حصر التغيير بوسيلة واحدة مثل الانتحار بوسائل متعددة هو خطأ فادح كما يتبين،فوسائل التغيير لا حصر لها،ولكن الهدف الاسمى هو اطلاق الشرارة كي تنتشر بسرعة من خلال الاستفادة من الزخم، وهذا لا يحدث الا بالرغبة الجماعية لمجموعة معينة بالاستعداد للتضحية والشهادة وحينها لا يمكن اعتبار ذلك انتحارا حتى لو كانت التوقعات تشير الى ان الهلاك الجسدي هو المصير المحتوم لتحدي السلطة الغاشمة!.
ان رؤية الدم المسفوح واستشهاد مجموعة تتصف بصفات نادرة من بينها الشجاعة سوف يؤدي الى تحريك النفوس وشحذ الهمم ولو بعد فترة طويلة،وانتصار السيف يكون حينها مؤقتا وهو معبر عن القوة المتلازمة بالوحشية المفرطة،ولذلك قيل في وصف ثورة الامام الحسين(ع) انها ثورة انتصر الدم فيها على السيف،حيث استطاعت في زرع التحدي لكل سلطة تكون غير شرعية واصبحت حينها نبراسا لكل الثورات التي جاءت من بعدها والتي ازالت الحكم الاموي الذي لم يستقر ابدا،بينما بقيت الثورة خالدة على مدار التاريخ.
تهافت فكرة القالب الثوري!:
ان شرارة الثورة التونسية لن تنتهي في موطنها بأنتصار الثورة!...ابدا بل هي منطلق جديد لكل الثورات المستقبلية والمتوقعة في العالم العربي كما اصبحت ثورة التضامن العمالية في بولندا منطلقا لكل الثورات في اوروبا الشرقية!.
ولكن قولبة الثورات على نفس النمط التونسي الحديث او كما حدث سابقا مع النظرية الماركسية هو اكبر خطأ يقع فيه قادة المعارضة والرأي في العالم... والقولبة تعني نقل التفاصيل الدقيقة او الجزء الاكبر منها من بلد لاخر بغية بعث الثورة فيها، وقد وقع في هذا الخطأ الفكري الفادح عدد كبير من قادة الثورات ومنظريها في العالم،ولم تختص بفكر معين!...
من الامثلة المأساوية على ذلك هو قضية جيفارا الثائر الارجنتيني الذي اراد تحريك العالم حتى لا ينام بثقله الوحشي على اجساد البشر الضعفاء والمحرومين! من خلال استعارة المنهج الكوبي في الثورة ومحاولة تطبيقه اولا في افريقيا التي لم يجد البؤر المناسبة ولا حتى الحضن المستعد لتقبل فكرته التي استمدها من مشاركته الفعالة في الثورة الكوبية!...وحينها توجه الى بلاد امريكا اللاتينية القريبة من كوبا والمشتركة معها في خصائص متعددة قد تسهل عليه امر اشعال ثورة اخرى على نمط الثورة الكوبية التي سوف تكون عونا لها في مواجهة العالم الرأسمالي!...فأختار بوليفيا التي كانت الظروف مهيئة فيها للثورة ومع ذلك فشل فشلا ذريعا تسبب في مقتله بطريقة وحشية لانه لم يدخل في منهجه الاختلافات سواء بين المجتمعين او الطبيعة الجغرافية،وكذلك حركة توباماروس المسلحة التي فشلت في احداث تغيير ثوري تحت قيادتها،وايضا الثورة السلفادورية التي استعارت النهج الساندينستي في نيكاراغوا وغيرها،مما ادى مراجعة تنظيرية شاملة لفكر الثورة المسلحة وفق اسلوب العصابات الثورية التي اشتهرت به امريكا اللاتينية.
لا بأس الاستفادة من التجارب الثورية الاخرى وبخاصة في المنهج التنظري ولكن ليس باسلوب نقل النسخة الكاملة،بل لا بد من ادخال تحسينات جوهرية تؤدي الى خلق نماذج جديدة تتلائم مع الوضع المحلي لكل بلد.
الغاية من الثورات:
تتلخص الغاية في كونها تهدف للتغيير الشامل بعد ان يعجز الجميع عن اتقان لعبة التغيير وتبادل السلطة بصورة سلمية،وقد تكون الثورة سلمية او مسلحة وحسب الظروف...المهم ان الهدف الاسمى هو حصول التغيير.
التغيير هنا هو نحو السمو وتجاوز السلبيات القائمة...نعم قد تسرق الثورات من اصحابها الاصليين وقد يكون السراق هم من اتباع النظام القديم الذين لا يستسلمون ابدا لاي تغيير يجبرون عليه في الوضع الجديد!.
اذا لم تكن الغايات نبيلة فأن الثورة تكون اقرب للتمرد والعصيان المسلح في الصراع بين القوى المختلفة على السلطة،وقد شهد العالم عددا كبيرا من الحروب الاهلية البعيدة عن الغايات المتعارف عليها في تصنيف الثورات، من قبيل الحرب اللبنانية والحرب في اليمن الجنوبي عام 1986 وحروب القرن الافريقي وغيرها.
اذا لم تكن الغايات من الثورة ترتكز على تحرير الشعب من القيود المفروضة وتأسيس حكم صالح يستند على الحرية والعدالة والمساواة ولو بنسبية سائدة فأن الصفة سوف تنتزع نهائيا منها وتصبح عديمة الجدوى او بذات قيمة معتبرة!.
الملاحظ ان الفارق الرئيسي بين الوسائل الثورية والغايات من الثورة يتلخص بأن الوسائل متعددة ولا تنحصر بقالب او صنف ما...بينما في حالة الغايات فأنها تكاد تكون مشتركة بين الجميع مع وجود فوارق نسبية قد لا تكون لها ذات الاهمية مع وجود العوامل الجامعة.
الرغبات الشعبية الملحة في ضرورة تحسين وضعها المعيشي المتردي نتيجة للسياسات الخاطئة والفساد المستشري،هي الغايات الرئيسية السائدة الان ولولا تلك الحاجات الملحة التي طال امد الحصول على ادنى مستوياتها، لما رأينا من انطلاق موجات الاحتجاجات التي كسرت حاجز الخوف والرعب المسيطرة على الوضع السياسي في العالم العربي...
الانظمة الحاكمة حاليا اثبتت للجميع غبائها حتى في ادامة حكمها لاطول فترة ممكنة!...فلو كانت هنالك حالة نسبية من الازدهار الاقتصادي مع وجود مساحة ضئيلة من الحريات فأن حالة الغضب والانفجار الجماهيري سوف تكون مستبعدة او مؤجلة على الاقل لفترة قصيرة وبالتالي سوف تكون مرتاحة وغير قلقة من الانقلابات والثورات،قد يكون هنالك تحجج من قبل السلطات الحاكمة بضعف الامكانيات المادية المتاحة مع وجود وفرة سكانية! الا ان ذلك الرأي المضاد هو ضعيف كليا بسبب ان الاستغلال الامثل لامكانيات اقل في بلاد اخرى وبخاصة في اسيا قد ساهم بنقل تلك البلاد الى مراتب متقدمة،وعليه فأن الغالبية الساحقة التي ملت ولو من رؤية مكافحة جدية للفساد قد تبرر بقاء الاوضاع الراهنة دون تغيير نتيجة للرأي الرسمي بضألة الامكانيات،قد اصبحت تشعر بالرغبة العارمة في احداث تغيير قسري ولو من خلال التضحية،وحالات التذمر الشعبية المستمرة هي تؤشر لوجود جمرات تحت الرماد تتغافلها القوى الحاكمة المستندة على اجهزة وحشية مستعدة للانقضاض على اية حركة مناهضة للحكم!.
شراسة الحكم واستغلاله سوف يؤديان الى ازالتهما من الوجود عاجلا ام آجلا! وكلما كان الضغط اشد كلما كان الانفجار اسرع واقوى من المعتاد!. ولكن هيهات ان تكون التجارب السابقة عبرة للبشر! فالثورات الحالية ما هي الا وريثة شرعية لنفس الثورات سابقة والظروف كانت الجامع الاكبر بينها... كان من الممكن الاستفادة من عبر التاريخ لتوفر على شعوبها المفقود من الارواح والممتلكات.
هناك تعليق واحد:
مقالة جيدة ..
يعطيك العافية
إرسال تعليق