انقلاب بكر صدقي عام 1936:
يعتبر انقلاب رئيس الاركان الفريق بكر صدقي عام 1936،اول انقلاب عسكري يحدث في العالم العربي في العصر الحديث،وهو ضابط كردي من بقايا الجيش العثماني وكان قد برز في اخماد ثورات وتمردات الاشوريون والاكراد والشيعة،واشتهر بصرامته اثناء القضاء على تلك الحركات، وكان قد شاهد الصراع على السلطة والفساد المرافق له فجاء تدخله في العمل السياسي بعد ان تحالف مع بعض السياسيين المتنفذين الذين وجدوا في الجيش ضالتهم لتحقيق مآربهم السياسية الانية ومنها ابعاد بعض خصومهم الاخرين،دون ان يعوا خطورة لعبة ادخال الجيش في المعترك السياسي بما يمثله من سطوة واستبداد ناتجين من نظام ضبطه العسكري وتسلسل التراتبية بين افراده بما لايدع مجال للعمل بينهم وفق اساليب دبلوماسية وديمقراطية مهما بلغت محدوديتها،ولذلك جاءت مشاركة بعض الاحزاب السياسية مخيبة ليست فقط لها بل لبقية افراد الشعب وخاصة من ناحية خضوعها للعسكر بسهولة دالة على هشاشة بنيتها الفكرية وضعف سريرة افرادها،كذلك فأن الانقلاب لم يخلو من دموية ظهرت في قتل الجيش لمؤسسه ووزير دفاعه جعفر العسكري!وهي جريمة جعلت الكثيرين يخافون على مصيرهم من سطوة الجيش والمواليين له،ولكن الانقلاب حافظ على النظام الملكي وعلى سيطرة المدنيين على مراكز السلطة رغم خضوع الجميع لنفوذ الجيش وأوامره.
هذا الانقلاب والفترة التي سبقته منذ تأسيس الدولة كان يجري في صفوف ابناء الطائفة السنية ولم يكن للاغلبية الشيعية وبقية الطوائف الاخرى اي مشاركة مهما بلغت رمزية،ولذلك فأن هذه الصراعات السياسية هي فوقية في السلم الاجتماعي وليست نابعة من القاعدة الشعبية،كما ان شعبية السياسيين بقيت محدودة في الاوساط الاجتماعية التي كانت مشغولة في تدبير واقعها المعاشي الصعب في ظروف لم يبدأ العراق سوى في تصدير كميات قليلة من النفط بعد اكتشافه وانتاجه من قبل شركات النفط الاجنبية التي حصلت على امتيازات احتكرت البحث عنه وانتاجه وتصديره في كل مناطق العراق بشروط مجحفة لا يقبلها العقل ولا المنطق ولا الشرف الوطني بحيث لم يبدأ العراق بتقاسم الارباح الا بعد عام 1951 وكان قبلها يحصل على حصة ضئيلة للغاية!،ولذلك تختزن الذاكرة العراقية التاريخية وبعض شعوب العالم الثالث الاخرى،خزين هائل من الغبن تجاه عقود النفط بقيت لحد الان مستمرة في الممانعة رغم تغير الظروف حتى في صالح العراق!.
لم يؤثر الانقلاب كما هو معروف في تغيير فكرة خرافة التغيير الفوقي من خلال حصول تغيير جذري لصالح الاغلبية المبعدة من العمل السياسي وغنائمه،وبقي محصورا ضمن فئات طائفية رغم ان الفريق بكر صدقي كان بعيدا عنها الى حد ما بسبب كرديته الى انه كان مهتما في تقليد المانيا النازية لبناء القوة العسكرية للعراق وتخليصه من النفوذ البريطاني الذي بقي داعما لطبقة سياسية متنفذة بقيت معزولة عن طبقات الشعب الفقيرة التي لم تدعم او تقف مؤيدة للانقلاب،فالجميع كانوا من صنف واحد والفروقات فيما بينهم هي طفيفة لاتجعل المقابل يفرق بينها.
وخلال تلك الفترة ازدهرت الحركات القومية وافكارها سواء في مؤسسات الدولة او في الجيش،وبرز العقداء الاربعة كقادة قوميين ضمن الجيش ولكن وجدوا ان الفريق بكر صدقي وهو رئيس اركان الجيش وصاحب النفوذ الاقوى هو عقبة في طريقهم كونه كان عراقي النزعة ويميل الى منح الاكراد بعض حقوقهم وكانت الحكومة تأتمر بأمره،بالاضافة الى عداء الانكليز له وفئات سياسية اخرى،كل ذلك انتهى في اغتيال الفريق بكر صدقي عام 1937 مع قائد القوة الجوية في شمال البلاد وايضا برصاص منتسب للجيش في مؤامرة حيكت ضده اتهم القوميون بتدبيرها! كون الفريق صدقي معارض لهم مع شيوع نزعته العسكرية التي لاترغب في مشاركة الاخرين الذين يختلفون معه، وسقطت على اثرها الحكومة الموالية له،وتأسست حكومة جديدة معارضة للتوجه السابق ولكن برز خلالها صعود نجم العقداء الاربعة وهم ضباط عرب سنة قوميين يميلون الى التحرر من بريطانيا والعمل على تحرير البلاد العربية بغية توحيدها ومن خلال منظار طائفي ضيق وتفكير عسكري يستند على تاريخ العرب القديم دون الاخذ بالاعتبار قدرات البلاد العربية المحدودة في وقتهم آنذاك بل كانوا شبابا متسرعين في تحقيق غاياتهم راغبين في كسر القواعد التقليدية في الخضوع للتدرج في العمل السياسي وتحقيق الاهداف من خلاله وفق منظومة سياسية معقدة تستغل الاوقات المناسبة في تحقيق الغايات المرجوة بدون ادخال البلاد في صراع غير متكافئ مع امبراطوريات اوروبية استعمارية عملاقة،وبالتالي فأن هكذا قيم وتقاليد ضعيفة الاسس الثقافية وذات بنية فكرية فوقية هشة وتنحصر في محيط ضيق يكون مصيرها بالتأكيد الفشل والاندحار حتى لو كانت الاهداف سليمة السريرة وفي ايدي ينظر البعض على انها مخلصة وشجاعة لاوطانها.
وايضا كان هذا التوجه غير مدعوما من قبل الفئات الشعبية رغم شعبية هؤلاء الضباط وتأييد الكثير لهم،لكن يبقى الواقع هو بنفس ركوده السابق: تغيير فوقي بين طبقات عليا متصارعة على النفوذ،تستخدم كل الوسائل المتاحة لفرض ارادتها،مع بقاء التغييرات الناتجة عنه ضمن اطار ضيق لايصل الى قاع المجتمع المغرق في تخلفه وجهله مع ضعف الوعي الناتج من الضربات الاستباقية السابقة لكوادره الوطنية قبل وبعد ثورة 1920.
بدأ خلال تلك الفترة الحرجة وقبيل بدء الحرب العالمية الثانية،صراعا شديدا بين مؤيدي بريطانيا وهم قلة وبين الغالبية المؤيدة لالمانيا النازية وايطاليا الفاشية واللذان دعمتا نفوذهما في العراق وبقية البلاد العربية الاخرى بغية منافسة بريطانيا ومحاولة لتحجيم امبراطوريتها من خلال خلق المشاكل لها في المستعمرات الخاضعة لها،هذا بالاضافة الى وجود الكثيرين من السياسيين والعسكريين المؤيدين للافكار النازية والفاشية وخاصة المتعلقة ببناء نظام عسكري صارم بغية تأسيس امبراطوريات قوية ترفض الهيمنة الغربية.
ومع بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939 وما رافقها من انتصارات باهرة لجيوش المحور في مختلف الجبهات،بدأت الامال في ضرورة طرد بريطانيا والتي كانت في وضع عسكري ضعيف خاصة بعد سقوط فرنسا عام 1940 وبتحرير البلاد العربية وتوحيدها،ولذلك بدأ الضباط الاربعة مع الموالين لهم من السياسيين في تشكيل حكومة مدعومة من قبل المانيا وايطاليا برئاسة رشيد عالي الكيلاني في بداية مايو(آيار)1941 وكان حينها الوصي على العرش الامير عبدالاله هو المسؤول عن الاسرة المالكة لان الملك فيصل الثاني (1935-1958)كان صغير السن حين قتل والده عام 1939وهو كان مع رئيس الوزراء نوري السعيد مواليا لبريطانيا،قد قررا الهرب مع دعوة بريطانيا للتدخل العسكري وفق المعاهدة العسكرية المبرمة بين البلدين،فقامت القوات البريطانية من جديد بغزو العراق والذي لم تكن لديه حينها القدرة الكافية على المقاومة بالاضافة الى ضعف الاستعداد العسكري رغم المشاركة الشعبية في المقاومة التي لم تصمد سوى بضعة اسابيع فأنهارت حكومة الكيلاني الذي هرب مع بقية القادة العسكريين الى خارج العراق،وبعد ذلك تأسست حكومة موالية لبريطانيا سارعت بالقبض على الفارين واعدمتهم بوحشية بقيت في الاذهان وخاصة اعدام العقيد صلاح الدين الصباغ وتعليق جثته على باب وزارة الدفاع بغية ردع بقية العسكر،وبقي رشيد عالي الكيلاني في المنفى حتى رجوعه الى العراق بعد انقلاب عام 1958.
كانت تأثير تلك الحركة كبيرا على الوضع السياسي في العراق،فقد ابعد الجيش عن العمل السياسي وقلص حجمه والنفقات العسكرية رغم اشتراكه في حرب فلسطين عام 1948 والتي ابلى فيها بلاءا حسنا،ورغم اشتراك العراق في حلف بغداد المعادي للاتحاد السوفييتي الا ان تأثير الجيش بقي ضعيفا وبقيت بنيته شاذه تتألف من ضباط اغلبيتهم من السنة ومن ضباط صف وجنود ينتمون الى بقية الطوائف الاخرى ويسود بينهم الشيعة،مما جعل الكره الشعبي مستمرا للحكومة وقادة جيشها،وهو قد ترسب في العقل الباطني للفرد العراقي والذي يكره الحروب والنزاعات المتكررة والتي لا ناقة له فيها ولاجمل منذ ايام الدولة العثمانية وحتى سقوط بغداد عام 2003.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 وبغية فتح العمل السياسي امام الجميع،فتحت مرحلة جديدة لاخراج البلاد من حالة الحكم العرفي الذي كان يستند الى ضرورات امنية فرضها الواقع المحلي وظروف العالم اثناء الحرب،وكانت بوادر ذلك الانفراج السياسي،السماح بتشكيل الاحزاب والنقابات وتوسيع حرية الصحافة وهي بقيت تمتلك سابقا هامشا منه،وبذلك اسست عدة احزاب ومن مختلف الاتجاهات وكانت خطوة كبيرة بمقاييس تلك الايام لا بل ومقاييس زماننا الحالي في بداية القرن الحادي والعشرون!...وعلى أثر ذلك تأسست احزاب كبيرة مثل الحزب الوطني الديمقراطي وهو يمثل الاتجاه الليبرالي،وحزب الاستقلال ذو الصفة القومية ولكن بفكر منفتح،مع احزاب السلطة اليمينية التي ضمت الراسماليين والاقطاعيين ومتنفذي السلطة الحاكمة،ولكن بقيت معزولة عن بقية طبقات المجتمع ماعدا الانتهازيين وهم قلة،ولكن تزييف الارادة الشعبية هو الذي يجعل هذه الاحزاب باقية او نافذة في سدة السلطة.
لكن الاحزاب الاكثر شعبية بقيت ممنوعة من العمل السياسي!ويقف بالطبع على رأسها الحزب الشيوعي العراقي الذي تأسس عام 1934 واصبح اشهر الاحزاب الماركسية في العالم العربي لفترة تزيد عن نصف قرن والذي امتلك نفوذ شعبي هائل لم يستغله في الانقلاب على السلطة وبقي محصور عمله في التنظيم السري والعمل الفكري الذي يستند الى تراث ضخم من الفكر الماركسي الذي كان قد خضع له نصف البشر آنذاك واصبح هو المقارع الاول للعالم الرأسمالي الغربي الذي تزعمته امريكا بعد انتهاء الحرب الكونية عام 1945 ،هذا بالاضافة الى الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يحارب السلطة في الشمال بصورة شبه دائمه لاجل حقوق الاقلية الكردية سواء في وطن منفصل او حكم ذاتي شبه مستقل.
اما الاحزاب الاسلامية فلم يكن لها وجود بسبب ابتعاد رجال الدين من كل الطوائف الاسلامية عن العمل السياسي بسبب الضربات التي وجهتها بريطانيا والنظام الملكي له،وكانت خلال تلك الفترة يسود العراق كغيره من بلدان العالم العربي،النزعات العلمانية اليسارية مثل الماركسية او القومية،او اليمينية المحافظة والتي تمثل البرجوازية بمختلف طبقاتها،ولكلا التوجهين حلفاء من الخارج يدعمونه بمختلف الصيغ المتعارف عليها بغية التحكم في المسيرة السياسية والتي نخضع للتناقض المتكون من هيمنة يمينية موالية للغرب ولكن ضعيفة القاعدة الشعبية ومن معارضة يسارية ذات شعبية كاسحة ولكن ليس لها امكانات الحكم ولاتصل اليها المساعدات من العالم الشيوعي لاسباب عديدة يقف على رأسها اختلاف التوجهات بين الطرفين في التفاصيل الفكرية وضعف امكانات الاتحاد السوفييتي الخارج من دمار هائل بعد الحرب،وهذا الحديث ينطبق بصورة اجمالية على بلدان العالم العربي التي كانت شعوبها تغلي بسبب القضية الفلسطينية والاستبداد والفقر والجهل والتخلف.
يعتبر انقلاب رئيس الاركان الفريق بكر صدقي عام 1936،اول انقلاب عسكري يحدث في العالم العربي في العصر الحديث،وهو ضابط كردي من بقايا الجيش العثماني وكان قد برز في اخماد ثورات وتمردات الاشوريون والاكراد والشيعة،واشتهر بصرامته اثناء القضاء على تلك الحركات، وكان قد شاهد الصراع على السلطة والفساد المرافق له فجاء تدخله في العمل السياسي بعد ان تحالف مع بعض السياسيين المتنفذين الذين وجدوا في الجيش ضالتهم لتحقيق مآربهم السياسية الانية ومنها ابعاد بعض خصومهم الاخرين،دون ان يعوا خطورة لعبة ادخال الجيش في المعترك السياسي بما يمثله من سطوة واستبداد ناتجين من نظام ضبطه العسكري وتسلسل التراتبية بين افراده بما لايدع مجال للعمل بينهم وفق اساليب دبلوماسية وديمقراطية مهما بلغت محدوديتها،ولذلك جاءت مشاركة بعض الاحزاب السياسية مخيبة ليست فقط لها بل لبقية افراد الشعب وخاصة من ناحية خضوعها للعسكر بسهولة دالة على هشاشة بنيتها الفكرية وضعف سريرة افرادها،كذلك فأن الانقلاب لم يخلو من دموية ظهرت في قتل الجيش لمؤسسه ووزير دفاعه جعفر العسكري!وهي جريمة جعلت الكثيرين يخافون على مصيرهم من سطوة الجيش والمواليين له،ولكن الانقلاب حافظ على النظام الملكي وعلى سيطرة المدنيين على مراكز السلطة رغم خضوع الجميع لنفوذ الجيش وأوامره.
هذا الانقلاب والفترة التي سبقته منذ تأسيس الدولة كان يجري في صفوف ابناء الطائفة السنية ولم يكن للاغلبية الشيعية وبقية الطوائف الاخرى اي مشاركة مهما بلغت رمزية،ولذلك فأن هذه الصراعات السياسية هي فوقية في السلم الاجتماعي وليست نابعة من القاعدة الشعبية،كما ان شعبية السياسيين بقيت محدودة في الاوساط الاجتماعية التي كانت مشغولة في تدبير واقعها المعاشي الصعب في ظروف لم يبدأ العراق سوى في تصدير كميات قليلة من النفط بعد اكتشافه وانتاجه من قبل شركات النفط الاجنبية التي حصلت على امتيازات احتكرت البحث عنه وانتاجه وتصديره في كل مناطق العراق بشروط مجحفة لا يقبلها العقل ولا المنطق ولا الشرف الوطني بحيث لم يبدأ العراق بتقاسم الارباح الا بعد عام 1951 وكان قبلها يحصل على حصة ضئيلة للغاية!،ولذلك تختزن الذاكرة العراقية التاريخية وبعض شعوب العالم الثالث الاخرى،خزين هائل من الغبن تجاه عقود النفط بقيت لحد الان مستمرة في الممانعة رغم تغير الظروف حتى في صالح العراق!.
لم يؤثر الانقلاب كما هو معروف في تغيير فكرة خرافة التغيير الفوقي من خلال حصول تغيير جذري لصالح الاغلبية المبعدة من العمل السياسي وغنائمه،وبقي محصورا ضمن فئات طائفية رغم ان الفريق بكر صدقي كان بعيدا عنها الى حد ما بسبب كرديته الى انه كان مهتما في تقليد المانيا النازية لبناء القوة العسكرية للعراق وتخليصه من النفوذ البريطاني الذي بقي داعما لطبقة سياسية متنفذة بقيت معزولة عن طبقات الشعب الفقيرة التي لم تدعم او تقف مؤيدة للانقلاب،فالجميع كانوا من صنف واحد والفروقات فيما بينهم هي طفيفة لاتجعل المقابل يفرق بينها.
وخلال تلك الفترة ازدهرت الحركات القومية وافكارها سواء في مؤسسات الدولة او في الجيش،وبرز العقداء الاربعة كقادة قوميين ضمن الجيش ولكن وجدوا ان الفريق بكر صدقي وهو رئيس اركان الجيش وصاحب النفوذ الاقوى هو عقبة في طريقهم كونه كان عراقي النزعة ويميل الى منح الاكراد بعض حقوقهم وكانت الحكومة تأتمر بأمره،بالاضافة الى عداء الانكليز له وفئات سياسية اخرى،كل ذلك انتهى في اغتيال الفريق بكر صدقي عام 1937 مع قائد القوة الجوية في شمال البلاد وايضا برصاص منتسب للجيش في مؤامرة حيكت ضده اتهم القوميون بتدبيرها! كون الفريق صدقي معارض لهم مع شيوع نزعته العسكرية التي لاترغب في مشاركة الاخرين الذين يختلفون معه، وسقطت على اثرها الحكومة الموالية له،وتأسست حكومة جديدة معارضة للتوجه السابق ولكن برز خلالها صعود نجم العقداء الاربعة وهم ضباط عرب سنة قوميين يميلون الى التحرر من بريطانيا والعمل على تحرير البلاد العربية بغية توحيدها ومن خلال منظار طائفي ضيق وتفكير عسكري يستند على تاريخ العرب القديم دون الاخذ بالاعتبار قدرات البلاد العربية المحدودة في وقتهم آنذاك بل كانوا شبابا متسرعين في تحقيق غاياتهم راغبين في كسر القواعد التقليدية في الخضوع للتدرج في العمل السياسي وتحقيق الاهداف من خلاله وفق منظومة سياسية معقدة تستغل الاوقات المناسبة في تحقيق الغايات المرجوة بدون ادخال البلاد في صراع غير متكافئ مع امبراطوريات اوروبية استعمارية عملاقة،وبالتالي فأن هكذا قيم وتقاليد ضعيفة الاسس الثقافية وذات بنية فكرية فوقية هشة وتنحصر في محيط ضيق يكون مصيرها بالتأكيد الفشل والاندحار حتى لو كانت الاهداف سليمة السريرة وفي ايدي ينظر البعض على انها مخلصة وشجاعة لاوطانها.
وايضا كان هذا التوجه غير مدعوما من قبل الفئات الشعبية رغم شعبية هؤلاء الضباط وتأييد الكثير لهم،لكن يبقى الواقع هو بنفس ركوده السابق: تغيير فوقي بين طبقات عليا متصارعة على النفوذ،تستخدم كل الوسائل المتاحة لفرض ارادتها،مع بقاء التغييرات الناتجة عنه ضمن اطار ضيق لايصل الى قاع المجتمع المغرق في تخلفه وجهله مع ضعف الوعي الناتج من الضربات الاستباقية السابقة لكوادره الوطنية قبل وبعد ثورة 1920.
بدأ خلال تلك الفترة الحرجة وقبيل بدء الحرب العالمية الثانية،صراعا شديدا بين مؤيدي بريطانيا وهم قلة وبين الغالبية المؤيدة لالمانيا النازية وايطاليا الفاشية واللذان دعمتا نفوذهما في العراق وبقية البلاد العربية الاخرى بغية منافسة بريطانيا ومحاولة لتحجيم امبراطوريتها من خلال خلق المشاكل لها في المستعمرات الخاضعة لها،هذا بالاضافة الى وجود الكثيرين من السياسيين والعسكريين المؤيدين للافكار النازية والفاشية وخاصة المتعلقة ببناء نظام عسكري صارم بغية تأسيس امبراطوريات قوية ترفض الهيمنة الغربية.
ومع بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939 وما رافقها من انتصارات باهرة لجيوش المحور في مختلف الجبهات،بدأت الامال في ضرورة طرد بريطانيا والتي كانت في وضع عسكري ضعيف خاصة بعد سقوط فرنسا عام 1940 وبتحرير البلاد العربية وتوحيدها،ولذلك بدأ الضباط الاربعة مع الموالين لهم من السياسيين في تشكيل حكومة مدعومة من قبل المانيا وايطاليا برئاسة رشيد عالي الكيلاني في بداية مايو(آيار)1941 وكان حينها الوصي على العرش الامير عبدالاله هو المسؤول عن الاسرة المالكة لان الملك فيصل الثاني (1935-1958)كان صغير السن حين قتل والده عام 1939وهو كان مع رئيس الوزراء نوري السعيد مواليا لبريطانيا،قد قررا الهرب مع دعوة بريطانيا للتدخل العسكري وفق المعاهدة العسكرية المبرمة بين البلدين،فقامت القوات البريطانية من جديد بغزو العراق والذي لم تكن لديه حينها القدرة الكافية على المقاومة بالاضافة الى ضعف الاستعداد العسكري رغم المشاركة الشعبية في المقاومة التي لم تصمد سوى بضعة اسابيع فأنهارت حكومة الكيلاني الذي هرب مع بقية القادة العسكريين الى خارج العراق،وبعد ذلك تأسست حكومة موالية لبريطانيا سارعت بالقبض على الفارين واعدمتهم بوحشية بقيت في الاذهان وخاصة اعدام العقيد صلاح الدين الصباغ وتعليق جثته على باب وزارة الدفاع بغية ردع بقية العسكر،وبقي رشيد عالي الكيلاني في المنفى حتى رجوعه الى العراق بعد انقلاب عام 1958.
كانت تأثير تلك الحركة كبيرا على الوضع السياسي في العراق،فقد ابعد الجيش عن العمل السياسي وقلص حجمه والنفقات العسكرية رغم اشتراكه في حرب فلسطين عام 1948 والتي ابلى فيها بلاءا حسنا،ورغم اشتراك العراق في حلف بغداد المعادي للاتحاد السوفييتي الا ان تأثير الجيش بقي ضعيفا وبقيت بنيته شاذه تتألف من ضباط اغلبيتهم من السنة ومن ضباط صف وجنود ينتمون الى بقية الطوائف الاخرى ويسود بينهم الشيعة،مما جعل الكره الشعبي مستمرا للحكومة وقادة جيشها،وهو قد ترسب في العقل الباطني للفرد العراقي والذي يكره الحروب والنزاعات المتكررة والتي لا ناقة له فيها ولاجمل منذ ايام الدولة العثمانية وحتى سقوط بغداد عام 2003.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 وبغية فتح العمل السياسي امام الجميع،فتحت مرحلة جديدة لاخراج البلاد من حالة الحكم العرفي الذي كان يستند الى ضرورات امنية فرضها الواقع المحلي وظروف العالم اثناء الحرب،وكانت بوادر ذلك الانفراج السياسي،السماح بتشكيل الاحزاب والنقابات وتوسيع حرية الصحافة وهي بقيت تمتلك سابقا هامشا منه،وبذلك اسست عدة احزاب ومن مختلف الاتجاهات وكانت خطوة كبيرة بمقاييس تلك الايام لا بل ومقاييس زماننا الحالي في بداية القرن الحادي والعشرون!...وعلى أثر ذلك تأسست احزاب كبيرة مثل الحزب الوطني الديمقراطي وهو يمثل الاتجاه الليبرالي،وحزب الاستقلال ذو الصفة القومية ولكن بفكر منفتح،مع احزاب السلطة اليمينية التي ضمت الراسماليين والاقطاعيين ومتنفذي السلطة الحاكمة،ولكن بقيت معزولة عن بقية طبقات المجتمع ماعدا الانتهازيين وهم قلة،ولكن تزييف الارادة الشعبية هو الذي يجعل هذه الاحزاب باقية او نافذة في سدة السلطة.
لكن الاحزاب الاكثر شعبية بقيت ممنوعة من العمل السياسي!ويقف بالطبع على رأسها الحزب الشيوعي العراقي الذي تأسس عام 1934 واصبح اشهر الاحزاب الماركسية في العالم العربي لفترة تزيد عن نصف قرن والذي امتلك نفوذ شعبي هائل لم يستغله في الانقلاب على السلطة وبقي محصور عمله في التنظيم السري والعمل الفكري الذي يستند الى تراث ضخم من الفكر الماركسي الذي كان قد خضع له نصف البشر آنذاك واصبح هو المقارع الاول للعالم الرأسمالي الغربي الذي تزعمته امريكا بعد انتهاء الحرب الكونية عام 1945 ،هذا بالاضافة الى الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يحارب السلطة في الشمال بصورة شبه دائمه لاجل حقوق الاقلية الكردية سواء في وطن منفصل او حكم ذاتي شبه مستقل.
اما الاحزاب الاسلامية فلم يكن لها وجود بسبب ابتعاد رجال الدين من كل الطوائف الاسلامية عن العمل السياسي بسبب الضربات التي وجهتها بريطانيا والنظام الملكي له،وكانت خلال تلك الفترة يسود العراق كغيره من بلدان العالم العربي،النزعات العلمانية اليسارية مثل الماركسية او القومية،او اليمينية المحافظة والتي تمثل البرجوازية بمختلف طبقاتها،ولكلا التوجهين حلفاء من الخارج يدعمونه بمختلف الصيغ المتعارف عليها بغية التحكم في المسيرة السياسية والتي نخضع للتناقض المتكون من هيمنة يمينية موالية للغرب ولكن ضعيفة القاعدة الشعبية ومن معارضة يسارية ذات شعبية كاسحة ولكن ليس لها امكانات الحكم ولاتصل اليها المساعدات من العالم الشيوعي لاسباب عديدة يقف على رأسها اختلاف التوجهات بين الطرفين في التفاصيل الفكرية وضعف امكانات الاتحاد السوفييتي الخارج من دمار هائل بعد الحرب،وهذا الحديث ينطبق بصورة اجمالية على بلدان العالم العربي التي كانت شعوبها تغلي بسبب القضية الفلسطينية والاستبداد والفقر والجهل والتخلف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق