اسس البنية التحليلية-السياسة نمواسس البنية التحليلية-السياسة نموذجا -الحلقة الثانية عشر
ب- النظم الاقتصادية:
بطبيعة الحال ان الفروقات هي من الضخامة بين النظم الاقتصادية بحيث لا يمكن حصرها في مجلدات!فكيف يمكن اختصارها في دراسة ؟! اذن هنا للتبسيط تكون المقارنة مختصرة ويمكن لنا ان نضعها في خانة نتائج النظم الاقتصادية حتى تلائم التحليل السياسي...
في القرن العشرين سيطرت على العالم نوعين رئيسيين من النظم الاقتصادية وكلا منهما له نظريته المعرفية العامة وهما:المذهب الرأسمالي،والمذهب الاشتراكي،وكلاهما تختلف درجة العمل بحرفية المبادئ وحسب طبيعة الدولة ونظامها السياسي...المذهب الرأسمالي بالطبع كان سباقا في الفترة الزمنية ولم يظهر الثاني اي الاشتراكي الا لتصحيح اخطاء الرأسمالية نفسها ثم اعتبر نفسه نهاية المراحل التاريخية كلها! وكأن الحضارة الانسانية سوف تتوقف عن الابداع والابتكار!...
النظم الاقتصادية الرأسمالية التي كانت سائدة قبل انتشار الافكار الاشتراكية في القرن التاسع عشر هي تختلف بصورة كبيرة عن رأسمالية ما بعد الحرب العالمية الثانية،فقد استفادت كثيرا من اخطائها الجسيمة التي تنبأت النظريات الاشتراكية وخاصة الشيوعية بأنهيارها! ومعظم تلك الاخطاء تناولتها الادبيات الاشتراكية بالنقد والتحليل وطرح الحلول الممكنة لها...اذا هي في جانب كبير استعارت الحلول الاشتراكية ولم تجد عيبا في ذلك كونها تصلح الاخطاء دون تغيير جذري في الفكر الرأسمالي...ومن بين تلك الحلول هي منح حقوق العمال بصورة تفوق ما موجود في بعض النظم الاشتراكية نفسها التي حرمتهم حتى من حق الاضراب! وايضا قبول تدخل الدولة في الاقتصاد وتكوين القطاع العام والتأمين الصحي والاجتماعي مع مجانية التعليم ثم والاكثر اهمية هو قبول الليبرالية والديمقراطية كمنهجين فكريين في الحياة والسياسة،وبالتالي اصبح النظم الرأسمالية مستوعبة للتغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحسب الظروف الموضوعية للمكان والزمان، وهذا ما جعلها تنجح في الاستمرارية بالرغم من بعض الازمات الدورية التي يخضع لها الاقتصاد العالمي بين الحين والاخر وتخرج منها غالبا منتصرة...
اما الاشتراكية فقد بقيت بالرغم من التراث الفكري الضخم على تقوقعها ولم تسمح بمشاركة الافكار والنظريات الاخرى في الدخول للمجتمعات الاشتراكية التي سقطت في مستنقع الاستبداد الشمولي والذي معه تسقط كل النظريات والافكار مهما بلغت درجة المتانة فيها في التطبيق!...وبذلك رفضت النظم الاشتراكية المختلفة اغلب الحلول الاتية سواء من قبل النظام الرأسمالي بأعتبار ذلك رجعية وخيانة وتقهقر في نظر المتزمتين! وايضا رفضت الليبرالية والديمقراطية كمنهجين في الحياة الخاصة والعامة وزادت على ذلك في محاربة الاديان واعتبرتها افيون قاتل للشعوب من خلال قياس مراحل تاريخية معينة على المسيرة الانسانية برمتها!مما جعلها مكروهة او منبوذة من قبل قطاعات شعبية واسعة مؤمنة كان من الممكن ان تكون عونا لها في صراعها مع الرأسمالية...
ان الاخطاء المتراكمة في تاريخ النظم الاشتراكية لم تصحح بفعل طبيعة النظم الشمولية وقسوتها وانغلاقها،واصبحت الحياة كئيبة وخاضعة للتخطيط المركزي الصارم الذي لايسمح بالحرية الفردية في العمل او لا يهتم للجودة بقدر تركيزه على الكم بصورة مفرطة! ولهذا اشتهر المنتوج الشرقي بالرداءة وتخلف التكنولوجيا بالقياس الى المنتوج الغربي البالغ الاتقانة... هذا بالاضافة الى التدخل المفزع في الحياة الاجتماعية وتقييدها الى درجة اصبح الكارهون لطبيعة هذا النظام اكثر مما تتصور المفكرون الاوائل في جعلها جنة الانسان على الارض! الا ان النفاق الاجتماعي والخوف من التعبير وسحق الانسان والحط منه كقيمة عالية وجعلها ذائبة في الجماعة البشرية،هي من مميزات هذا النظام وطبيعة الحياة الداخلية التي وضعت تحت ستار حديدي تنتهك حقوق الانسان بل ابيدت شعوب بأكملها تحت مختلف الاعذار والاسباب الواهية!منذ تأسيس اول بلد اشتراكي في العالم وهو الاتحاد السوفييتي،والمجازر تتوالى سواء التي ارتكبت في العهد الستاليني وتحت حكم ماو في الصين وكيم ايل سونغ في كوريا الشمالية وكذلك فيتنام وكوبا ورومانيا او البلد الاكثر غرابة وقسوة وهو البانيا التي عادت الى الحياة بعد موت طاغيتها الرهيب انور خوجة عام 1985!...
وبذلك انقلب الهدف من تأسيس الاشتراكية! فبدلا من ان تصحح مسيرة الرأسمالية فأذا بالرأسمالية نفسها تصحح مسيرتها كما وجدنا ذلك في الصين او فيتنام الان! والخلاصة ان انفتاح الرأسمالية ساهم في بقائها وتطورها حسب الظروف،بينما كان الانغلاق والتحجر الفكري سببا في انهيار الاشتراكية كنظام اقتصادي وفكري يمكن الاشارة اليه كأحد ابرز النظريات السائدة الان،وفي المقابل فأن بعض النظم اصبح يشار اليها بالنظم الاشتراكية الديمقراطية كما هو معروف الان في البلدان الاسكندنافية او في فرنسا واسبانيا اثناء حكم الاحزاب الاشتراكية فيها والتي قبلت بالواقع الرأسمالي وساهمت في تجديده واثراء الحياة فيه من كافة النواحي!...
كان تطبيق النظريات الاشتراكية في البداية ناجحا الى حد كبير،ويعود السبب الرئيسي هو كونها تسلمت الحكم في بلاد خارجة من الخراب والدمار والتخلف الشديد بسبب الحروب الداخلية والخارجية،واستطاعت بأجراءاتها المختلفة من رفع المستوى المعيشي للغالبية العظمى من الشعب بحيث اصبحت نموذجا يحتذى به،وكان في خلال الفترة ذاتها تمر النظم الرأسمالية بأزمات عديدة سواء على المستوى الاقتصادي كما حدث في ازمة 1929 او السياسي كما حدث في الحربين الاولى والثانية،او الاخلاقي بسبب احتلالها الطويل لبلدان العالم الثالث، بالاضافة الى ازمات اخرى مما جعل النظر اليها كنموذج مثالي في النظرية والتطبيق هو بمثابة العودة الى الوراء حيث الالم والاستغلال البشع والحرمان من الحياة الكريمة الا لفئة قليلة من السكان... ولذلك فأن النمو الاقتصادي المذهل وبالرغم من الاخطاء السابقة القاتلة للحكم الشمولي،الا ان ذلك النمو كان محفزا لغالبية النظم المتخلفة في العالم الثالث ومن ضمنها الدول العربية! التي تقلد الاخرين بعماء وغباء بالغين! ولا تستفاد من خلال المقارنة والدراسة والتحليل من النظامين الرئيسيين الموجودين!...
ان النمو الاقتصادي المذهل للنظم الاشتراكية لم يستمر طويلا ،فقد اصبح ضعيفا منذ الستينات من القرن العشرين،وازداد ضعفا حتى وصل الى مرحلة الركود الاقتصادي في الثمانينات والذي ادى الى انهيار النظام برمته بالرغم من محاولة غورباتشوف المتأخرة بسياسته المعروف بالبيروسترويكا والغلاسنوست اي اعادة البناء والانفتاح.
المشاكل الاقتصادية الكبيرة والترهل في النظام الاشتراكي برمته كان من الممكن للدول النامية المقلدة له ان تتحرر منه او تستفاد من المقارنة والتحليل من خلال رؤية النظام الرسمالي يتفوق بجدارة من خلال انفتاحه الدائم،وبالرغم من ان النمو الاقتصادي المستمر قد توقف مرات عديدة بسبب حالات الركود،الا ان التقدم الاقتصادي المصحوب بنمو تكنولوجي مذهل،قد اصبح مثالا بارزا للخلاص من آثار التخلف...
امثلة عديدة:
هنالك العديد من الامثلة التي تعطي لنا صورة تفصيلية عن النجاح والفشل الاقتصادي لبعض البلدان الخارجة من الحروب من خلال تطبيقهما النموذجين الرأسمالي والاشتراكي...
1- كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية:هذان البلدان هما امة واحدة في الحقيقة ولكن فرقت بينهما السياسة!من خلال اختيار الشمال للاشتراكية الماركسية، واتباع الجنوب للراسمالية وقبول الليبرالية والديمقراطية لاحقا منهجا ولكن بعد السير في الطريق الرأسمالي لما يقرب من اربعة عقود من الزمن!... بمعنى آخر ان كوريا الجنوبية لم تسير في الطريق الديمقراطي الا في عقد الثمانينات وكانت في خلال الفترة السابقة تخضع للديكتاتورية العسكرية.
كانت كوريا الشمالية اكبر مساحة وأوفر مواردا واكثر تقدما،بينما كانت الجنوبية اصغر حجما واقل مواردا واكثر تخلفا مع ضعف عدد السكان...
ونهجت الاولى المنهج الشيوعي مع عزلة تامة عن العالم بينما انفتحت كوريا الجنوبية واخذت تنمو ببطء في البداية حتى انطلاقتها الحقيقية في الستينات،ولكن بقيت متخلفة عن الشمالية حتى تساوى دخلا الفرد عام 1973 ثم بعد ذلك تقدمت الجنوبية بنمو مدهش حتى وصلت الان الى احدى اقوى البلدان العشر الصناعية في العالم! ووصل دخل الفرد الى ما يزيد عن عشرين ضعفا بالمقارنة مع دخل الفرد في الشمال الذي اصبح يعاني الجوع والتخلف بسبب التشدد الحكومي وعدم الانفتاح على الخارج بالاضافة الى انفاق الموارد على الدفاع والامن بصورة مرعبة!...
2-الصين وتايوان:كان الوضع الاقتصادي متشابها في البلدين لان تايوان في النهاية كانت جزء من الصين التي تطالب بها الى الان...
اخذت تايوان تنمو بقوة من خلال اتباعها الاقتصاد الحر ونظرا لكونها بلا موارد طبيعية مثل اليابان وكوريا الجنوبية،فأن الانفتاح على الاستثمارات الخارجية كان وسيلتها المفضلة لتشغيل القوى العاملة بأجور زهيدة سرعان ما استوعبت التكنولوجيا فأصبحت الان من القوى الاقتصادية الرئيسية في العالم وكان بالرغم من حجمها الصغير من الدول صاحبة اضخم احتياطي نقدي في العالم! بالرغم من انها تنفق كثيرا على الدفاع وخوفها الدائم من هجوم الصين لاستعادتها...
وفي المقابل كانت الصين بالرغم من ضخامة عدد سكانها ومواردها،تعاني كثيرا من الفقر والجوع والاستبداد الذي قتل عشرات الملايين وخاصة اثناء الثورة الثقافية المزعومة!...وبالرغم من انها اكبر بلد من حيث عدد السكان الا انها ولغاية عام 1978 كانت احدى افقر الدول في العالم بل ان دخل الفرد كان يقدر ب 120 دولارا بالمقارنة مع الهند والبالغ حينها 180 دولارا بينما كانت امريكا اكثر من 9600 دولار !...وفي نهاية عام 1978 قرر زعيمها دينغ هسياو بينغ من فتح ابواب الصين دون التنازل عن الشيوعية كمذهب سياسي حاكم بغية انقاذ البلاد من الجوع والتخلف الذي حصل بفضل البيروقراطية والانعزالية والاستبداد الحكومي الفظ!...ومنذ ذلك التاريخ والصين تنمو بسرعة هائلة لا تقل عن 10% حتى اصبح دخل الفرد فيها لعام 2009 يقارب 3700 دولارا عام 2009 اي مايزيد عن 30ضعفا بينما كانت مصر في نفس الفترة حوالي 400 دولارا عام 1978 اي ثلاث اضعاف الصين اما الان فقد وصلت الى 2450 دولارا اي اقل من ثلثي دخل الفرد الصيني! واكيد الفارق سوف يتسع في المستقبل نظرا للنمو الهائل في الصين.
واستطاعت الصين في تجاوز العديد من دول العالم واصبحت الاولى في التصدير كما استفادت من الدول المجاورة في التعاون المستمر،ولو بقيت الصين على نفس طريقة كوريا الشمالية لما وجدنا انتاجها الصناعي الضخم يغزو اسواق العالم بهذه الطريقة!...
3-المانيا الشرقية والغربية:قبل وحدتهما عام 1990 كان مستوى دخل الفرد الجزء الغربي يفوق الشرقي بحوالي اربعة مرات! وبالرغم من كون الجزء الشرقي هو الاول في الكتلة الشيوعية الا ان الغربي كان ايضا في المراتب الاولى بالنسبة لدخل الفرد،وقد عانت الشرقية من المشاكل الكثيرة حتى انقذتها الغربية بالوحدة!والاختلاف في النظامين الاقتصاديين هو الذي ادى الى هذا التفاوت الكبير في مستوى المعيشة والتكنولوجيا.
نتائج تطبيق النظامين الاقتصاديين هو واضح للجميع،فلماذا تستمر الكثير من الدول النامية وخاصة العربية منها في اتباعه؟!...فسوريا مازالت متخلفة اقتصاديا بصورة تدعو الى الدهشة والفارق بينها وبين اسرائيل هو كبير بلا شك!ولا يمكن تفسير ذلك بالانفاق الدفاعي الضخم فتايوان مثلها في نسبة حجم الانفاق! وكذلك ليبيا الغنية بالنفط والفقيرة بأنتاجها الصناعي والزراعي بينما استفادت النرويج من ثروتها البترولية القليلة في بناء اقتصادها لتصبح الدولة الاولى في دخل الفرد في اوروبا بل ضمن المراتب الاولى في العالم!...
عدم الاستفادة من تجارب الاخرين والرغبة في التقليد الاعمى دون تصحيح الاخطاء الواضحة هو الذي ادى الى هذا المستوى من التردي الاقتصادي، فمصر تحولت من الرأسمالية الى الاشتراكية بعد انقلاب 1952 ثم تحولت الى الرأسمالية الغير مدروسة في عام 1974! ولكن في الحالتين تاهت في الطريق المؤدي الى العالم المتقدم!...اما سوريا وليبيا والجزائر فقد بقيت ملتزمة بالخيار الاشتراكي بالرغم من التخلف المستمر ليس فقط في البلدان التي اتبعت الطريق الاشتراكي بل في بقاء اقتصادياتها ضمن خانة الدول النامية،بينما بقيت بعض الدول مثل المغرب وتونس والاردن واليمن متخلفة بالرغم من اتباعها الطريق الرأسمالي بسبب عدم استيعاب المنهج الرأسمالي بصورة علمية مدروسة بعناية خاصة في الانفتاح الذي يؤدي الى مكافحة الفساد المستشري بالاضافة الى ضعف الدور الحكومي في بناء الانسان النوعي بدلا من التركيز على الكم!.
ان النمو الاقتصادي يحتاج دائما الى قوة وارادة ونزاهة مع الاستفادة من خبرات واخطاء الغير ولذلك تقدمت تركيا كثيرا منذ عام 2002 بينما كانت قبل ذلك ولمدة طويلة تزيد على ثمانية عقود من الزمن،احدى اكثر الدول تخلفا حتى ان غالبية الدول الاوروبية رفضت انضمامها للوحدة الاوروبية بالاضافة الى اسباب اخرى معروفة!...
المقارنة وتحليل تجارب الاخرين يؤدي الى الاستفادة من تجاربهم وتجنب الوقوع في اخطائهم!...