المقارنة والوعي السياسي:
تلعب المقارنة الاستدلالية دورا رئيسيا في رفد الثقافة السياسية بالكثير من المعلومات والاراء والتحليلات التي تؤدي في محصلتها الى زيادة الوعي السياسي وانقاذ الذات من التبعية والخضوع والخنوع والعبودية العلنية والمستترة،بل وتساعد على تحريك الواقع الراكد من خلال تناقل المعلومات وتنشيط الفئات واضعاف جبهة الخصوم الذين يعادون التغيير بحجج واهية تكون المقارنة سلاحا فعالا في لجمها واسقاط الشرعية الزائفة التي يتمسك بها كل من هب ودب ومن يسير معهم من السذج اصحاب النيات الطيبة والرعاع الهمج!...ان عملية ادخال معلومات جديدة تساعد على تفريغ الدماغ من الخزين القديم المشوه والذي طال امده وحان الوقت لبداية جديدة اقرب الى اعادة تنشيطه لاضافة خزين معلوماتي دقيق ومتعدد المصادر ،يولد الرأي والرأي المناقض ضمن استقلالية تامة لا تخضع لحدود ضيقة!.
يمكن عمل امثلة عديدة للمقارنة وبمختلف الوسائل والمعلومات والتي تعطي ايضاحات متباينة،والمثال البسيط التالي يعطي نموذجا للمقارنة.
ثلاثة عقود:مصر وماليزيا
فقدت مصر الكثير من خلال تحكم نظم استبدادية فاسدة وبخاصة الحكم الاخير بعد مقتل السادات عام1981...ومن الصعب قياس الخسائر المادية والمعنوية بدقة متناهية لاسباب عديدة ولكن يمكن عمل تقييم يترك تقديرات تقريبية مع الاشارة الى عامل الزمن المفقود الذي لا يعود وقيمته التي لا يعرفها الا الراسخون في العلم وبخاصة ضمن مرحلة الطاغية المخلوع حسني مبارك التي تعتبر من اسوأ الفترات واطولها واكثرها تدميرا! والتي اصبحت من العلامات الفارقة في تاريخ العالم العربي،ازالها بثورة كبرى الشعب المصري العظيم الذي صبر كثيرا على البلاء والتلاعب بمقدراته ومحاولة مسخ شخصيته وكرامته!.
مصادفة فريدة من نوعها ان يتولى الطبيب مهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزي السلطة في بلاده في عام 1981 وهو نفس العام الذي تولى مقاليد السلطة المطلقة حسني مبارك وهو ضابط سابق!(للثقافة والمهنة والصلاحيات دورا رئيسيا في الادارة ونجاحه).
صلاحيات مهاتير هي اقل من صلاحيات مبارك في السلطة وبالتالي فأن المقدرة الممنوحة لمبارك هي اكثر في ادارة شؤون بلاده وتنفيذ سياساته بسهولة دون خوف من اي معارضة في حال رغبته الصادقة في تطويرها او حتى في ابقائها متخلفة ولذلك يتحمل مسؤولية رئيسية فيما حصل!.
هنالك الكثير من العوامل التنموية في صالح مصر اكثر منها في صالح ماليزيا،فلو رغب نظام مبارك فقط في تقليد مافعله نظام مهاتير لكانت مصر اكثر تطورا من ماليزيا لان لتلك العوامل اهميتها الفائقة،ولكن الفارق الان عكسيا وكبيرا وفي صالح ماليزيا! ...
1-يتألف الشعب الماليزي من عدد كبير من القوميات والاعراق والاديان حتى ان الاغلبية القومية لا تزيد عن 50% والاغلبية المسلمة لا تزيد عن 60%،وهو يؤدي الى صعوبة بالغة في التوفيق بينها ويسبب عادة مشاكل كبيرة في مختلف المجالات وبخاصة اذا اريد للعدالة والمساواة ان تأخذ دور الريادة في ادارة الدولة والمجتمع، بينما الوضع في مصر ثنائي التقسيم، ويتكون من اغلبية عربية مسلمة تفوق ال90% واقلية مسيحية قبطية مما يعني ان المشاكل اقل وان توفير الجهد في حل الصراعات وادارة الازمات هو في صالح مصر وهي بذلك تتفادى نسبة كبيرة من المشاكل الناتجة من اختلاف البنية التكوينية للشعب في حالة التعددية.
ولكن الذي حصل هو العكس!...فمصر لديها مشاكل اكثر في هذا الاتجاه.
مساحة مصر وعدد سكانها هو ثلاث اضعاف ماليزيا،كما ان موقع مصر الجغرافي افضل بكثير من موقع ماليزيا وبخاصة قربها من دول الشرق الاوسط واوروبا،وبالتالي المزايا التصديرية اكثر وتكاليف الواردات اقل،ولهذا المكان دوره الاستراتيجي المهم سواء في السياسة او الاقتصاد .
2-كانت محاطة ماليزيا بدول فقيرة وايضا بدول كبيرة الحجم مما يؤثر عليها سلبيا في نموها الاقتصادي وبخاصة من خلال المنافسة الشديدة في استقبال الاستثمارات الاجنبية وفي رخص العمالة ومهارتها واستيعابها للتكنولوجيا وفي مزايا التصدير والادخار الخ، ولا توجد عمالة ماليزية مهمة في خارج البلاد كما ان حركة رؤوس الاموال المتبادلة كانت ضعيفة جدا،ولم تحصل ماليزيا على اية مساعدات مالية كالتي حصلت عليها مصر!.
بينما مصر هي اكبر دولة عربية ومحاطة بعدد كبير من الدول التي تحتاج عادة الى العمالة المصرية مما يعني مساهمة منها في تخفيض نسبة البطالة المصرية وتوفير مصادر جديد للدخل القومي! كما ان الاستثمارات العربية والغربية بمختلف اشكالها مستمرة وضخمة بل اعتبرت مصر من اكثر الدول التي استفادت من الصراع بين الشرق والغرب وبخاصة تلقي المعونات الضخمة واغلبها منح!.
3-عقدت مصر معاهدة سلام مع اسرائيل والتي تنازلت بموجبها عن الكثير من حقوقها السيادية بغية التفرغ للبناء حسب الادعاء! فهل حصلت معجزة اقتصادية تبرر ذلك التنازل السياسي المهين؟!... لقد تدفقت في البداية المساعدات الغربية التعويضية لها ثم بعد عام 1990 رجع تدفق المساعدات العربية التي توقفت عقد من الزمن مما يعني تدفق مالي ضخم سوف يساعد على سرعة التنمية،وهذا التدفق المشروط ضمنا بالعمل في جبهة القوى الموالية للغرب من الانظمة العربية المحافظة، هي تؤدي بالضرورة الى واجب تخفيض الانفاق الدفاعي والامني وتوفيره لتطوير البلاد،ولكن الذي جرى ان افراد القوات المسلحة والاجهزة الامنية بقي مرتفعا ومعطلا وموجها للداخل ويستنزف طاقات وقدرات البلاد دون ان تكون هنالك ضرورة لها،بينما الحال في ماليزيا اصعب لانها محاطة ببعض الدول القوية ولذلك تحتم عليها انفاق دفاعي اكبر ولكنه لم يتجاوز في الواقع اكثر من 2% اما الانفاق الامني فقد بقي ضمن الحدود المعقولة.
4-الثروات الطبيعية المصرية اكبر بكثير من تلك الموجودة لدى ماليزيا... أحتياطي وانتاج البترول والغاز في البلدان متقارب ولكن المتوقع في مصر اكبر في المستقبل،ان ذلك يعني احتمالية توفير موارد مالية ضخمة من جراء تصديره الى الاسواق القريبة،وميزة القرب من دول الخليج تساعد مصر على بناء صناعة تحويلية ضخمة ولكن ذلك غير موجود!!.
لدى مصر قناة السويس التي تدر عائدا ماليا سنويا ثابتا ويرتفع بأستمرار بنسبة معينة وبدون خسائر مكلفة للبيئة او انتاج مواد خام،وانما فقط رسوم عبورعلى السفن،كما ان لديها نهر عظيم يوفر عليها كثيرا في توفير الاحتياجات المائية للسكان هذا بالاضافة الى توفر المعادن الاخرى.
الامكانيات تلك اقل لدى ماليزيا ولكن توفر المياه وبخاصة الامطار وفير.
5-الامكانيات البشرية المتعلمة والمدربة كانت لدى مصر اكبر بكثير،كما ان الانفتاح على العالم هو منذ فترة طويلة بعكس ماليزيا ومجتمعها المحافظ والتي تخلصت من الاستعمار ومن الحرب الاهلية والنزعات السياسية منذ عقود قليلة!.
عوامل اخرى عديدة يمكن وضعها في تبيان الفوارق بين الحالة في مصر وماليزيا ولكن لو وضعت المزايا التفضيلية لكانت في صالح مصر! فهل قام نظام حسني مبارك بأستغلالها كما استغل مهاتير محمد الامكانات البسيطة لدى بلده وجعله في نفس مرتبة ماليزيا ان لم تكون مرتبة اعلى بسبب فارق عدد السكان؟!...الجواب:كلا!.
النتائج المذهلة!:
1-خرج مهاتير طواعية من الحكم في عام 2003 بعد ان بنى ماليزيا وجعلها قوة اقتصادية نامية يحسب لها الف حساب في شتى المجالات دون ان يتنازل عن المبادئ والقيم التي آمن بها او التنازل عن سياسة البلاد المستقلة والتي تحضى بأحترام الجميع،فلم يسرق ويكون الثروات ولم تكن لديه طبقة فاسدة مستأثرة بل نزع الامتيازات والحصانة من كل السلاطين والوزراء وغيرهم.
بينما بقي حسني مستمرا رغم كبر سنه والكره الشديد الذي يحضى به من قبل الغالبية في داخل مصر وخارجها حتى اصبح علامة فارقة في الاجماع! لغاية خلعه بطريقة مهينة وبثورة عارمة عام 2011 ولولا ذلك لبقي مدى الحياة ومن ثم يورث الحكم لابنه وشلته الفاسدة المنحرفة!...الفارق كبير اذا في احترام الشعب الماليزي لمهاتير، الذي ابقى اسمه محفورا في الذاكرة وفي تاريخ بلده والعالم،بينما المخلوع لم يبقى سوى اسابيع حتى سيق ذليلا للعدالة التي طال امد انتظارها!.
2-في عام 1981 كان دخل الفرد المصري ثلث دخل الفرد الماليزي اي 500$مقابل 1500$تقريبا...اما في عام 2010 فقد كان متوسط دخل الفرد المصري حوالي2700$ بينما وصل الماليزي الى 14700$ فقد كان النمو خلال العقود الثلاثة يفوق7% بينما مصر مرت بمراحل من الركود والنمو السلبي!...والفارق في اتساع مستمر لان النمو الاقتصادي الماليزي السنوي يفوق 8% بينما في مصر لا يتجاوز الحقيقي 2 %.
الصادرات الماليزية نمت بصورة سريعة وكانت مذهلة ليس فقط في الكم بل والنوعية والجودة ايضا التي اخذت تنافس اقوى الاقتصاديات العالمية.
فقد وصلت الصادرات الى مايقارب 200 مليار دولار عام 2010 بينما لم تتجاوز الصادرات المصرية وبضمنها صادرات النفط والغاز عن 20 مليار! بدون اي نوعية او جودة يشار لها بالرغم من ان الفرصة امام مصر كبيرة لقربها من الاسواق في اوروبا والخليج...اما الواردات فأن فائض الميزان التجاري الماليزي وصل الى مايقارب 50 مليار دولار عام 2010 بينما وصل العجز في مصر الى حدود 25 مليار$! وهي عاجزة حتى عن سد الاحتياجات الغذائية ودفع فاتورة الاستيراد!فقد تحولت مصر الى احدى اكبر الدول في العالم استيرادا للغذاء بالرغم من توفر الامكانيات الكافية لكي تصدره!.
3- تجاوز عدد السياح في ماليزيا حدود 25 مليون سائح سنويا بينما لم يتجاوز 10 ملايين سائح في مصر بالرغم من ميزات قربها من ثلاث قارات وتوفر الاماكن السياحية وبضمنها التاريخية القديمة...والمفروض من السياحة ان تكون لمصر ايسر بفضل ذلك القرب والدخل الوارد يكون اعلى بسبب كون السياح ينتمون لبلاد ذات وفرة مالية بعكس المحيط بماليزيا المقارب لها او الاكثر فقرا من الناحية الاقتصادية،ولكنها بالرغم من ذلك استطاعت ان تستغل الامكانيات السياحية المتاحة وان تصل الى تلك الدرجة العالية التي لم تحققها مصر بسهولة!.
4-استطاع مهاتير ان يبني دولة عصرية خالية من الفساد وتتوزع السلطات كما ان التفاوت قل الى ابعد حدود ونسبة الفقر متدنية الى ادنى حد،وهذا غير موجود لدى مصر لغاية سقوط النظام عام 2011...فالفقر تجاوز 44% ونسبة الامية لا تقل عن 30% بالرغم من التاريخ العريق لنظام التعليم المصري الذي اصبح في موقع متأخر بالمقارنة مع ماليزيا التي تنفق ربع الميزانية على التعليم والبحث العلمي واستغلته ببراعة في التنمية الاقتصادية حتى ظهرت ثمار ذلك التوجه العقلاني البارع في التطور التكنولوجي.
5-الموازنة الدقيقة في التخطيط والعمل كان علامة فارقة في النهضة الماليزية التي وضع اسسها مهاتير محمد...فقد انشأ على سبيل المثال مدن ادارية وصناعية بينما بقيت الكثافة السكانية العالية مشكلة مصرية بأمتياز!.
6-الحرية والديمقراطية في ماليزيا بالطبع لا تقارن بالدول الغربية الا ان مهاتير محمد لم يمارس الطغيان ويشغل نظامه واجهزته الامنية بمحاربة القوى السياسية الاخرى وانتهاك حقوق الانسان وكرامته كما في حالة مصر بل انشغل الجميع في عملية البناء والتنمية،وهذا انعكس ايضا على العلاقات الخارجية فقد كان لديها علاقات متميزة ومتوازنة مع اغلب بلدان العالم بينما كان نظام حسني مبارك نموذجا للانتهازية والارتزاق الدولي وصانعا للتحالفات الاقليمية ومحاورها السياسية ومعاديا لبلاد عديدة،جامعا بين شعوبها وانظمتها وكل ذلك بالطبع يعود سلبيا على مصر وشعبها ويوقف عجلة التنمية التي تحتاج عادة الى اقامة صداقات دائمة والابتعاد عن النزاعات وبث الفتن وخلق الاعداء!.
ثلاثة عقود من الزمن تطورت فيها ماليزيا ووصلت الى اعلى المراتب المتقدمة بينما تأخرت مصر فيها ووصلت الى مراتب متدنية وفق التصنيفات العالمية المختلفة،ان المقارنة البسيطة تثبت حجم الدمار والفشل الذي اوصله نظام مبارك لمصر وجعل المعارضة ضرورية لازالة هذا الحكم الفاسد.