الفيلسوف المنسي!:
عرف عن المصريين شدة تعلقهم بمبدعيهم في شتى العلوم والفنون والاداب وضعف معرفتهم الى حد ما بمبدعي الشعوب المجاورة وبالغوا في تكريمهم الى درجة تفوق في احيانا كثيرة المستوى الطبيعي للتكريم والمستوى الواقعي للمبدع!...ولكن لوحظ في ان هذا التكريم هو في اغلبه معنوي وليس مادي مما يعني ان المبدعين يعيشون في ظروف معيشية لا تناسب شهرتهم وهذا يعود الى المستوى الاقتصادي الضعيف لمصر بالمقارنة مع الوضع الاقتصادي للغرب الذي يقدر المبدعين من شتى الجنسيات ماديا ومعنويا في نفس الوقت ولكنه في الغالب لا يبالغ في التكريم!...
ذلك التكريم والتعلق بالمبدعين في مختلف الفروع في مصر يتفوق بلا شك على تكريم البلاد المجاورة والتي تحارب مبدعيها لمختلف الاسباب وخاصة السياسية والفكرية،مما يعني ان المجال المتاح من الحريات متفوق في مصر على البلاد العربية المجاورة،مما يعني تواجد مختلف التيارات الفكرية والادبية في البلاد بغض النظر عن نوعية الحكم وان كان التأثر بقسوته تظهر بين الحين والاخر الا انها اقل شدة بلا شك من البلاد المجاورة ماعدا لبنان بالطبع...
في الحقيقة ان التكريم المبالغ فيه بالرغم من سلبياته الا انه افضل بكثير من سحق المبدعين وتحطيمهم الى درجة تبعث على الشفقة عليهم من الهمجية المستمدة قوتها ليست فقط من الانظمة الحاكمة بل ايضا من مجتمعاتهم بالرغم من ان الوضع المادي الجيد في بعضها بالمقارنة مع الوضع في مصر،ولذلك فأن الحالة المصرية هي افضل حتى وان حصلت مبالغة في التكريم لمختلف الوجوه البارزة في المجتمع بل هي سوف تكون دافع ذاتي للصغار في ان يسلكوا طريق الشهرة والمجد في بلدهم من خلال بذل الجهد في الفكر والعمل...ولكن تلك الحالة ليست شمولية بمعنى ان لهذه الحالة ايضا شواذ كثيرة واحيانا تكون قاسية في اهمال الكثير من المبدعين ومحاصرتهم في صومعاتهم لحين وفاتهم!...وقد يعود ذلك الى اسباب عديدة اهمها الغضب السلطوي من المبدع نتيجة لارائه وطموحاته وكذلك الى وضعية المجتمع من خلال المنافسة بين البارزين في نفس الاتجاهات العلمية والادبية والتي لاتخلو من منافسة غير اخلاقية تتخللها حالات الكره والحقد والحسد مع شيوع حالات المحسوبية والعلاقات الشخصية التي تفسد امر البارزين المنسيين وخاصة اصحاب العقول الجبارة والتي يطمس حقها بلا شك!...هذا بالاضافة الى وضعية المجتمع والامراض الاجتماعية المستشرية التي تنخره،ومصر لا يخلو مجتمعها من تلك الوضعية البائسة السائدة في العالم العربي...
نموذج منسي:
هنالك بالتأكيد الكثير من البارزين في شتى العلوم والاداب في مصر والذين لم يأخذوا حقهم الطبيعي في التكريم الطبيعي برغم مستوياتهم الابداعية العالية ومن ابرزهم الفيلسوف المنسي:عبد الرحمن بدوي(1917-2002) والذي وصفه طه حسين بأنه اول فيلسوف مصري وهي كلمة حق تقال في حق هذا العبقري الذي عاش اغلبية حياته في خارج بلده نظرا للمعاناة التي وجدها في مجتمعه من السلطة الحاكمة وآيديولوجيتها التي تتعارض مع طبيعة الفكر الذي يعتقد به خاصة وانه يؤمن بالحرية والعقل الى ابعد مدى ممكن ولذلك فأن نهاية هذا الاعتقاد تتعارض مع اهداف واساليب السلطة السياسية،وكذلك عانى بشدة من رموز الطبقة المثقفة في مصر وخاصة التي تحتك به في الجامعات حيث ميدان عمله الرئيسي،وهذه المعاناة قد أثرت في نفسيته الى درجة اثارها في سيرة حياته المطبوعة في جزئين والمتوفرة على شبكة الانترنت والتي اثارت ضجة كبيرة كبقية كتبه التي ناهزت على 150 كتاب بين التأليف والترجمة!وهو بحق عمل جبار لا يقدر عليه احد بسهولة حتى ولو توفرت امكانات الذكاء العالية الممزوجة بالصبر خاصة وانه كان يعمل في ميدان التعليم الاكاديمي واكيد يأخذ من وقته الكثير،هذا بالاضافة الى نوعية تلك الكتب العالية القيمة والتي تتناول مختلف القضايا الفكرية وخاصة في ميدانه الرئيسي وهي الفلسفة بالطبع...
لقد عبر الفيلسوف البدوي عن تلك المعاناة في مذكراته بألم شديد واستخدم اقصى العبارات القاسية بحق كل من رأه انه يكرهه او يحسده او حتى ان يكون بغير الصورة المعروفة عنه كأحد البارزين في الثقافة واخلاقياتها وخاصة في الزمالة!وكما هو معروف فأن للفيلسوف البدوي القدرة العلمية الهائلة والتي تجعله قادرا بسهولة على التمييز بين المستويات العلمية والمعرفية بالاضافة الى المستوى الاخلاقي الرفيع،هذا بالاضافة الى ميزته المثالية في كونه جرئيا في ابداء ارائه العلمية والشخصية والتي تغضب الكثيرين خاصة الذين يسايرون المجتمع وظروفه دون ادنى اعتبار للحقائق العلمية الموضوعية التي قد تتعارض مع الموروثات البيئية!...
ورغم ان ارائه تعبر عن ذاته تجاه الاخرين الا ان لها اهميتها كونها صادرة من مرجع علمي يقدر الاخرين وخاصة في مستوياتهم العلمية وقد لاحظت ذلك في تقييمه للكثير من اساتذته وعرفانه بالجميل لهم او تقييمه للكثيرين من المفكرين في الغرب والشرق مما يعني ان شبه الكره الغير مبرر والتي اطلقها خصومه عليه هي ضعيفة لانهم اعتادوا على منهج المدح والثناء بدون التعرض للمستوى المعرفي والاخلاقي والتي تكون مستورة الى حد بعيد حتى نرى البعض امثال البدوي يرفعون الحجاب عنها ويظهرون الصورة الاكثر واقعية برغم شدة المفاجأة!...
ورغم وفاته في مصر الا انه لم يتم تكريمه لحد الان بما يناسب عبقريته النادرة والتي تفوق بكثير عبقريات المبالغ في تكريمهم!...وقد تكون افكاره قد سبقت عصره مما يجعل الظروف غير مناسبة في منحه الاشادة الكاملة من قبل مجتمع لم يستوعب لحد الان الكثير من علمه وفضله!...
ومن الطريف ذكره انه اصبح البدوي مجالا للدراسة الاكاديمية وخاصة في الرسائل الجامعية العليا من خلال دراسة افكاره ومنهجه وسلوكه وسيرة حياته،الا ان بعضها(مثل رسالة عبد القادر الغامدي) قد حصر مجال البدوي الواسع في قالب ضيق حسب منهج وعقيدة صاحب الرسالة من قبيل عدم اشادته اومعرفته بالفرقة الناجية! او عدم سلوكه طريق اهل السنة والجماعة وفق المنهج السلفي الذي يرفض الفلسفة والمنطق وعلم الكلام او لايعيرها الاهمية وهي من الامور التي ابدع فيها البدوي الى ابعد حد بالرغم من الاشادة بدوره الكبير خلال الفترة التي سبقت وفاته من خلال اصداره لعدد من الكتب التي تدافع عن الدين الاسلامي والقرآن الكريم والنبي الاعظم(ص) وخاصة شبهات المستشرقين...
وهذه الدراسات هي تضعف من شأنه ومن شأن حرية العقيدة والفكر وتحصرها في قالب متوارث ضيق،فكان من الاجدر عدم التطرق الى تلك المواضيع والشخصيات لكونها تتعارض مع الموروثات الفكرية والمذهبية والتي تقيم رفضها وفق اصولها الخاصة بها...
تقييم المنسيين من العباقرة يجب ان لا ينتهي برحيلهم بل هو اعادة الاعتبار لهم وعرفانا بفضلهم،والا قتلنا الابداع في مهده!...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق