اسطورة التغيير الفوقي: القسم الثاني والخمسون
المبحث الرابع:
تفكك الاوطان:نتيجة طبيعية للتسلط الفوقي:
قد يرى المشاهد لحالة الاوطان المحكومة بنظم فوقية في الظاهر انها نظم مستقرة وبعيدة عن حالة الفلتان الامني والتفكك الاجتماعي والذي يتسبب في النهاية للحالة المرعبة:تفكك الاوطان!...
الحقيقة الرهيبة والتي تواجه من يريد المعرفة الموضوعية هي ان الظاهر شيء والباطن شيء آخر!...الظاهر المستقر لايمثل الحالة الواقعية لانه محكموم بقمة فوقية صلبة ومتماسكة لايمكن الخروج من طاعتها والا فأن السيف مسلط ومدعوم بقوى القمع المختلفة،ولذلك فأن اي فلتان في رابطة تلك الاواصر السلطوية هو يؤدي في النهاية الى تكسرها مما يعني خروج البواطن المكبوتة الى العلن والتي لايعلم بقوتها الا من احس بها وتمنى ان تكون الساعة قريبة لكي يشارك فيها!...
قوة السلطة لاتعني ابدا استقرارها الا اذا تمت تقويتها وربطها بأسس تدل على وطنية وانسانية تفوق الرغبة في التسلط والتحكم،واهم الاسس هي الحرية بكل معانيها وخاصة السياسية والاقتصادية منها،اما ان يكون النهج عكس ذلك فتلك خرافة لاقيمة لها امام الامثلة التي حدثت امامنا في التاريخ...
ان الشعور بالظلم والانسحاق تحت آلة السلطة والعمل هي من القوة التي تحول الشعور الداخلي الى رغبة اكيدة في الانتقام الذي سوف يكون خارج السيطرة وتلك هي اكبر الصعوبات التي تواجه اصحاب القرارات في التغيير الجذري...لان ذلك خارج ارادتهم وقدرتهم على ضبط الامور والعودة الى المشتركات الوطنية مع اصحاب السلطة السابقة...العنف سوف يلازم الانتقام الذي يتخطى الحدود الطبيعية ولكن هنالك رغبة مكبوتة متسترة وهي احدى الرغبات الذاتية في ضرورة الخلاص من القوى المتحكمة بأي وسيلة كانت،وهذه الرغبة هي الاستقلال عن الوطن سواء أكان طائفة قومية او دينية او مذهبية وغالبا ما تكون من جانب الاقليات التي ترى ان التغيير الجذري لن يحقق لها المساواة الكاملة لانه سوف يؤدي ايضا الى سيطرة قوى جديدة من الاكثرية وتحت ستار جديد من الرغبات الظاهرة في ضرورة منح الاقليات حقوقها كاملة ضمن الدستور...ولكن هذا لاينطبق فقط على الاقليات فهناك احيانا اغلبية ترى ان خلاصها ايضا يتم من خلال منح الاقليات الاستقلال ولاسباب عديدة منها الرغبة في التخلص من الاعباء المادية في تكاليف الوحدة او ان الاقليات لها شخصية ثقافية مختلفة كليا عن الاقلية،او حتى تجنب حالة الصراع في المستقبل من خلال العيش المنفصل في دولتين متجاورتين...
حالة اصلاح ذات البين بين طوائف البلد الواحد لن تكون سهلة لان آثار القمع والسيطرة الطويلة والتي تتسم غالبا بالاذلال لطبقات الشعب الدنيا والتي تتكون احيانا من اقليات مهملة هي من القوة بمكان بحيث تصبح قدرة خفية كبرى قادرة على الجمع بين شتات المستضعفين والراغبين في الخلاص الابدي من تحكم القوميات الاخرى...ولن تنفع خطابات الاخوة والمودة في اعادة الربط من جديد!.
وينبغي معرفة حقيقة ناصعة ان الرغبة في تأسيس الاوطان هي صفة دائمة لدى البشر حتى لو في استقطاع جزء من الوطن! وليست طارئة لان الرغبة في التملك والتحكم هي صفات ازلية ولا يمكن ألغاءها بحيث يمكن تقطيع فئات شعب ما وبسهولة من خلال فصل المناطق الغنية عن المناطق الفقيرة وعندها نرى اصحاب المبادئ والقيم والوطنية والقومية اين يكونوا وفي اي اتجاه يسيروا! ...وبرغم ان العالم العربي نموذج مثالي ولا تنفع للمشاهد ان يغمض عينيه عن الحقيقة المرة وهي ان وجود النفط كمثال ساعد على التشتت والتشرذم بين الشعوب العربية ولم يكن ابدا عاملا مساعدا لا على الجمع ولا على طريق التنمية الحقيقية للجميع !...ولذلك فأن دعوات الوحدة العربية غالبا ماتصدر من بلاد فقيرة وهي ليست كذلك كما يتصورها البعض وانما حصلت حالة الفقر بسبب سوء الحكم وفقدان الرغبة الحقيقية في التطوير لدى الطبقات الفوقية وفق المتوفر من الموارد والتي هي كافية وكذلك بالنسبة للجانب الاخر الذي هو قليل السكان مع ضخامة الموارد المنتجة!وبالتالي فأن حالة التفوق سوف تزول بكل تأكيد لولا وجود تلك المصادر الضخمة للدخل القومي وفقدان السلطة الوطنية النزيهة لدى فئة الاقل تقدما!...اما دعاة الوحدة في الجانب الثري فهي لا تخرج عن كونها كلامية ! وليست فعلية او عملية صادقة!فيستحيل ان يقبل شعب ثري بتحمل تكاليف وحدة مكلفة له في البداية ولكنها تمنحه القوة والثراء في النهاية! فالشعوب لا تصبر على حدوث ذلك وانما تريد الفوائد والمنافع بأقصر طريق ولا تهمها دعاوى الاخوة الدينية واللغوية والعرقية! المهم العيش برفاهية ولو بطرق الانفصال وبمعونة الاعداء!وهناك مثال اخر يتمثل في الشمال الايطالي الثري والذي يدعو بعض ابناءه في الرغبة في الانفصال عن الجنوب الفقير!مما يعني ان للاقتصاد دورا يتفوق غالبا عن ادوار الدين او اللغة او العرق... ومن يدري لعل زوال عوامل التشرذم والتي من ابرزها النفط !سوف يؤدي الى حدوث معجزة الوحدة والتي سوف تتأخر ايضا بأستمرار مادامت موجودة حالة تسلط النظم الاستبدادية والتي تستطيع ادامة عوامل التفرقة بشتى الوسائل والاساليب!...
امثلة تفكك الاوطان!:
بسهولة يمكن معرفة الكثير من حالات تفكك الاوطان من خلال قراءة التاريخ بعد انهيار السلطة الفوقية والتي جعلت الوحدة مبررا لاستمرار سيطرتها على الاخرين او هدفا لها بدون الرغبة في استحداث وسائل حديثة في ديمومتها والغاء الشعور الداخلي في النزعات الانفصالية... وتفكك الاوطان هو يخضع لاسباب تكاد تكون متقاربة ومن اهمها الرغبة في الخلاص الدائمي من خلال استحداث وطن يضم لون قومي او ديني واحد!...ولكن هل تستمر حالة الوئام بين ابناء الوطن الجديد او يكون المستقبل افضل مما لو كانوا في داخل الوطن السابق؟!...ذلك سؤال مهم ينبغي طرحه...وللجواب عليه ينبغي التأكيد على عدم خلو الحالة الجديدة من تعرضها لنفس اعراض مرض الحالة الاولى!...بمعنى ان الحالة الجديدة سوف تكون معرضة لنفس المشاكل التي حدثت في الحالة الاولى ولكن بصورة اخف بكثير وحالة الوئام غالبا من تندرج في اطار من العلاقات الاجتماعية الخالية من اية نزعة تسلطية وتحت اي شعار كان! وقد تكون الحالة الجديدة افضل لمن يعيشونها وقد تكون الحالة الاولى ايضا افضل! ولكن ذلك يتبع الظروف الموضوعية الخاصة بكل بلد على حدة والاسباب التي ادت الى الانفصال...
حدوث حالة تفكك الاوطان يصاحبها عادة عنف وصراع دموي يتسبب في سقوط ضحايا ابرياء من الجانبين،وتلك حالة طبيعية وليست شاذة والاخيرة تكون في الانفصال السلمي كما حدث في انفصال التشيك عن السلوفاك في اول ايام عام 1993 دون ان تسبب لهما اية رغبة في الانتقام او العنف فالرغبة ترجمت بسلاسة يحسدهم الاخرون عليها ولكن الغريب انها حدثت في نفس اليوم الذي توحدت فيه اوروبا ! مما يعني ان الانفصال اصبح شكليا لان البلدان هما من اعضاء الاتحاد الاوروبي!...
تسبب سقوط الطبقات الفوقية الحاكمة الى رغبة في الانفصال لدى عدد من المكونات الشعبية في عدد من البلدان من قبيل حالة ايران بعد الثورة عام 1979 والعراق عام 2003 ولبنان اثناء الحرب الاهلية...ولكن القوة المسلحة والرغبة الشعبية العامة حال في تجاوز تلك الفترات القاسية،مما يعني انه يمكن التخلص ايضا من حالة تفكك الاوطان برغم الخسائر البشرية والمادية الكبيرة في سبيل ذلك من خلال ضعف سيطرة الانفصاليون على مناطقهم او عدم قدرتهم على مواجهة المركز المدعوم احيانا دوليا الذي يرى في بعض حالات الانفصال اشعالا لحروب ونزاعات يمكن تجنبها بالبقاء ضمن الحدود المرسومة ...
تمزق الاتحاد السوفييتي السابق ويوغسلافيا عام 1992 الى جمهوريات مستقلة هي نتيجة فعلية لتسلط قوى فوقية تنتسب في اغلبها الى قوميات تمثل اغلبية في المكون الوطني من قبيل الروس في الحالة الاولى والصرب في الحالة الثانية،وفي الحالتين لم تخلو تلك السيطرة من ظلم فادح وقع على الاقليات واستبعاد شبه كامل لها من المشاركة في الحكم او حتى بقاء بعض الاطراف في حالة من التخلف الاقتصادي الواضح بالمقارنة مع المركز الذي يكون في مناطق الاغلبية...
كذلك في حالة انفصال اريتريا عن اثيوبيا عام 1991 وهو العام الذي صادف ايضا انهيار الاتحاد السوفييتي وانطلاق ما يعرف بالعولمة الجديدة التي لم تمنع حالات الانفصال بل العكس زادت منها بفضل مظاهر الحرية التي اخرجت المارد من القمقم، دون نسيان اثر العامل الدولي المساعد والذي يرى ان التقسيم اقرب للحل الكامل!...وكانت اريتريا مستعمرة اثيوبية لم تستطع المشاركة في حكم الاتحاد او حتى الاستفادة منه في تطوير مناطقها مما ادى الى حدوث الانفصال فور سقوط النظام الماركسي وكانت حينها الثورة مستمرة منذ عقود...
وهنالك الكثير من الامثلة الاخرى...وتبقى حالة تفكك الاوطان هي نتيجة طبيعية لامراض التسلط الفئوي من جانب الطبقات الفوقية لكل مجتمع وهي من اخطر النتائج واكثرها تدميرا مما يجعل الضرورة في اقصى حالاتها للخروج من ذلك المستنقع الذي يتبع التحرر الجذري من الفوق!...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق