من خلال قراءة الخطورة الكاملة في التلقين التي تقوم بها المؤسسات المختلفة بدءا من الاسرة ثم المدرسة والمؤسسة الدينية وانتهاءا بالنظم الحاكمة!...لكن تبقى حالات شاذة كثيرة استطاعت ان تبرز لنا طاقات جبارة في الفكر والعمل ولكن مع الاسف الشديد لا تشكل الا نسبة ضئيلة من العدد الكلي...
ولكن يبرز سؤال جوهري هنا هو هل ان العملية التلقينية في تناقص مستمر بفعل حركة العولمة التي كسرت الحواجز والحدود بين الدول؟! او انها في طريق الزوال النهائي لتحل محلها نظم تعليمية متحررة ومتقدمة تساعد على تحرير العقول من كل ما يتعلق بها من شوائب تعيق حركتها المطلوبة لبناء الانسان؟!...
للجواب على هذين السؤالين:نقول في حالة السؤال الثاني ان حركة التلقين لن تزول نهائيا بل هي مستمرة ولكن بنسب متغيرة وحسب الظروف الموضوعية لها!...اما بالنسبة للسؤال الاول ففي الحقيقة ان العملية التلقينية ضعفت بالمقارنة مع الوضع الاول لها قبل حصول التقدم الحديث ودخول العالم في حقبة العولمة الجديدة،ولكن ينبغي التنبه هنا ان التقدم في هذا المجال يختلف من دولة الى اخرى! بل وايضا في داخل كل دولة تختلف مناطقها ايضا!بمعنى اخر ان بعض الدول مثل الدول الغربية او الاسيوية او امريكا اللاتينية فأن العملية التلقينية تضعف بأستمرار دون ان تزول بفعل العوامل الجديدة التي ذكرناها من قبل خاصة وان الانفتاح السياسي والاقتصادي مع نشوء نظم ديمقراطية فيها ساعد كثيرا على حصول متغيرات عديدة في التركيبة الثقافية وطرق بنائها تبعا لحالة التطور التي صاحبها ضعف تأثير النظام الحاكم على العملية التربوية والتي هي مركز الثقل في العملية التلقينية لكون ان المؤسسة الدينية ضعيفة التأثير بالمقارنة مع العالم الاسلامي كذلك فأن تأثير الاسرة هو الاخر قد ضعف وخاصة في العالم الغربي مما يعني ان العملية التعليمية في كافة مراحل التعليم مع تطور وتغير في البنية الثقافية للمجتمع ساعد كثيرا في ذلك الضعف ...وفي المقابل فأن نسبة الهبوط ضعيفة جدا في العالم الاسلامي وخاصة العالم العربي بالمقارنة مع البقية مما يعني ان حجم التلقين ونوعيته مازالا قويان بدرجة تبعث على الرعب واليأس! بالرغم من هبوطها خلال العقود الاخيرة مما يعني ان ذلك الهبوط ليس قويا بالدرجة التي يجعلنا قادرين على التمييز بين الحالتين:الماضي والحاضر حتى يمكن على ضوئهما بناء تقييم مستقبلي يمكن ان يساعد على التخلص من آثار التلقين التي تقيد حركة العقول!... ولكن مع هذا يمكن القول ان بعض البلاد قد ضعفت فيها اكثر من غيرها وخاصة التي اختارت الطريق الديمقراطي في الحكم مثل تركيا وماليزيا بينما الغالبية الساحقة من المجتمعات مازالت تراوح في مكانها بالرغم من تيارات العولمة الجارفة!.
في داخل كل بلد ايضا تختلف درجة تأثير التلقين! لعوامل عديدة ولكن تبقى العواصم هي بداية التغيير لكونها جامعة لكل الطوائف وكونها بوابة الاتصال مع العالم الخارجي مع وجود حركة متغيرات عديدة في بنية مجتمعاتها التي تستجيب للتغيير،ويمكن ملاحظة هامة وهي ان العواصم في الدول النامية ومنها العالم العربي مازالت تمثل مركز ثقل الدولة والمجتمع من خلال تركز السلطات فيها مع تركز الخدمات والعمل مما يعني انها جاذبة اكثر من بقية المناطق وخاصة الاطراف التي تكون اكثر المناطق بعدا عن قبول الجديد! بينما الحالة في العالم الغربي اقل حدة بكثير حيث يمكن رؤية اقصى المناطق النائية تتمتع بكافة الخدمات وتبقى مفتوحة على العالم الخارجي من خلال استغلال وسائل الاتصال الحديثة هذا يجعلها قريبة لحالة العاصمة التي تبقى حاوية لمراكز السلطة مثل الحكومة والبرلمان!.
حالة الضعف النسبي كما قلنا هي ضعيفة وبطيئة جدا في النمو! ولكن في المقابل خلق لنا تيارات متطرفة ترى ان ذلك خطرا عليها وعلى المجتمع برمته مما يجعلها اكثر صرامة في قبول الاخر والتعامل معه! والاخطر ان يتم التعامل بالوسائل العنيفة التي تبيح ابادة الاخر بأعتباره عدوا ثابتا! ولذلك فأننا نرى من خلال بعض الوسائل الاعلامية كالانترنت والقنوات الفضائية استمرار بروز حالات التطرف التي هي اساسا غير واعية تماما لدور العقل والمنطق في التعامل والتعايش مع الغير فضلا عن عمل مراجعات شاملة للبنية الفكرية والسلوك اليومي بغية الوصول الى اعلى النتائج الايجابية لتطوير المجتمع...هذا يعني ان ظهور تيارات التحرر من قيود التلقين يساعد في نفس الوقت على ظهور تيارات معادية ترى انه خروج على الدين والتقاليد والعادات بينما هو في الحقيقة ان ذلك قشور التغيير وليس جوهره لان عملية التغيير الاساسية في العقول وليس في المظاهر المخادعة والتي ترينا يوميا نخب بكامل لياقتها البراقة في الملبس والاكل والاستفادة من اخر منتجات الحضارة العالمية ولكنها في مناهج السلوك الفكري والعملي مازالت متخلفة الى ابعد الحدود ويمكن فحص هذا الخلل الفاضح من خلال استخدام ابسط القواعد النقدية في الحوار والحديث!...
رغم التقدم المستمر والانفتاح العالمي فمازالت نخب ثقافية تنتج لنا فكرا ظلاميا او متخلفا خاصة في استمرار تقبلها للماضي الاسود بطريقة تجعل اصحاب الفكر الحر يبتعدون عن المناقشة والحوار لانعدام التأثير فضلا عن فقدان الاحترام المتبادل!... ويمكن لنا مقارنة ذلك مثلا في حالة العالم العربي فأن المتوارث من تفضيل بعض الاشخاص مثلا سواء اكانوا قادة فكر او زعماء سياسيين بالرغم من ان صفحات حياتهم السوداء معروفة لعدد كبير ! والتي من السهولة قرائتها وفق المنهج النقدي كافية للنفور منهم بينما مازال الاخرون يتمسكون بهم وكأنهم آلهة يعبدونها بدون وعي او تمييز واذا واجهوا تلك الحقائق بقوة المنطق وحجته فأنهم يبادرون بالقول انه احترام وتقدير او اصحاب اعمال جليلة وهذا مثالا بسيطا لحالة التلقين المتوارث التي يخضع لها كل جيل!.
اذا فالواقع في العالم العربي مازال مخيب للامال بشدة! لان العملية التلقينية بطرقها البدائية مازالت عاملة بقوة دون ان تؤثر بها حركة العولمة وأثارها الجانبية!لان لها مؤيدوها وتساندها قوى مسيطرة في الدولة والمجتمع.
التلقين هو اقوى سلاح بيد خصوم التوجه النقدي الحر لانه يكون مانعا في سيادة العملية النقدية التي هي تستخدم كافة الوسائل النقدية في عرضها لا صعب المسائل واشدها خطورة بينما يكون التلقين حافظا لكل الموروثات بغض النظر عن ماهيتها! ولذلك فأن الحل الامثل يقوم بوضع المناهج النقدية على تفاصيل العملية التلقينية بغية تنقيتها من كافة الشوائب التي علقت بها خلال حقب التاريخ الطويل،وسوف تكون النتائج مثيرة للغاية مما يجعلنا نخطو خطوات كبيرة للامام من خلال ترك العقل يمارس دوره الطبيعي لخدمة الانسان دون ان يكون ذلك خطرا على ايمانه بل يزيده ايمانا من خلال اليقين التام،ولكن خطورته الفعلية هي على الخرافات والاباطيل المتوارثة التي لا تجد من يتصدى لها بقوة وفعالية!...
اصل الافكار:
يتبادر الى الذهن احيانا هل ان مصدر الافكار واحد؟!ام هو متعدد؟!..
الاختلاف في الافكار هو نعمة بحد ذاته،بل ان الافكار المتنوعة دليل على قوة العقل الانساني وجدارته في كونه خير معين للانسان في حياته القصيرة الفانية.
ولكن وجود ذلك الكم الهائل من الافكار في الوقت الراهن بل حتى منذ حقب زمنية بعيدة هو دليل على ان مصدرها متعدد وليست واحدة وتعددها نشأ من خلال البيئة كما قد تبادر اذهاننا الى ذلك!...نعم ان الافكار التي تنشأ من خلال المعرفة التجريبية الواحدة هي تكون اصل واحد للفكرة مثل فائدة وخطورة النار ولكن الاختلاف يظهر لنا بعد ذلك في طرق الاستخدام والاعتقاد بها مما يؤدي الى نشوء افكار لا حدود لها ناتجة عن الاختلاف بين البشر الذي توسع بشكل كبير لانه كلما يمر زمن اطول على الانسان فأن عملية التراكم المعرفي والتي تساعد على توليد عدد كبير من الافكار الجديدة هي مستمرة ...مصدر المعرفة عن النار قد يكون مختلف من شخص لاخر في بداية حياة الانسان على وجه الارض ولكن نتيجة تلك المعرفة هي النار بحد ذاتها ثم تأتي الينا طرق الاستفادة منها،هذا مثال بسيط ويمكن تطبيقه على حالات عديدة ولكن مصدر بعض المعلومات البسيطة التي يحصل عليها الانسان منذ بداية ولادته قد يكون موحدا من قبيل ان المصدر هو الاب والام كمعرفتهما ولكن تتبع عملية التجميع،عمليات اخرى وهي الفحص والتحليل ثم النتائج الناتجة منها.
الافكار الجديدة المتولدة هي ناتجة من اختلاف عمليات التحليل للمعلومات البسيطة والتي تنشأ من اختلاف البيئة والظروف ثم حالة الانسان نفسها والتي تختلف من شخص لاخر وخاصة في مستواه العقلي الذي يكون فعالا في توليد الافكار الجديدة ،ولذلك نرى اختلاف الاراء والامكانيات حتى داخل الاسرة الواحدة بالرغم من ان الوالدين هما مصدرا المعرفة لابنائهما.
الفكرة تنشأ ككائن بشري ثم تنمو وتتوسع بفعل الرعاية المستمرة لها ولكن بمرور الزمن سوف تنشطر الى افكار عديدة لا تلتقي بالرغم من اصلها الثابت!ولذلك نرى ان العديد من النظريات تنقسم الى اتجاهات متعددة بفعل عوامل الفهم والادراك لها.
والفكرة ايضا تكبر وتصبح اذا لم تطور بالدرجة الكافية في مرحلة الشيخوخة التي سوف تكون مرحلة سابقة لموتها ولكن لا تندثر لانها محفوظة سواء بفعل توارثها للاجيال اللاحقة من خلال التدوين لها،ومع ذلك فأن بعثها مرة اخرى سوف يكون صعبا جدا بسبب ان الزمن وهو التربة المناسبة للفكرة سوف يكون مختلفا بسبب حالة التطور المستمرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق