المبحث الخامس:
الطاغية:صناعة فوقية بأمتياز!
لا يوجد اسوأ من الاستبداد كجنين طبيعي ناتج من تلاقح الطبقات الفوقية المتسلطة،ولكن المولود هو غالبا ما يكون وحيد وفريد ومشوه ويدعى:الطاغية!.
احيانا تتشكل مجموعات طاغية ولكن تلك حالات نادرة لكون الصفات الموجودة في نفوس هؤلاء تتطلب ان تكون متحكمة في الوضع دون الحاجة الى شريك يكون على مستوى واحد من القوة والطغيان،ولذلك غالبا ما تكون السيطرة منتهية في شخص واحد يفعل ما يشاء ويسبح بحمده المتملقون والسفهاء!...
الطاغية لا يتكون من العملية الديمقراطية والتي تشترك فيها الفئات كافة لكون تلك المشاركة تمنع من وصول فئة واحدة مستفردة وبالتالي فأنها تمنع من وصول جنين تلك الفئة والذي يسمى الطاغية او بأسماء مستعارة احيانا كالقائد والزعيم الى اخره من الالقاب التي تتنافس النظم المستبدة على استنباطها من عقول اصحابها!...
الطاغية هو شخص مثالي تتلخص فيه كل المساوئ والصفات البشرية بخيرها وشرها ،وهو القادر بحكم التحكم بمقدرات شعبه او قومه على ان يكون الممثل الاوحد للفئات الفوقية التي ترى فيه حاميا لها سواء من الفئات الدنيا في سلم الترتيب الاجتماعي او حاميا لها من الصراعات الداخلية الجانبية والتي قد تتسبب في فقدان السيطرة على الحكم وعندها يفقد الجميع كل الامتيازات مما يعني ان الطاغية هو نتيجة طبيعية لها برغم ان شر ولكن لابد منه!...
الطاغية او المستبد لن يحتاج الى اي فئة تشاركه في الحكم او تحميه ماعدا الاقربون اليه دينيا اومذهبيا او عرقيا او اقتصاديا لكون المصالح المشتركة تكون رابطة تمنع الغدر والخيانة او تحد من قوته وتقوم بتنفيذ جميع الاعمال القذرة التي يكلفها بها القائد الاوحد دون ادنى مناقشة لانه صاحب العقل والفكر النير في نظرها...ولكنه غالبا ما يحتاط الى حاشيته من خلال اختيار الاقل تعليما اكاديميا وثقافة والاضعف شخصية وصاحب الهفوات او من يكون على رابطة اسرية معه وتلك حالة طبيعية!...
قد يكون هنالك من يمتلك صفات خارج تلك المواصفات ولكنه في الغالب يكون اما منافقا لصاحب الامر او تكون نهايته مأساوية مجهولة!...وبالتالي يكون درسا للجميع في عدم تقدم الصفوف لخدمة هؤلاء الممسوخون الا اذا كانت المصلحة الوطنية تتطلب ذلك وبجعل هنالك مسافة بعيدة عنهم تكون حامية ولكن ذلك لايصح في كل الاحوال...
الطاغية شخصا مزاجيا!...يفعل ما يراه صائبا طبعا!والسلطات التي يمتلكها اذا كانت غير محدودة تكون اقصى مفسدة له وبالتالي للبلد المحكوم وبهذا نتوصل الى معادلة طبيعية هي:زيادة حجم السلطات يؤدي الى زيادة حجم الطغيان لدى الطاغية ومن ثم الى زيادة حجم الدمار والخراب في المجتمع!...
تلك المزاجية تؤدي احيانا الى اعمال نافعة للمجتمع ولكن حجم تلك الاعمال الى المجموع الكلي هي ضئيلة ولا تستطيع ان تسد حجم الاضرار التي هي تكون اكثر فداحة وهتكا!وبالتالي فأن التركيز عليها وجعلها مبررا عقلانيا لاستمرار الحكم المستبد هي من السفاهة والانحطاط الفكري والاخلاقي بما لايقبل مجال من الشك!.
ان الحكم الطبيعي لهو قادر ان يفعل اكثر من تلك الاعمال التي تعود بالنفع الكلي واقل بالتأكيد من الاعمال الخاطئة وبالتالي ان التبرير لحكم الطاغية كونه يفعل الخير ويقوم بصيانة الوطن من المخاطر هي نتيجة لمزاجيته وحسب وضعه في الحكم فأذا كان حسب رؤياه طبعا ان يقوم بعمل ما وهو يتصور انه في صالح حكمه فأن ميزان الاختيار بين الخير والشر يكون معدوما بالمرة لان المصلحة الشخصية هي التي تكون المقياس الاوحد وبدون ادنى منازع،وفي حالة ان يكون الاختيار متلائم مع مصلحة الوطن او الشعب فذلك شيء آخر لا ينبغي اخضاعه للصدفة والمصلحة الوطنية عادة لا تخضع لمزاجية فردية بل هي قرارات مدروسة ومستوفاة للشروط الموضوعية وبالتالي فأن القرارات الخاطئة غالبا ما تكون فردية وقد تكون ناتجة من الاستفزاز الشخصي او لعوامل نفسية داخلية مما يعني ان الكوارث تكون محصلة طبيعية...وقد نلاحظ في عالمنا الحاضر على اقل تقدير ان هنالك الكثير من الطغاة ولكن بدرجات متفاوتة من الاستبداد لانه قد يتحدد وفق ظروف الحكم والطبقات المولدة له مع حجم الامكانيات التي يمتلكها الحكم،بمعنى ان هنالك الكثير من الطغاة لا تمتلك اوطانهم قدرات تجعلهم يقوموا بمغامرات خارجية كالتوسع الجغرافي والهيمنة او البذخ والعيش بملذات الحياة الجنونية بصورة مساوية لاخرين لديهم امكانيات اكبر...
ولكن القاعدة هي ان البلاد التي تمتلك طاقات كبيرة تكون معرضة لدمار اكبر ناتج من طغيان اعظم ولذلك نرى ان ستالين مثلا هو من اكبر الطواغيت في التاريخ كونه حاكما لاكبر بلد في الحجم في العالم يضم شعوب مختلفة وهو تسبب في مقتل عدد كبير من البشر مع تدمير هائل للشخصية بفعل الايديولوجية المتطرفة التي يعتنقها والتي تدعوه الى ممارسة الديكتاتورية بالقوة كمثل ديكتاتورية البروليتاريا وهي طبعا كلها اسباب واهية لا تبرر مطلقا لفرض السيطرة والتحكم بالمقدرات القومية،وكذلك هنالك نموذج مشابه وهو ماوتسي تونغ في الصين البلد الذي يضم اكبر عدد من البشر في العالم،بينما نرى ان طاغية صغير بحجم رئيس اريتريا الحالي افورقي، يمارس صلاحياته الغير المحدودة ضمن قدرات بلده المحدودة وهو برغم ذلك لا يتورع عن مهاجمة الجيران!فكيف يكون عمله اذا امتلك امكانيات اكبر؟!...اذا النتيجة واحدة هي ان الطاغية يكون ضرره بحجم قدرات بلده ولكن النسبة المئوية تختلف ايضا فقد يكون ديكتاتورا قادرا على التدمير والوحشية بالقياس الى حجم بلده الجغرافي والسكاني وقد لا يقاس بالاكبر حجم ولكن الضرر النسبي الاكبر هو قد يكون من نصيب الوطن ويتحول الى كارثة اذا كانت البلدان الكبيرة محكومة بأمثال هؤلاء،وقد يكون امامنا مثالان بارزان وهما بول بوت في كمبوديا وصدام في العراق!...
من الخطأ التصور بأن الطاغية هو انسانا ذكيا او لا يمكن خداعه فتلك نظريات هزيلة غير قابلة للمقاومة!والنماذج التاريخية التي هي خير امثلة لاستنباط الامثلة وهي ايضا خير استقراء للمستقبل هي قادرة على تزويدنا بأمثلة عديدة لان التاريخ الانساني مع الاسف الشديد محكوم في اغلبه من قبل طغاة وليس من قبل انظمة ديمقراطية تحترم الانسان وحقوقه الاساسية...
الطاغية هو انسان كالاخرين وقد يكون غبيا الى ابعد حد! وقد يكون العكس ايضا ولكن الظروف الملائمة له هي التي سمحت له بالقفز على السلطة سواء بالاختيار المتوارث او بوسائل غير شرعية متعارف عليها في الصراع على السلطة الذي يشبه عمل عصابات المافيا الاجرامية!او قد يكون ذكاءه محصور في طريقة ادارة الصراع مع الاخر او ضربه وتصفيته في الوقت المناسب..ولكن المشترك بين الطغاة جميعا هي ان غريزة التملك والسيطرة والتحكم تكون في اعلى مراحلها التي تصل الى حد ابادة شعوب واقوام بأكملها! وتلك الصفات تخرج عن السيطرة والتحكم الشخصي بها خاصة اذا كانت الظروف الموضوعية امام كل طاغية هي مناسبة لاستخدامها بأكبر صورة مهما كانت درجة البشاعة التي تنتج عنها...وبذلك يمكن القول ان الطغاة مهما كانت قدراتهم الذهنية من ذكاء معروف او غباء ايضا!هي خاضعة لغريزة التملك والتحكم وليس العكس ابدا،مما يعني انه يمكن بسهولة خداع اذكى طاغية في تصوير الامور على انها تحت السيطرة او العكس ايضا لانه يميل الى تصديق حاشيته حتى لو عرف بكذبها الواضح ولذلك تقع احيانا كوارث على الطغاة وتقضي عليهم بسبب التهاون الواضح تجاهها نتيجة لحجب المعلومات الواردة عليه كليا او جزئيا وبذلك يفقد الصفات التي تجعله ذكيا امام الاخرين!...والذكاء ايضا نسبي وحسب الظروف الموضوعية مما يعني ان هنالك طغاة اذكياء ولكنهم يقعون بسهولة او العكس صحيحا وحسب الظروف التي تصادفهم...
المشكلة الرئيسية وبغض النظر عن قدرات الطاغية الذهنية هي انهم لا يتعلمون الدروس جيدا سواء بالنسبة لهم او بالنسبة لغيرهم من السابقين! فكثير من الطغاة يفقدون حكمهم وسيطرتهم نتيجة لارتكاب اخطاء هي متكررة على مدار التاريخ وليس اخطاء وليدة عصرها!ومن الامثلة على ذلك ان سبب هزيمة المانيا في الحرب العالمية الاولى هي المحاربة على جبهتين في الشرق والغرب وهو نفس الخطأ الذي كرره هتلر في الحرب الثانية والنتيجة كانت واحدة مع اشد وقعا في الثانية بالطبع!...او تجاهل النتيجة الطبيعية للقمع الوحشي وشدة قسوته للشعب والذي يؤدي في النهاية غالبا الى حصول انفجار رهيب يتناسب مع حجم القمع كما حدث في ايران ابان حكم الشاه والذي قضى على حكمه في النهاية،مما يعني ان الشدة والقسوة مع التيارات السياسية هي لا تقضي نهائيا على المعارضة بل العكس هي تزيدها قوة بصورة افقية او عمودية من خلال كسب المزيد من الانصار والحجج المنطقية لمعارضة الطاغية ولكنها تؤخرها الى اجل غير مسمى! مما يعني ان كل النظم المستبدة هي معرضة للانهيار او السقوط ولكن تحتاج الى ظروف موضوعية قد تطول الى عقود طويلة من الزمن او تقصر!...
الطاغية يكون واعيا امام الاخطار المحيطة به وخاصة من قبل من يشك في ولائهم له ولكن الوعي اما الاخطار من الطبقات الدنيا هو ليس بحجم الوعي امام الحاشية والطبقات الفوقية من المجتمع وبالتالي هو لايهتم اساسا لحجم المعاناة التي يعانيها المواطن البسيط وانما يتعامل معه على انه رقم بسيط لا قيمة له امام عدد السكان! ولكنه يكون حساسا جدا امام بروز من يراه مؤثرا على حجم صورته امام شعبه او شعوب العالم الاخرى وخاصة اذا كان البارز من الطبقة السياسية او العسكرية فذلك يكون بالتأكيد خطرا لانه يكون مستعدا للحلول مكانه بعكس ابناء الطبقات المهمشة الذين يتصارعون لاجل البقاء او للحصول على مستوى معقول من المعيشة وبالتالي خطرهم محدود الا اذا تم تجميعهم عندها يكون الخطر ماثلا امام الاعين ويحتاج الى امر بسيط لغرض الابادة او القمع!...
هنالك بعض الطغاة مصابون بمرض النرجسية وبأعلى مراحلها وتكون الحالة اكثر سوءا اذا كان الطاغية صاحب نصيب ضئيل من التعليم او الثقافة وبالتالي تكون غيرته شديدة امام البارزين من الشعب في العلوم والاداب وهنا تتحرك الاجهزة الاعلامية او حتى الامنية لعمل ما بغية جعل البارز هو ضمن حدود لا تكون خطرا على الطاغية وصورته كاعظم واذكى شخص في الدولة!...
البلاء الناتج من الطغاة لا يمكن تصوره الا من عاش في كنفهم او عاش خارج حدود دولته!...وهو دمار يؤثر على الجميع وعقبة كبرى امام تقدم الامم والشعوب، ولكن الاكثر تدميرا هو دمار النفوس وتشويه القيم الدينية والاخلاقية او حتى الانسانية في المجتمع الخاضع او خارج حدود الوطن ايضا وهو يستمر لفترة طويلة حتى بعد رحيل الطاغية! مما يعني ان التشوهات تلك تكون اكثر تدميرا من تدمير البنى التحتية التي يمكن اصلاحها ولكن تدمير الشخصية يكون اكثر تأثيرا وخاصة على الضحايا وذويهم! ويكون التأثير اكبر من مؤيدين من خارج الوطن المحكوم بطاغية ما ولكنه خضع بأرادته الى الغسيل الاعلامي لاجهزة الطاغية دون ان يعي خطورة ذلك الخضوع ومقدار التحول الى انسان حر الى عبد ذو شخصية هزيلة تعبد صنم مازال يحكمه برغم رحيله عن الحكم او الحياة! وقد تكون المشتركات الدينية او المذهبية او العرقية او الايديولوجية مع الطاغية هي دافع قوي الا ان ذلك لا يبرر مطلقا الخضوع او الاستهانة بالضحايا وكرامتهم المهدورة من قبل معتوه يحكمه بالحديد والنار...ويمكن لنا رؤية الكثير من الامثلة من خلال تمجيد الشيوعيين في العالم لستالين او ماوتسي تونغ او كيم ايل سونغ او في العالم العربي لصدام وعبد الناصر وغيرهم!... من غرائب البشر ان تجد من يمجد ويقدس من يسلب انسانيتهم وحريتهم فتلك صفة قبيحة لا يمكن تجميلها ابدا...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق