تحرير العقول -القسم الخامس
التدهور في التعليم بدأ من خلال سيطرة الدول عليه وتوجيهها له من خلال القوة والمال،والعالم الاسلامي لم يكن مستثنى من ذلك بل كانت السيطرة والتحكم اعلى من غيره بسبب سيادة النزعة الاستبدادية ومحدودية الحريات! ولذلك فأنه كلما كانت اليد مرفوعة عن التعليم ومؤسساته سواء اكانت حكومية او رأسمالية او فئوية كلما كان له جودة عالية من خلال النوعية الفائقة للخريجين وابداعاتهم الفكرية والتقنية،والعكس صحيح ايضا! ولذلك فأن هذه الحقيقة الناصعة جعلت العديد من الدول تمول الجامعات دون ان تتدخل في خصوصياتها وحريتها ...
منذ سقوط بغداد بيد المغول عام 1258 والتخلف الحضاري للعالم الاسلامي مستمر وان كانت قبله قد ظهرت بوادر التخلف وشيوعه من خلال سيادة الافكار التقليدية والصراعات الدموية والتي ازدادت مع بدء الحروب الصليبية...ولم ينفع العالم الاسلامي قيام الدولة العثمانية التي كانت احد ابرز رموز التخلف في العالم من خلال التركيز على التمدد الجغرافي وامتلاك القوة واخضاع الشعوب دون العمل على تنميتها مما افقد الحضارة الاسلامية الزخم الكبير والازدهار الذي كانت عليه في السابق،وكان التعليم قد لحق به دمارا كبيرا كمثال بارز للتخلف في كافة الميادين بحيث بقيت المناهج والطرق القديمة سائدة فيه حتى افاق العالم الاسلامي مؤقتا من غفلته الدائمية! على الغزو الغربي والذي كان اشده مرارة من حيث الصدمة هو غزو نابليون بونابرت لمصر عام 1798م والذي بين للجميع مدى الفارق الكبير بين تطور الغزاة وبين تأخر شعوب العالم الاسلامي،مما جعل مهمة الغزاة سهلة للغاية!...
رافق تدهور التعليم وبنوعيه الديني والمدني،تدهور الاحوال الاقتصادية والسياسية والتي كان تأثيرهما سلبيا على الحركة الفكرية والتعليمية والتي تحتاج ايضا الى الحرية والاستقلالية والدعم المالي الكبير بغية تخريج كوادر قادرة على بناء المجتمعات،وخلال تلك الفترة بالذات بدأت اوروبا بالنهوض ووصلت في تقدمها الحضاري الى ابعد مدى،وكان من الممكن لدول العالم الاسلامي الاستفادة من ذلك التقدم كما استفادت اليابان والتي كانت بلدا منغلقا على نفسه ويعيش شعبه في انعزالية تامة عن العالم الخارجي لغاية منتصف القرن التاسع عشر...ولكن الانشغال بالصراعات الداخلية والخارجية مع شيوع التشدد الديني الذي كان مصدره غالبا الصراعات الدينية والمذهبية وانتشار الحركات السلفية مثل الحركة الوهابية في نجد،من اسباب التأخر الفظيع في التعليم والذي اصبح تلقينيا في العلوم الدينية ومحرما في غيرها! من خلال تحريمها بواسطة فتاوى من قبل بعض رجال الدين بحجج واهية اهمها ان مصدرها اوروبا وبالتالي فأنها تتنافى مع الاسلام وتعاليمه دون ان يكون هنالك ادنى اعتبار لدعوات الاسلام في ضرورة التعلم ونبذ التقليد والتحجر!.
وساعد خضوع غالبية البلاد الاسلامية الى الاستعمار الاوروبي،على شيوع ذلك المنهج الغريب المتمثل بمحاربة التمدن والتحديث والتي ترى ان تقدم شعوب المستعمرات معناه هو فقد لزمام القوة والسيطرة والقيادة والتحكم بها!.
وبالرغم من ان البعثات الى اوروبا للتعلم والاستفادة من الخبرات بدأت في بداية القرن التاسع عشر،الا ان غالبية البعثات لم تؤدي الغرض المفروض منها كما حصل مع البعثات اليابانية بسبب ان الاستبداد وآثاره الجانبية بقي ضاربا في جذور المجتمع مع ضعف تقبل الشعوب للاساليب الحديثة وطرقها التي تتعارض مع السائد في المجتمعات واساليبه التنظيمية والعملية القديمة! وكذلك ضعف الرغبة بالتحديث والمقاومة لدى اصحاب البعثات الذين اندمجوا في اجهزة الدولة واصبحوا من ادواتها بدلا من ان يكونوا ادوات التحريض والتحديث! لان الرغبات في التوظيف مع انعدام الرغبات العامة في تقبل الحديث هو من اسباب تقهقر هؤلاء ورغباتهم في بناء مجتمعاتهم وفق ما تعلموه وشاهدوه في الدول المتقدمة...بل ظهرت نزعة ليست لها علاقة بالتمدن والتحضر تمثلت بالدعوات الى الالحاد والحرية المنفلتة على غرار الدول الاوروبية اوالتحرر من العادات والتقاليد الاجتماعية بطريقة انفعالية غير مدروسة خاصة التي تمنع مشاركة المرأة في الحياة العامة،مما جعل الشبهات تدور حول تلك الدعوات التغريبية بينما كانت مساهمة خريجي البعثات اليابانية تختلف كليا من حيث تركت العادات والتقاليد على حالها مع التركيز على البناء الاقتصادي والقانوني والقوة العسكرية مما يعني ان التحرر من بعض التقاليد الاجتماعية التي تتعارض مع البناء الحضاري تضعف بدون الدعوة للالغائها بطريقة همجية لا تراعي حقوق الاخرين وعقائدهم وتقاليدهم...
هذا يعني ان البعثات الدراسية لم تؤدي الى وقتنا الحاضر الغرض المنشود منها بالرغم من التكاليف الباهضة التي تتكبدها الدول! خاصة في ظل ارسال نسبة عالية من غير المستعدين فكريا وذهنيا لا ستيعاب كل منجزات الحضارة كأن يكونوا ابناء الطبقات الحاكمة والموالية لها مما يعني ان قدرات بعضهم دون المستوى بالرغم من طول المدة الزمنية! ولذلك نرى نسبة عالية تتصرف بطريقة ابعد ماتكون من اخلاقيات العلم والتحضر واصبحوا مجالا للسخرية من خلال تصرفاتهم الدالة على ترفعهم عن مجتمعاتهم بدلا من الرغبة في ان يكونوا جسورا لها لتسلق سلم التطور او ايضا ادوات سلطوية تتمثل بتابعية غريبة، بل بعضهم كما نرى وقعوا فريسة الحركات التكفيرية التي نشطت في الغرب!...
النمو الهائل في عدد الجامعات واعداد الخريجين في العالم الاسلامي كان من ناحية الكم وليس الكيف،لان التركيز كان على استيعاب اكبر عدد ممكن من الطلاب ضمن المدارس والجامعات دون ادنى اعتبار لنوعية التعليم او نوعية الطلبة والاساتذة، مما ادى الى وجود جيوش من الخريجين من اصحاب الطاقات المعطلة ضمن نطاق البطالة المقنعة او الظاهرة،او ضعف استيعابهم لابسط مفردات العلم والمعرفة بحيث اصبح من النادر ان نجد من يتابع المعارف بمختلف انواعها في ظل لهاث مستمر وراء المادة او الشهوات مما جعلنا نفقد روح الاستمتاع بهما معا!.
سيادة المنطق التلقيني وطرقه البدائية على التعليم ،أثر كثيرا على مستوى عقول الناشئة وجعل مقاومتها لتلك الاساليب البالية ضعيفة لانه ليس هنالك من سند لهم يجعلهم قادرين على ان يبدعوا في مختلف فروع المعرفة! وهذا كان له تاثيرا سلبيا في كونهم اصبحوا دعاة للانغلاق بدلا من التحرر الايجابي! لانه هنالك فرق كبير بين التحررين الايجابي والسلبي المتمثل بالمظاهر المخادعة والقشور دون النفوذ الى مداخل التحضر الحقيقي!...
لقد كانت طرق القسوة والعنف المنتشرة في المدارس مع ضعف الاهتمام بالعلوم الطبيعية والتركيز على العلوم الانسانية وايضا عدم الاهتمام بالمناهج التعليمية الحديثة التي تستند على قواعد واسس جديدة والتي تساعد النشء على بداية تعليمية راقية تنمو قدراتهم العقلية والذهنية وتجعلهم يسألون دون خوف او تردد مما يجعل عقولهم تبدأ بالابداع والاستقلالية وينمي قدراتهم من حيث بدأوا بالسؤال وقبل ذلك التحرر من الخوف والرعب الذي يضعف شخصياتهم ويجعلها غير مقاومة وتابعة وهزيلة لا قدرة لها على الصمود امام ابسط التحديات ولذلك نرى جيل الشباب في العالم العربي وخلال القرون الماضية ولغاية الان،غير قادرون على التحرر من كافة القيود السلطوية وادواتها الارهابية،بينما نجد شعوب اخرى استطاعت ان تحرر نفسها من خلال التضحيات الكبيرة في فترة زمنية قصيرة التي هي افضل بالتأكيد من التضحيات المستمرة والبطيئة والتي لاحدود لنهايتها!!...
ادى ذلك الى ضعف المبادرات حتى على مستوى الطبقات المثقفة او الاكاديمية بحيث من الشائع ان نرى هؤلاء يلتزمون بالروتين الاداري القاتل الذي هو تحطيم وتدمير لكل قدرة او امكانية على النهوض،بل اصبحوا يضيفون على الاوامر الادارية،اوامر اخرى ذاتية تكبل حركة الاخرين وتستعبدهم! وتجعلهم خاضعين لاحول لهم ولا قوة في ظل تجاهل علني وصريح من الدولة واجهزتها القمعية التي هي في انذار تام تجاه اي حركة مقاومة بينما تتجاهل بطريقة غريبة ومشينة لكل مظاهر الفساد في اجهزتها!...
من خلال تلك الاساليب البالية،خلقنا جيوشا من التابعين وتتأصل القيم والمعارف التلقينية في رؤوسهم وهم على استعداد تام للدفاع عنها حتى ولو كلف ذلك الحياة وكأنها طرق تعليمية مقدسة تساعد على بناء الشخصية العلمية المستقلة!....بينما في المقابل حوربت بشدة كل الدعوات التجديدية في التعليم وطرقه ومناهجه، واهملت كل البحوث والدراسات وتوصيات المؤتمرات في ضرورة التجديد والتي من اهمها الدعوة الى تحجيم التلقين الذي هو معيق للتفكير العقلي والمنطقي بل والابداع والاستقلالية!...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق