اسطورة التغيير الفوقي -القسم الحادي والستون
من ابرز ما تميزت به الثورة الامريكية انها كانت خالية تقريبا من الصراعات الدموية التي تحدث عادة بعد الثورة سواء بين الطبقات الجديدة والقديمة او بين قادة الثورة نفسها واجنحتهم المتصارعة في سبيل الاستحواذ على اكبر مجال في السلطة،وذلك التميز هو مثالي بحد ذاته لان الغالبية الساحقة من الثورات في العالم سقطت في مستنقع العنف الدموي الذي يكون الطريق الاسهل امام الجميع لتحقيق الذات والرغبات وبذلك اصبحت مقولة ان الثورة تأكل ابنائها هي خير معبر عن تلك الحالة المأساوية التي تبرز فيها الغرائز البشرية بصورتها الوحشية! وليس بالضرورة ان يكون المنتصرون في نهاية الصراع هم الاقدر فهما على استيعاب مبادئ الثورة واهدافها! بل العكس غالبا ما يكون من خلال سيطرة الافراد والجماعات الراغبة بالسلطة اكثر من رغبتها في تطبيق ما يدعون به لكون الشعارات غالبا ما تناقض سلوكهم الوحشي في الرغبة المحمومة في السيطرة والنفوذ والاستمتاع بملذات الحكم بعد فترة حرمان طويلة!ومن الملاحظ ان الاشخاص والفئات الاكثر تمسكا بالاهداف السامية هم الاكثر عرضة للتصفية والنفي او الابعاد من غيرهم بسبب عدم امتلاكهم لقدرات نفسية او حتى مادية للقضاء على الخصم الذي هو رفيق نضال في السابق! ولذلك فأن الكثير من افراد الشعوب المحكومة بنظم ملكية مستقرة يفضلون نظامهم بالرغم من عيوبه الظاهرة على ان يكونوا نسخة مشابهة للدول التي تعرضت لثورات تكون نهايتها صراعات دموية مدمرة!.
مازالت الكثير من انجازات الثورة الامريكية حاضرة على المستوى العالمي والتي من ابرزها فصل السلطات وتقليص الصلاحيات وتقديس الحريات وبخاصة حرية العمل والعبادة حتى تجاوزت الحدود الطبيعية المعقولة!ومن ذلك التطبيق الشامل الذي مر بمراحل عديدة خلال قرنين من الزمان تقريبا وبفضل حالة السلم والامان مع وفرة الموارد الطبيعية واستغلالها بالصورة المثالية،وصلت امريكا الى هذا المستوى العالي من التقدم الاقتصادي والتكنولوجي وزعامة الغرب الذي يسيطر على العالم منذ بضعة قرون!.
حدثت الثورة الفرنسية عام 1789 وقد مهد لها مفكروا فرنسا وخاصة روسو وفولتير ومونتسكيو وغيرهم بالاضافة الى المفكرين الاخرين في اوروبا، وهؤلاء هم القادة الحقيقيون للثورة الفرنسية بالرغم من وفاتهم قبل الثورة! ويعود ذلك الى انتشار تأثير الافكار التحررية في افراد الطبقات المتعلمة من الشعب والتي قادت الثورة بالتعاون مع بقية الطبقات الاخرى،مما يعني ان لعامل الفكر والعقيدة وتأثير قادتها دورا بارزا في تحريك الشعوب وتنويرها بغية جعلها قادرة على حكم نفسها وتحريرها من كل قيود الاستبداد والفساد.
كان لمبادئ الثورة الفرنسية الثلاثة(الحرية والاخاء والمساواة) تأثيرا مباشرا في الامم الاوروبية المجاورة بحيث انتقلت بذور تلك الافكار بسرعة بالرغم من النكسات التي حصلت في بدايات الثورة الفرنسية،لتجد في التربة الاوروبية خير مكان لزراعتها لوجود تشابه كبير بين نظمها الحاكمة مع توفر الظروف المحلية الملائمة التي تشجع على القيام بثورات متشابهة!.
كان الحكم الفرنسي يتكون من سلطة ملكية مطلقة ويعاونها في ذلك طبقات متنفذة مثل النبلاء والكنيسة والارستقراطية في الريف وكانت مستفادة من الامتيازات الغير محدودة وتعيش في بذخ فاحش مع فساد لاحدود له،بينما كانت الغالبية الساحقة من الشعب تعيش في ظروف قاهرة لم تجد سوى في الثورة مجالا لتحريرها من القيود المفروضة عليها،بعد ان عجزت عن الاصلاح السلمي بسبب الرفض المطلق من قبل السلطات الحاكمة!.ودائما نجد ان الفئات المحرومة الاكثر تصديا في الثورات لكونها القادرة على البذل والتضحية بسبب عدم امتلاكها ما يمكن ان تدافع عنه سوى المبادئ والقيم السامية المستباحة!.
وكعادة الثورات المنتصرة في التاريخ،كانت نهاية افراد الحكم الملكي المطلق واعوانهم دموية بشكل مثير للاشمئزاز،فقد مرت مرحلة ارهاب دموية سرعان ما شملت قادة الثورة والمشاركين فيها،ثم تطور ذلك الى ابادة الكثير من ابناء الطبقات الفقيرة حتى اصبحت مرحلة الارهاب تلك علامة فارقة في تاريخ الثورة الفرنسية التي لم تنتهي منها الا بتزعم طبقة البرجوازية الناشئة للحكم والذي انتهى الى سيطرة نابليون بونابرت الذي اجتاح بجيوشه دول اوروبا ومن قبل مصر في العالم العربي بغية نشر مبادئ الثورة الفرنسية وبناء امبراطورية تقودها فرنسا،وبالرغم من اتحاد النظم الملكية في اوروبا بقيادة بريطانيا ضد التوسع الفرنسي كونه خطرا كبيرا على استقرار تلك النظم،الا ان الانتصارات كانت في جانب نابليون حتى تورطه في حربا قاسية مع روسيا والتي ادت في النهاية الى سلسلة من الهزائم انتهت به اسيرا وبتحويل فرنسا مجددا الى ملكية دستورية لم تصمد طويلا حتى تأسست الجمهورية التي تدعي الانتساب للثورة والاخلاص لمبادئها من خلال تطبيقها على التراب الفرنسي ونشرها في بقية انحاء العالم.
اصبحت الثورة الفرنسية علامة بارزة في التاريخ المعاصر واصبحت نموذجا مثاليا في قدرة الشعوب على التحرر في سبيل الحرية والمساواة ومازال تأثيرها واضحا على العلوم والفنون والاداب بحيث اصبحت فرنسا قاعدة كبرى للعمل الثقافي وابداعاته بفضل مساحات الحرية التي يعيشها الشعب الفرنسي في داخل حدود بلاده التي اصبحت حلم وقبلة الاحرار في العالم.
كما ان الثورة بعد انتصارها ازالت وبقوة كل مرتكزات واسس الحكم السابق وازالته من الجذور واسست بعدها نظاما يختلف كليا عن النظام الملكي المطلق مما يجعل صفة التغيير الجذري هي من علامات الثورة البارزة،واصبح تقديس الفرد وحريته هو الهدف الاعلى لها والذي اصبح مادة يتربى عليها الفرد الفرنسي منذ الصغر وهي وان تكون قد خرجت عن السيطرة في بعض الاحيان الا انها خلاصة الرد الشعبي على تسلط الفئات والطبقات الحاكمة التي تقدس الملك وتمنح له كل الامتيازات بينما يكون الاخرون عبيد له!.
ولكن التطبيق الفرنسي لمبادئ الثورة لم يكن مثاليا دائما فقد اسست امبراطورية استعمارية ضخمة كانت الثانية في الحجم في العالم بعد بريطانيا! وتسببت في دمار بلاد اخرى وخاصة من الناحية الثقافية من خلال تدمير بنية الاجتماعية للشعوب المبتلاة بهم في محاولة لنشر الثقافة الفرنسية بصورة قسرية بقسوة منافية لكل ادعاءات الانتساب لمبادئ سامية يسعى اليها الجميع.
كان تدمير ثقافة الشعوب الاخرى وخاصة هويتها اللغوية هو اكثر ما تميز به الاستعمار الفرنسي بالمقارنة مع الاخرين! ناهيك عن استلاب القدرات والثروات الضخمة لشعوب العالم الثالث ودخول فرنسا في صراعات دموية مع قوى استعمارية عديدة من قبيل الحربين العالميتين الاولى والثانية وايضا حربها الشعواء ضد كل الشعوب الطامحة بالاستقلال والحرية مثل الجزائر وفييتنام وسوريا وغيرها! الا انها كانت امة مهزومة عسكريا في بعض الحروب المصيرية مما جعل صورتها تهتز كثيرا وصاحب ذلك ضعف في بنيتها الاقتصادية والعسكرية والتي تخلفت كثيرا عن دول اخرى سبقتها في سرعة بناء قوتها.
ان تلك الحالة المتناقضة في شخصية فرنسا النظرية والعملية هو دلالة واضحة على تحريف المبادئ السامية وترويض من يدعون لها لصالح المصلحة القومية التي هي هدف كل السياسات الفرنسية والتي غالبا ما تتناقض مع مصالح الشعوب الاخرى وعلى الاقل من خلال نظرة الحاكمين مما يجعل عملية الفصل بين فرنسا ومبادئ الثورة الفرنسية واهدافها هي حتمية لا مجال لنكرانها كما في حالة السياسات الامريكية بعد الحرب العالمية الثانية!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق