منتخب الدرر:
الكثير من الاقوال والكلمات هي درر متناثرة بين صفحات التراث الانساني الضخم والمتنوع...هي تختزل بكلماتها القليلة وعباراتها القصيرة مجمل الوقائع والحوادث والاوصاف في تلك الحياة بأساليب بديعة في غاية الاتقان اللغوي الدالة على براعة ادبية لا تحضى بها الا قلة نادرة،وهي تمنحنا متنفسا رحبا ومجالا مثيرا ورائعا للتأمل والتفكر .
1-قال العماد الاصفهاني(1125م-1201م) في مقدمة كتابه جمهرة الادباء:
إِنِّي رَأَيتُ أَنَّهُ لاَ يَكْتُب أَحَدٌ كِتَاباً فِي يَومِهِ إِلاّ قَالَ فِي غَدِهِ، لَو غُيِّرَ هَذَا لَكَانَ أَحْسَن، وَلَو زِيدَ هَذَا لَكَانَ يُسْتَحسَن، وَلَو قُدِّمَ هَذَا لَكَان أَفْضَل، وَلَو تُركَ هَذَا لَكَانَ أَجْمَل، وَهَذَا مِن أَعْظَمِ العِبَرِ، وهُوَ دَلِيلٌ عَلَى اِستِيلاَءِ النُقصِ عَلَى جُملَةِ البَشَرِ...
هذه العبارات للاديب البارع العماد الاصفهاني،وهي تعبير رقيق عن حالة انسانية شائعة خاصة عند الذين يطلبون اقصى درجات الدقة والاتقان لعملهم،وهي تختلف بين فرد وآخر،وقد تصل الى درجة المرض الوسواسي في اعلى مراحلها او الاهمال المطلق في ادنى مراتبها! وبينهما مجال واسع للاختلاف.
وفي مجال الكتابة نرى عددا كبيرا من الذين لا يراجعون كتاباتهم او بحوثهم حتى لغرض تصحيح الاخطاء الاملائية من المسودة!وعليه يكونوا عرضة لسهام النقد والتجريح،بينما الواجب المراجعة لغرض التدقيق والتنقيح والتصحيح حتى يخرج النص بأفضل واجمل صورة،وقد نجد آخرون يهتمون الى درجة قد يلغوا جهد سنين في لحظات لكونهم غير راضيين به! وفي الحالتين تطرفا غير محمود.
هذه المراجعات الشائعة هي احدى علامات النقد الذاتي وقد لا تكون ظاهرة للعيان ولكنها شعورا انسانيا يتولد لديه بأستمرار وهي عبرة لمن يدعي الفوقية والاستعلاء والعظمة ويتجاهل ذلك النقص الموجود لديه في هذا المثال البسيط!...لذلك نرى انه غالبا ما يتم تصحيح وتعديل وتنقيح المؤلفات المخطوطة والمطبوعة حتى ولو بعد مرور فترة زمنية طويلة لغرض اشباع تلك الحاجة الانسانية الملحة في ضرورة ان يكون العمل خاليا من النواقص والعيوب!.
يتجاهل الكثيرون المراجعة الذاتية وبخاصة في نتاجاتهم وهم بذلك يهملون فرصة مثالية للوصول الى اعلى مستويات الاتقان في الصنعة الكتابية كما هو في بناء الذات لغرض السمو بها في اعلى الدرجات...والمراجعة في نفس الوقت لا تعني الخلاص من هذا النقص الظاهر في الشخصية البشرية بصورة مطلقة بل هو عمل نسبي ووسيلة لتحجيم الثغرات الموجودة وجعلها غير مرئية!.
حتى الاعمال والقرارات الصادرة والتي تتخذ بأستعجال او بدون تدبر فأن المراجعة تكون ملحة وضرورية لغرض تصحيح كل الاخطاء الناتجة على ضوء النتائج المرئية والمسموعة،والاحمق هو من يبقى مصرا على خطأه بحجج واهية والاخطر اذا كانت تلك تتعلق بأرواح وممتلكات شعوبا وامما بأكملها وحينها تكون النتائج كارثية!...
من الطرائف الشائعة ان نرى فنانا يتبرأ علنيا من عملا قام به في فترة سابقة او يتنصل مسؤولا عن قرار ثبت للجميع خطأه فيه!...وهو دليل على زيادة وعي الانسان وقدرته على تقييم اعماله السابقة من خلال الميزان الزمني الذي تتراكم فيه الخبرة والمعرفة. ليست العبرة بكثرة النصوص المكتوبة ولكن العبرة بنوعيتها ودرجة الفائدة المرجوة منها، وقد نرى كاتبا لديه رواية واحدة شهيرة،بينما آخرون لديهم العشرات ولكنها غير مشهورة!.
ليست هنالك خسائر في المراجعة بقدر الخسائر الناتجة من تجاهلها! فلنجرب المراجعة ولو لمرة واحدة مع تفضيل تجربة الخوض لاول مرة،ومع روعة التعددية في كل شيء،تظهر لنا مزايا المراجعة!.
من التجربة الذاتية كلما اراجع نصا مكتوبا ارى يدي وبدون وعي مسبق،تمتد اليه لغرض التعديل والتصحيح والاضافة والحذف والتبديل حتى ولو بصيغ العبارات والكلمات مما يعني ان الرغبة الذاتية غير مشبعة بالقبول التام وعليه فأن اشباعها هو اشباع للنفس التواقة للسير بخط متوازي مع حالة اشباع الجسد الذي لا يمر عليه يوم الا واخذ حاجته الطبيعية ولو بحدها الادنى!.
مراجعة النص المكتوب ولو بعد حين هي جزء يسير من مراجعة الذات في كل شيء!...
ضرورة لا غنى عنها ابدا!.
هناك 4 تعليقات:
صدقت
وصدق الأديب الأصفهاني
وهذا ينطبق أيضا على سلوكنا بل وعلى حياتنا كلها،
أي تصرف سيء يصدر عنا فهو بالتأكيد كان بدون مراجعة ولا تدقيق،
ثم يحدث أن نتأسف ونتحسر على تسرعنا وعدم مراجعتنا لأفعالنا قبل صدورها
مقالة رائعة والأروع مقولة الأديب الأصفهاني
وفي رأي أن الناس الذين يدققون ويراجعون نصوصهم وما يصدر منهم من أفعال هم فئة قليلة !
بارك الله فيك أخي وشكرا لك على هذا الطرح الجميل :)
يعطيك العافية
موضوع جيد وطرح مميزة ومعلومات هائلة
كل الود
النقص يلازم الانسان كلزوم الفناء
سترك يارب وشكرا لك
إرسال تعليق