منعطف الثورة!
تمثل الثورة أداة تطبيقية لمرحلة تاريخية مهمة فرضت نفسها على مراحل المسار التاريخي للبشرية الذي يخرج من القوقعة الذاتية الى رحابة الفضاء الاوسع الذي لا يخضع الى قيود مفروضة من قبل البعض بل هو اعادة رسم الحياة وفق صيغ جديدة ومتعددة تفرضها الظروف المستجدة التي لا يمكن منعها ولكن يمكن تأخيرها فحسب!فصور الحياة وقوانينها المسيرة لها هي دائمة التجدد والتغير ضمن نسبية محددة ببطء وليست جامدة ضمن قوالب ثابتة!.
وعليه فأن الثورة تمثل واقعا جديدا ترسمه لنا ضرورات المكان والزمان وحسب الظروف الموضوعية التي تخرج احيانا عن السيطرة،وهذا الواقع لا يمثل المطلق وانما يبقى ضمن الاغلبية النسبية وعليه فأن الاستحالة تكمن في انعدام وجود الاعداء والمعارضين من جهة او المؤيدين للثورات من جهة اخرى وايا كانت الدوافع الذاتية التي يتم الاستناد اليها.
انطلاق ثورات الربيع العربي كان مفاجئا للاغلبية الساحقة سواء في داخل العالم العربي او خارجه! بسبب طول الحقبة الزمنية المظلمة التي تحكمت بها عصابات ارهابية متخلفة بتلك الشعوب المقهورة،ومن هنا فأن عملية العداء العلني لتلك الثورات التي اكتسبت الشرعية والشعبية شبه المطلقة سوف تكون انتحارا ادبيا لا يمكن ان يقبله اي فرد مهما كانت اوصافه وآرائه! وعليه فأن الطرق الاخرى هي الاكثر مقدرة على اخضاع وترويض تلك الثورات ان لم يكن تدميرها ولو بصورة جزئية او استغلالها للبقاء على سدة الحكم والنفوذ او للقفز عليها!.
ما نراه اليوم في حالة الثورات المنتصرة الاربعة خلال عام 2011(تونس ومصر وليبيا واليمن) ان تفريغ المحتوى الحقيقي للثورة من الاهداف والمبادئ السامية المرسومة قد تم في منعطفها الخطير ضمن مسارها التاريخي بسرعة كبيرة،وتحريف الثورة مع استغلال الموجة وركوبها قد اختلفت نسبته حسب اختلاف الظروف الموضوعية لكل بلد وان كان الوعي والحيطة ضرورتان كي تمنع السقوط الكلي ضمن منحدر الانعطاف الكبير!.
الحالة النسبية اهون في حالتي تونس وليبيا بسبب ان التيارات السياسية المختلفة الصاعدة في الاولى قد وصلت للسلطة عن طريق الانتخابات بعد فترة قصيرة لم تشهد خلالها من محاولة سيطرة القوى السابقة الا في ثغرات محدودة،اما في حالة ليبيا فأن الصراع الدموي مع نظام القذافي جعل من المستحيل سيطرة بقايا نظامه البائد لان حالة الاستئصال المتبادلة كانت كافية لسحق قوى الانحراف ولكن بقيت الصراعات الجانبية بين قوى الثوار او القبائل عاملا مؤثرا في منعطف الثورة،وعليه فأن الواجب تجنبه بأقل الخسائر عن طريق التوجه نحو معركة التنمية الحقيقية التي غابت عن البلاد لنصف قرن تقريبا وبخاصة التنمية الثقافية التي من خلالها تبنى الشخصية الحقيقية للشعوب الحرة!...وفي كلا الحالتين وبالرغم من ضعف القوى المناوئة الا ان حالة اليقظة تبقى واجبة لابعاد تلك القوى واستعجال بث الوعي السياسي والثقافي القادرين على خلق مناعة ذاتية للفرد من رجوع الفكر الاستبدادي ودعاته!.
في حالتي مصر واليمن فالوضع خطير بحق لان مراكز القوى السابقة مازالت قابضة على الحكم كما كان الحال في دول اوروبا الشرقية بعد سقوط الشيوعية عام 1989 مما يعني ان حالة الانحدار الى مستنقع الصراعات الجانبية سوف يكون امرا متوقعا بسبب ضعف وسائل الثوار الرادعة وبقاء هيمنة قوى النظام السابق المدعومة اقليميا ودوليا!.
ففي حالة اليمن فقد كان ضعف مبادرة الثوار في اسقاط النظام المتهالك بسرعة والذي كان الاضعف ضمن حلقة الاربعة قد سهل الامر على القوى المحلية والاقليمية التدخل في فرض واقع جديد على الثورة اليمنية وحرفها عن المسار الثوري لها مما يعني ان عملية التفريغ من المحتوى الطبيعي قد تمت ليس فقط في غفلة من الثوار بل من جراء البقاء متقوقعين ضمن حيز ضيق في انتظار ما يمكن ان يقبله الطرف الاخر تحت ضغط بسيط لا يؤثر عادة في القوى الدموية،وكان تشتت قوى الثورة وضعف قياداتها مع الرغبة الدائمة في عدم خروج الثورة من اطار سلمي مزيف ليس فيه خيارات اخرى قد ساهم في سلب النصر الحقيقي!...فالصراع بين قوى الثورة والسلطة لا تحكمه قيود جامدة من المفاوضات السياسية والانتظار بل يفرضه واقع أليم حان الوقت لازالته من الجذور!ومن هنا فأن الموافقة على المبادرة الخليجية هو معناه قبول تحجيم الثورة من فرصة سيطرتها على الواقع بغية تغييره لان نظام صالح مع دول الخليج لا يمكنها ان تقبل بأي نظام ديمقراطي حقيقي في اليمن يكون مصدر اشعاع والهام ودعم لكل شعوب البلاد المجاورة هذا بالاضافة الى ان البلاد سوف تخرج من دائرة الخضوع المستمر لتلك الدول والغرب عموما وعليه فأن قوى الثورة المضادة اذا لم تكن هنالك حملة اقصائية لها ولو بصورة سلمية فأن خطر الاستئصال الدموي سوف تبقى مثل السيف المسلط على رقاب هذا الشعب البسيط الذي عانى الاستبداد والفساد والفقر،وهذا يعني ان الثورة بدلا من التركيز على اعادة تشكيل وبناء البنية الفوقية والتحتية فأن التأييد سوف يضعف مع ابقاء البلاد ضمن اطار الصراعات الجانبية الذي حول البلاد الى ساحة صراع اقليمي ودولي مستمرة.
اما الوضع في مصر،فبالرغم من ان حالة الوعي والحركية الثورية المستمدة منها،اعلى من الدول الاخرى الا ان القبول الابتدائي بسيطرة المؤسسة العسكرية على الحكم وهي بالفعل مسيطرة منذ عام 1952 قد افقد الثورة المبادرة في فرض السيطرة وتغيير الوضع القائم!...فالجيش هو الاداة الفعلية للحكم في مصر مما يعني ان سقوط البلاد في الديكتاتورية كان بسبب الجيش والذي تمتع بدور خطير في البلاد يوازي دور المؤسسة العسكرية في تركيا والتي ابقت البلاد متأخرة ضمن قوائم التصنيف الدولية حتى تمت ازاحتها بصورة تدريجية وحينها ارتفع دور تركيا الاقتصادي والسياسي!.
العوامل المستهلكة لقدرات الثورة عديدة في مصر ومن بينها هي شيوع الامية الابجدية والثقافية وانتشار الفقر مع سيطرة العسكر!هذا من جانب الداخل اما الخارج فالرغبة الخليجية هي ابقاء مصر تحت السيطرة كي تبقي تحالفها معها او اضعاف التأثير الثوري كي لا يكون هنالك تمدد في الثورة،اما الغرب فأن الرغبة ايضا باقية في اخضاع مصر وترويضها كي لا تفلت من المسار المحدد سلفا لان ذلك يكون خطيرا على المصالح الغربية المتعددة وامن اسرائيل!.
تشتت القوى الثورية في مصر مع بقاء الصراع الطائفي هو امر لا يمكن نكرانه هذا مع انتشار الوعي السياسي المزيف المتمثل بتأييد المؤسسة العسكرية والنظم الناتجة عنها منذ عام 1952 من قبل قطاعات واسعة!...فتلك الانظمة لعبت دورا خطيرا في غسل العقول وتشويه الوعي بحيث ادى الى نشوء اجيال توالي ولا تعرف معاني الرفض الحقيقية لقوى الاستبداد والانغلاق والتبعية المفرطة!.
من هنا فأن الواجب يفرض اعادة بناء وتشكيل الثورة وفق المستجدات الجديدة وعدم افساح المجال للقوى الداخلية والخارجية بالنفوذ والتسلط لان عملية تزييف وتشويه الثورة اسهل بكثير من عملية اخضاعها بالوسائل المسلحة ومن هنا فأن مهمة الكوادر الثورية الحقيقية سوف تتضاعف لان الصراع مع عدة جبهات في آن واحد سوف يستهلك قدراتها الداخلية...صحيح ان الارادة الصلبة هي كافية للردع ولكن ليس ثابتة الاستمرارية بما يكفي لازاحة قوى التحالف المضاد!.
التضامن والتحالف بين القوى الثورية المحلية والاقليمية والدولية هو جزء من الايمان الثوري الحقيقي وبدونه فأن الثورات سوف تسقط في منعطفها الكبير!.