكل الواقعة في بقعة جغرافية بعيدة ومعينة...
عرفنا حالة التحليل الحيادي من خلال البعد بكافة انواعه عن حالات الصراع او المشاكل الواقعة في بقعة جغرافية بعيدة ومعينة...
ولكن ماهو التحليل المقارن؟!...
عملية التحليل المقارن هي طرح جميع الاراء على طاولة واحدة والبحث فيها يكون على جوانب القوة والضعف المستندة على الحجج والبراهين وطرق الاستدلال والنتائج الظاهرة منها...
اذا عملية التحليل المقارن ليس متعلقة فقط بالمقارنة بين بنية العملية التحليلية فحسب بل ايضا في نتائجها،وعن طريق تلك العلمية نستمد القوة الحقيقية للعملية التحليلية عن طريق الاستفادة من كافة نقاط القوة في البنية والابتعاد بقدر الامكان عن جوانب الضعف فيه مع وجود شرط الشجاعة الادبية في مجاهدة الاثر البيئي السيء على العملية برمتها في حالة كون الاثر البيئي بعيدا عن جادة الصواب!...
للسهولة اكثر يمكن تطبيقه على المثال السابق(الصراع في فلسطين) من خلال عرض كل الاراء والنظريات التحليلية سواء في حالة الطرفين او حالة الطرف المحايد والمزج بينها،وهذا مفيد للطرفين بمعنى انه يكون عامل قوة لاي طرف يحاول الاستفادة من قوة خصمه او القوة الحيادية...وبالرغم من ان الطرفين في الواقع هما بعيدان عن تلك العلمية العلمية الصحيحة الا ان الطرف العربي بصورة عامة هو الاكثر بعدا بسبب كون مجال الحريات الفكرية والسياسية المتاحة هي محدودة بينما في حالة الوضع الاسرائيلي فأن المجال اكثر انفتاحا برغم شدة التأثيرات البيئية الدينية والاجتماعية والعرقية عليهم!،ولذلك كان العرب يجهلون آراء الاسرائيليين او اوضاعهم بصورة شبه مأساوية من الناحية المعرفية بسبب الحظر الحكومي،ولذلك اذكر في بداية السبعينات من القرن العشرين كيف واجه مؤلف كتاب(ممنوع من التداول)وهو الصحفي المصري محمود عوض عندما نشر فيه مختصر لبضعة كتب اسرائيلية تتناول حالة الصراع من وجهة نظرهم ثم قام بالتحليل المعقب لها في كتابه والذي كان موضوعيا ومن باب اعرف عدوك! وبالرغم من هذا فقد كان قاب قوسين او ادنى من الاعتقال!.
الابتعاد المكاني والزماني لا يؤثران بصورة كافية للتحرر من التاثيرات البيئية! لان تلك التأثيرات متأصلة في النفوس بصورة عجيبة خاصة في آثارها السلبية الواضحة المعالم!...ومن هنا نرى ان عملية الهجرة والاغتراب في الحالتين القسرية والاختيارية لا تؤثران بدرجة تدعو الى الاستفادة من الطروحات الجديدة...نعم في حالة الناقمين على الاوضاع في الوطن الام او الهاربين من جورها فأن اثر الهروب والنقمة سوف يكونا مانعين بصورة شبه كاملة للموضوعية في التحليل ولذلك يرفض الكثيرون ما يقوم به امثال هؤلاء والذين يملئون الدنيا ضجيجا بصراخهم ويشغلون وسائل الاعلام بظهورهم المتكرر الذي يمنع الاخرون منه!...وهنالك الكثير من الامثلة من قبيل سلمان رشدي في بريطانيا والصومالية آيان هيرسي في هولندا سابقا وحاليا في امريكا!وغيرهم كثيرون وبخاصة الذين يظهرون في القنوات الفضائية العربية الباحثة عن عن كل وسائل الاثارة ونتائجها الخطيرة لاسباب شتى وبدون اي منهج علمي واقعي ورصين يميز بين اصحاب المعارف الحقيقيين من المدعين لها!.
حالة هؤلاء تثير الحزن والشفقة من عدة جوانب،فهم يتصورون انفسهم قيميين على تراث وقيم وسلوك شعوبهم الاصلية وانهم اصحاب معرفة عالية جديدة لا يمتلكها آخرون خاصة في حالة الادعاء بأستيعاب التراث الغربي وثقافاته المتنوعة!بالاضافة الى الرغبة في الشهرة والمال الزائفتين!... ويمكن وبجهد معرفي بسيط ايجاد مقياس تقييمي محكم لهؤلاء الشواذ! من خلال دراسة سيرتهم الذاتية ومستواهم العلمي والمعرفي والاسس والادعاءات الفارغة في طروحاتهم الهزلية البعيدة عن كل مواقع القوة المعرفية المحايدة مع الدوافع الذاتية.
وفي الاتجاه الاخر يكون اثر البيئة واضحا لدى مغتربي الهجرة القسرية والاختيارية،من خلال رؤية افراد عديدين يمثلون الاتجاهات نفسها في بلدانهم دون ان نرى اثرا حقيقيا في التغيير على سلوكياتهم ولو على درجة معينة يمكن الاستفادة منها في تغيير الاراء والتحليلات،اللهم الا في حالة الاستفادة من المناخ التحرري او الرخاء المادي،وبالطبع يكون اسوأ هؤلاء هم الانتهازيون واصحاب المواقف المتأرجحة!...ويمكن رؤية امثال هذا الاتجاه والذين يكون اثر البيئة المتوارث واضحا لديهم في كتاب الصحف العربية الصادرة في دول الغرب مثل الشرق الاوسط السعودية او القدس العربي ذات الاتجاه القومي! وغيرها .
ليس الهدف في الوصول الى اعلى درجات السمو في التحليل هو التخلص من كافة التاثيرات البيئية بل هو استخدام كافة الوسائل النقدية والعلمية بغية الوصول الى اقرب نقطة واقعية من عملية التحليل،وهذا القول لا ينطبق على بيئة دون اخرى بل على الجميع،ولكن في ظل العولمة الجديدة وتحول العالم الى قرية صغيرة يمكن القول ان أثر البيئة قد خفت حدته بصورة نسبية الا في حالات الانغماس الكلي في مستنقعات الجهل والتخلف كما يحدث في صراعات الانظمة المستبدة وتحول نسبة كبيرة من شعوبها برغم عدائها لها الى قطيع من الاتباع الغير واعين اومدركين لعواقب الامور وخطورتها، وحالة العالم العربي مثالا بارزا .
لذلك من الصعب جدا فرض التحليل السياسي الموضوعي والمنطقي في ظل تلك الاجواء وبخاصة من قبل المتعصبين من الطبقة المثقفة او السائرين في طريق الجاهلية الثقافية! والحالتين خطرتين الى درجة تبعث على اليأس والقنوط ،لان سيادة المنطق الخاطيء لا يمكن زحزحتها بسهولة بدون قبول صاحبها الذي هو حامل لصفات الجهل المركب!.
الاثر البيئي يكون ظاهرا بشكل مثير من خلال الادعاء بخطأ الاخر او تقييمه من خلال امتلاك وسائل اعلامية اكثر وفق الموروثات القبلية او العرقية او غيرها! ولذلك نرى سيادة عنصر ما على المستوى الاقليمي والدولي على عنصر آخر يفتقر لمكونات القوة بالرغم من امتلاكه للقوة الاستدلالية لان العالم في طبيعته التكوينية الازلية مثل الغابة! الاقوى هو الذي يسود والضعيف دائما يكون جهولا! وعليه بالتالي الخضوع للقوي الذي يكون زائفا احيانا بالرغم من ان القوة ليست هي الحق بل الفارق بينهما كبيرا!.
التحليل السياسي اذا كان متعلقا او قريبا من مكون ثقافي بارز في الشخصية،فمعنى ذلك ان الخضوع للاثر سوف يظهر بلا وعي من خلال عملية التحليل والتقييم! فمثلا في حالة الصراع الديني او المذهبي فأن الميل يظهر واضحا لدى الشخص المنتسب الا اذا كان متحررا من ذلك الانتماء واذا كان الحق ظاهرا بشكل يكون البعد عنه نفاقا ولذلك فأن عملية التقييم العدائية تكون ضعيفة المستند خاصة في ظل عدم امتلاكها للحجج الكافية...وعموما تكون حالة الدفاع اقوى من حالة الهجوم لان المدافع غالبا ما يحوز على عطف المحايدين فضلا عن العقلانيين في الاتجاه المعادي خاصة مع امتلاك الاخير لمتناقضات عديدة ومن هنا نرى ان عملية التحليل في مواضيع كالديمقراطية والحرية والعدالة من جانب دعاة الاستبداد او وسائل اعلام الانظمة المستبدة تكون مضحكة بل في غاية السذاجة خاصة في ظل اتهام آخرون يملكونها فعلا او حتى جزء بسيط منها وامامنا كم هائل من الصحف العربية وتحليلاتها التي تتطابق مع رؤى ومناهج مالكيها ويكون الاكثر مرعبا من ناحية الهزالة العلمية اذا كانت الصحف هي حكومية والنوعين يكونان متطرفان في العداء !...
الاستفادة من الاثر البيئي هو يكون من خلال الاستفادة من طرقها ومناهجها الاستدلالية الجيدة والموصلة للمعرفة والحقيقة،ولذلك لا يسعنا جميعا رفض العوامل البيئية او قبولها،ولكن الموازنة الدقيقة هي الحل الامثل للخروج بتقييم اكثر دقة للمسائل المراد تحليلها!مع استخدام الطرق العلمية في التحليل والتي قد تتعارض مع الموروثات البيئية...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق