قرأت لك
مختصر وتحليل وتعليق ونقد للكتاب
في سبيل موسوعة معرفية مختصرة
(8)
مقدمة لابد منها!....
لادب السجون وخاصة السيرة الذاتية لكتابها طعما خاصا يختلف عن الكتب الادبية الاخرى،فهي تحمل مختلف المشاعر والاحاسيس الصادقة التي عانت وتعاني في سبيل البقاء في عالم لايرحم احدا وفي حياة لن تستمر طويلا!بعد معاناة رهيبة سابقة في جهل كامل من المجتمع واجهزته الرادعة لتلك الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان ولذلك ينبغى مراعاة الكتاب المقروء الحامل لتلك الصفات فهو يختلف عن الكتب الاخرى بصدق المشاعر وبتعبها الحقيقي، وبدون تفهم تلك المعاناة والعيش بعواطف انسانية مشتركة مع معاناة كاتبها،يصبح من الصعب جدا فهم مدلولات تلك المعاناة وآثارها على الانسانية جمعاء.
تأبى العدالة الالهية الا وان تنتقم من الطغاة واعوانهم بطريقة او بأخرى وفق قانون العدالة للجميع وبدون استثناء،ورغم اننا نستعجل تلك العدالة الارضية(في حياتنا) والتي هي مكملة للعدالة السماوية(بعد مماتنا) وهي صفة ناتجة من طبيعتنا المحبة للخير والسلام،الا ان تلك العدالة تأخذ صورا عديدة في احكامها،ومن اهم تلك الاحكام التي رغم انها تكون مؤجلة بعض الشيء ولحكمة آلهية فيها قد لانفهم مغزاها الا بعد فترة طويلة او كناموس طبيعي للحياة هي فضائح الظالمين وخاصة في اثناء حياتهم وهي تأخذ درجات مختلفة وبصور متعددة وقد يكون من بينها فضائح الفساد المتنوعة والتي تنتشر في وسائل الاعلام وخاصة لاسر واتباع الطغاة،ولكن من ابرز تلك الصور خروج المعذبين من سجونهم ومعتقلاتهم الى الحياة الطبيعية مرة اخرى وتصويرهم لحياتهم السابقة بمختلف تفاصيلها لمن لم يعشها ويرغب سماع الحديث عنها فهذا هو انتقام آلهي من خلال نشر لغسيل الحاكمين القذر امام الرأي العام والذي قد يكون في حالة من الاستمرارية في انعدام الوعي في تقديسه الزائف لهؤلاء البشر الذين لايختلفون عن الاخرين بشيء سوى ان الحظ حالفهم بطريقة او بأخرى في ان يستولوا على مقدرات بلادهم ويتحكمون بها بطريقة مشينة خاضعة لغرائزهم الحيوانية التي لايقف امامها حائل مهما كانت النتائج الظاهرة منها ومهما كانت العبر في من سبقهم في نفس الطريق...والبشر في الغالب لايتعلمون من اخطاء اسلافهم! (قد تكون منبه لنا من حالة اللاوعي! وهي دليل على نقصنا الكامل)...
الخارجون من السجون والمعتقلات وخاصة الابرياء منهم هم في الحقيقة مواليد جدد في عالم مابعد الحياة التعيسة التي خضعوا لها بصورة خارجة عن ارادتهم من خلال قدرة خصومهم،وحياتهم الجديدة تختلف بالتأكيد عن حياة من يولد في الحياة لاول مرة كونه يعيش بذاكرة متعبة تحتوي على خزين هائل من الالم والحزن والذخيرة المعلوماتية التي يأبى احيانا العقل الطبيعي المقابل تصديقها او هضم مفرداتها حتى ولم يدرك معالم وحشية الافراد القائمين بها! بمعنى اخر هو الانتقال من حالة العذاب الى حالة مابعد العذاب والتي تستحيل حالة القطع بينهما فالترابط يبقى قائما بينهما الى النهاية بينما المولود الجديد هو خال من اي ذاكرة طبيعية ويكون في حالة من الاستعداد لبدء حياة قد تكون سعيدة وهي نادرا او أليمة وهي غالبا!ويكون متلقيا من المحيط بينما المعذبون هم يعلمون البشرية حجمها الطبيعي وحقيقتها البشعة الغافلة عنها بصمت رهيب ولامبالاة قاتلة.
هؤلاء المولودين الجدد لحياة جديدة لن تكون سهلة عليهم بالطبع وسوف تستمر معاناتهم مع مجتمع لم يقف معهم وهو في الغالب في حالة من انعدام الوعي الكامل وخاصة اذا كان خاضعا لاعلام موجه يتناغم مع موروث ثقافي تقليدي والتي في بعضها مصبوغ بلون ديني مزيف،وهنا تبرز المتاعب ليس فقط لهؤلاء الضحايا بل للحقيقة والتاريخ الصحيح الذي يبتغيه كل انسان حر غير مقيد بتقاليد تقديسية زائفة لاشخاص يحكمون بأسمه بطريقة تكون احيانا مضحكة في كيفية تقبل العقل والمنطق السليم لهكذا ترهات من اشخاص معتوهين ولكنهم انيقي المظهر وينتسبون احيانا لاسر تدعي الشرف الوراثي المتسلسل الذي لاقيمة له امام تطبيق المبادئ الانسانية في الحرية والاخوة والمساواة...
تلك هي مقدمة اسوقها الى هذا الكتاب القيم والعبرة بما جاء فيه حتى لو لم نتفق مع صاحبه ولكن تبقى المعاناة الانسانية هي الجامع الحقيقي بين تعاطف بني البشر والحلقة الاقوى في الربط بينهم! فالمعاناة والشقاء تجمع والرخاء والبذخ يفرق!...
الكتاب الثامن:
الكتاب: حدائق الملك
اوفقير والحسن الثاني ونحن
المؤلف:فاطمة اوفقير
الطبعة 2007 في الدار البيضاء وفي بيروت لنفس الناشر،ويتألف من 271 صفحة.ومترجم من الفرنسية،من القطع المتوسط ومن الورق الخشن.
هذا الكتاب هو سيرة ذاتية بشعة حصلت لفاطمة واولادها الستة مع اثنين من اقربائهما المخلصين الذين ابوا الا ان يعيشوا المآساة معهم في السجون والمعتقلات الرهيبة للجلاد المغربي الحسن الثاني الذي يلقبه البعض عندهم بأمير المؤمنين! وهي صفة لاتليق الا بالصالحين المخلصين للحق والعدل .
قبل الاعتقال:
تحدثت السيدة فاطمة اوفقير(1936-) وبأسلوب ادبي جميل وفي غاية الدقة في الوصف لحياة صعبة عاشتها في المغرب وهي من اسرة ذات اصول بربرية،وكان تحدثها عن المآسي في فقدان والدتها بعمر صغير(18عاما) ثم اخيها الصغير،في الحقيقة حديثها مؤثرا للغاية وهي مشاعر انسانية يشترك الجميع في الاحساس بها والاستشعار بمعاناة الاخرين منها اذا لم تصيبهم نفس المآسي.
الوصف الدقيق لحياة الاقوام في المغرب هو مهم لبيان طبيعة مكونات ذلك الشعب ولمعرفة خصائصه الاجتماعية التي تختلف احيانا عن شعوب اخرى قد تكون مجاورة له،وقد تحدثت في اماكن كثيرة عن ذلك الاختلاف والمشاكل التي تحدث للمغرب بسببها ولكن يبقى ذلك من خلال وجهة نظرها ومن خلال خلاصة تجربتها الاليمة في الاحتكاك بطبقات كثيرة من مكونات ذلك المجتمع المتعدد الاعراق والاصول ولكن يشترك في بوتقة الاسلام والمذهب الواحد والتي هي من خلال رؤيتها للحالة المغربية تستنتج انها لم تكن كافية لجمعهم بل احتاجوا الى استبداد! يجمعهم من خلال اسرة حاكمة تعود اصولها العرقية للعلويين في شبه الجزيرة العربية وفي اخلاقها وتصرفاتها وطبيعة حياتها الى اصول مختلفة تماما عن معاناة العلويين واخلاقهم ومبادئهم المستمدة من الاسلام الثوري النزيه من كل مؤثرات الحكم القبيحة! وتلك علامة هامة يستوجب الاهتمام بها حتى لا تؤثر في احكامنا على قدسيات زائفة لاقيمة لها في عالم اليوم الذي يحاول بشتى الطرق التخلص من تقاليد واحكام ونظم سببت الكثير من المآسي للشعوب وبمختلف طبقاتها!.
وهذا التغير في طبائع تلك الاسرة الوارثة للحكم جاء من الاندماج الكامل في مجتمع يقرب للبداوة منه للاسلام بمعناه الحضاري،وقد ذكرت المؤلفة(ص7)عما حدثه جدها المشترك في الغزوات الداخلية وخاصة الاعمال الوحشية التي تنم عن انعدام كامل بالمثل الاسلامية والانسانية من قبيل ذكرها قطع اصابع النساء بغية اخذ الحلي منهن!وهي من صفات الجاهلية التي قضى الاسلام على فترة واحدة منها سرعان ما تفرخت فترات اخرى مازالنا نعيش في بعضا منها الان ولكن بثوب اسلامي جميل للمظهر فحسب!.
من خلال وصفها لسيرتها ودخولها لدير الراهبات وهي المسلمة(ص21) يتبين لنا تحررها من القيود الدينية منذ الصغر وبالتالي تأثيره لاحقا عليها وعلى بقية افراد اسرتها خاصة في فترة قبل دخول السجن او بعد خروجهم منه،وفي الغالب اذا لم يكن الانسان متدينا بالمعنى الغير تقليدي للكلمة في ان يكون متطبعا بروح الدين التي تسمو بالانسان،فأنه يخضع لمبادئ علمانية تجعل المثل الانسانية في اولوية اهتماماتها،فأذا فقدت الاتجاهين فأن المأساة سوف تحل بهم او بمن حولهم اذا تسلموا مناصب عليا غير خاضعة للضوابط ،وهذا ما يمكن رؤيته في الكثير ممن اوغلوا في دماء بني جنسهم البشري لعدم وجود الرادع الذاتي الذي يقيهم من هفواتهم القاتلة سواء الديني او ضميرهم الانساني .
كان والد فاطمة وزوجها ايضا جنودا وضباطا في الجيش الفرنسي وقد قاتلوا ببسالة معه في المعارك وخاصة التي تكون لمصلحة فرنسا العليا! وهي صفة نادرة الحدوث في الشرق الاوسط ،التي خضعت بعض اجزائها الى الاحتلالين البريطاني والفرنسي،بل بقيت صفة موصوفة بالخيانة العظمى للوطن المحتل،ولكن الظاهر ان تلك التسميات كانت غير مشدد عليها في بلدان المغرب العربي وافريقيا رغم ان الكثير من بقايا تلك الجيوش تسببت في جرائم ومشاكل لاحدود لها لبلدانها بعد الاستقلال! ويمكن الاشارة الى بلاد مثل الجزائر والمغرب وتونس وغرب افريقيا،كما ان البلدان المستعمرة بقيت تساند هؤلاء المرتزقة سواء في بلدانهم او في داخل بلادها التي اقام فيها عدد كبير وبعضهم هارب من العدالة في بلده!.
هؤلاء المرتزقة كانوا قساة الى درجة كبيرة في التعامل مع شعوبهم وهي ناتجة من طبيعة عملهم في قمع شعوبهم لمصلحة المحتل او الحرب مع بلدان منافسة اخرى تحارب مستعبديهم! ويكن رؤية ذلك من خلال الانقلابات العسكرية في القارة الافريقية والتي قادها ضباط وجنود مرتزقة حولوا حياة شعوبهم لجحيم لا منتهي وهي خاصة ينبغي الوقوف عندها كثيرا،فعدم تطبيق العدالة على من يخرقها هو بالتالي تشجيع لهم على العودة الى طبيعة عملهم الاولى،وبالتالي ضرورة العمل على ازالة وجودهم من كل مؤسسات الدولة والمجتمع ودمجهم في الحياة العامة بدون الاستعانة بهم في بناء الدولة لان انقلابهم عليها او على مبادئها اذا كانت سليمة سوف تكون نهاية المطاف!،وعموما لايعمل تلك الاعمال الوحشية الا من باع نفسه للشيطان في سبيل حياة رغيدة او للانتقام من مجتمع رافض له!.
في الفصل الثاني(بعد ص20)تحدثت المؤلفة عن زوجها الجنرال محمد اوفقير سواء قبل او بعد تعارفهما،وهو نموذج مثالي لبقايا مرتزقة الاحتلال الفرنسي للمغرب!وهي كما قلت لم تكن تهمة مشينة لدى نسبة كبيرة من المجتمع!وبالتالي جعلها تقبل به كزوجا عمله مقارب لعمل والدها!وهي كانت في سن صغيرة جدا(16 سنة)وغير قادرة على التمييز بأعترافها من خلال استمرارها في شراء لعب الاطفال! وزوجها ايضا من اصول بربرية ومن عائلة ثرية حسب قولها،ولكن لعبت خدمته مع الجيش الفرنسي دورا كبيرا في ثرائه بعد ذلك كما يتبين ذلك من وصفها للحياة الزوجية والبذخ الناتج عنه والذي تدافع عنه حتى النهاية ضد المشككين بنزاهة زوجها!!...
في الحقيقة ان الدفاع في حالة نزاهة اوفقير وهو الجنرال المعروف عنه اجرامه وانعدام الوازع الديني والاخلاقي (من وجهة نظر امثاله تكون تلك الوطنية!) في سلوكه هو كمن يضحك على عقول الاخرين!فمهما حاولت زوجته الدفاع عنه وبمختلف الحجج من خلال سيرتها والتي لا تذكر تفاصيل الاجراءات الوحشية التي قضاها في قمع الشعب وقواه الوطنية الا بصورة مختصرة،فهي ضعيفة المسانيد العقلية وامام القارئ المتلهف لمعرفة الحقيقة وخاصة المدقق في كل كلمة تقال لان من خلال فلتات البعض تكشف الحقائق! والاسر غالبا ما تدافع عن راعيها بغض النظر عن طبيعة عمله والتي لو كانت تتعارض مع قيم الاسرة لمتنعت منذ البداية عن السماح او مجاراة افرادها في الاستمرار،ومهما كانت المآسي التي عاشتها في حدائق الملك(مصطلح احتقاري بديع لسجون ومعتقلات الملك) فانها غير كافية لتبرير حالة الثراء الفاحش التي عاشتها هي واسرتها،فالاموال التي حصل عليها من الجيش الفرنسي تبقى غير نظيفة بتاتا لمن يريد التصدي لمسؤوليات وطنية كبرى ثم بعد ذلك توليه المسوؤلية الكبرى لحفظ امن النظام الملكي الشمولي والذي لايحاسب اتباعه المخلصين على سرقاتهم وخروقاتهم المفضوحة بقدر اهتمامه بأخلاصهم له!وهي صفة عامة للنظم المستبدة،فأن الاموال التي حازها اوفقير في حياته هي تفوق بشكل كبير املاكه الموروثة وقد بقي النظام ينظر الى ذلك الامر بعد تصفيته على انه حقيقة بينما تحاول زوجته والتي تذكر تفاصيل كثيرة من حياته التي تتميز بالقسوة والفساد الاخلاقي وانعدام الورع،تبقى كلها امور مشجعة للمرء على نهب املاك الدولة،ويمكن مقارنة ذلك الان بعد ان تحررت الكثير من الامم من نظمها الاستبدادية وتحولها الى الديمقراطية والاعلام الحر،يمكن تبيان حجم املاك ورواتب المسؤولين في الدولة قبل وبعد العمل ومن خلال ذلك نستنتج ان الازمان السابقة والتي تنعدم فيها مصادر الانفتاح الاعلامي يكون الخضوع لمنطق الاستفادة الكاملة من الدولة على انه حقا طبيعيا لهم مادامت مسؤولياتهم الملقاة على عاتقهم هي كبيرة ايضا!يعني بعبارة اخرى العائد المادي يناسب حجم المسؤوليات الحكومية ولكن بدون حدود ضابطة لحجم النهب وفي تستر اعلامي شامل يرافقه رعب من جانب الغالبية المحرومة حتى لو عرفوا بذلك!.
عاشت فاطمة حياة رغيدة وبأقصى استفادة من متع الحياة المتاحة لها وساعدها في ذلك صغر سنها وضعف مستواها الثقافي الذي عوضته بسرعة كما هو يظهر بعد ذلك في الاستفادة من احتكاكها بالطبقات المختلفة الا ان وعيها بقي محدودا في التأثير على زوجها او محيطه،وقد يكون لانشغالها بأطفالها ثم متع الحياة المتاحة لها قد حد من انتشار التأثير على المحيط،وقد وصفت ذلك بشيء من التفصيل في اوراق الكتاب(ص84-86).
استقلت المغرب عن فرنسا عام 1956 وبطريقة سهلة نسبيا بالقياس الى دول كثيرة اخرى من قبيل الجزائر المجاورة لها،وقد وصفت ذلك بعبارة مؤثرة للغاية(ص60) وهي ان شعبا لم يدفع ثمن حريته غاليا،يظل على الدوام يعرج متعثرا!...وهذه العبارة في تقديري تنطبق على شعوب كثيرة استسلمت للطغيان بعد ذلك بسهولة اكثر من غيرها ويمكن مشاهدة ذلك والاستنتاج من خلال التاريخ المشبع بالامثلة التي تبهر العقول ويجعل من الحكمة الوقوف عندها طويلا!...
لكن في ذكرها لمذبحة(ص56)قام بها مغاربة ضد فرنسيين من بينهم اطفال ونساء وشيوخ عزل،ثم الرد الوحشي الفرنسي بأعدام اكثر من الفين من الابرياء بطريقة اكثر مأساوية يتبين لنا مقدار الجرم المقترف من قبل الطرفين وتكون نتيجته في الغالب ابرياء لاذنب لهم ولكن حظهم العاثر وضعهم بقرب تلك الجرائم ليكونوا كبش الفداء لها في التنفيس عن الغضب والانتقام المنافي للطبيعة الانسانية ومبادئ الرجولة والفروسية التي فقدناها في الصراع البشري الابدي...
ومن المفارقات التي تحدثت عنها(ص63) في وجود ابناء الاقلية البربرية في الجيش اثناء الحكم الفرنسي وهي صفة عامة لدى المستعمر في تفضيله لابناء الاقليات بغية خلق فرق تسد بين الجميع لعلمه ان الاقليات دائما تحتاج الى المساعدة في اثبات وجودها خاصة ضمن مجتمعات لم تعتاد على الديمقراطية كمنهج ثابت بين ابنائها لخلق الفرص المتكافئة بين جميع ابنائها،ولكن المغرب كان محظوظا في انه تجاوز ذلك بسرعة بعيد الاستقلال عندما بدأ في بناء جيشا وطنيا يعتمد على جميع ابنائه وبسرعة حتى يتجنب نتائج ذلك الخلل الكارثي مستقبلا رغم انه لم يتجنب خضوع المؤسسة العسكرية للسلطة الملكية وبدون قيود رغم المحاولات الانقلابية المتكررة خلال العقدين الاوليين من الاستقلال.
تحدثت وبصورة متكررة عن الملك محمد الخامس والد الحسن الثاني وبينت بتفصيل مدى الاختلاف بين الشخصيتين فقد كانت الاولى هادئة وغير متعجرفة وتعيش البساطة في حياتها وساعد ذلك حياة النفي خلال الحكم الفرنسي ورغم ذلك فأنه لم يكن يخلو من العيوب التي يمكن استنتاجها من خلال حديثها عنه من قبيل الالتزام بالتقاليد المنافية لحقوق الانسان من خلال طلبه منها ترك ابنتها الصغيرة لتتربى بعيدا عنها مع ابنته في القصر ولا يسعها الرفض لذلك الطلب!فعائلة ترى ابنتهم بعيدة عنهم وفي كنف عائلة اخرى مهما كان حجم سطوتها هو امر في غاية التعسف وخرق فاضح لابسط حقوق الانسان،كذلك في اقالته الحكومة عام 1960 وجعل ابنه ولي العهد يديرها وهو بذلك يحول البلاد بعيدا عن الحكم الدستوري والذي يحاول الكثير من السياسيين خلقه لغرض تطوير البلاد بعيدا عن الاستبداد ولكن مع الاسف الشديد فشلت كل محاولاتهم وانتصر الاستبداد المقيت ليحول البلاد الى مرتع للرعب والفساد الذي سبب تخلفا مازالت تعاني المغرب منه لحد الان،اما الشخصية الاخرى فهو في غنى عن الحديث عنها ولكن تذكر(ص78) عبارة هامة قبل توليه العرش عام 1961 وهي رغبته ان يحكم مثل لويس الحادي عشر ملك فرنسا الذي حكم بطغيان خاصة في حبسه لخصومه وهي عبارة شؤم وكان الاولى ان يعلن رغبته ان يكون حاكما مثل الذي ينتسب اليه وراثيا كالامام علي(ع) او غيره من الحكام الاتقياء الذين تملأ سيرهم الحسنة كتب التاريخ،ولذلك كانت عبارتها بليغة عن وصف الرجلين هو ان محمد الخامس دفع المغرب خمسين عاما الى الامام اما الحسن الثاني فأعادنا خمسين عاما الى الوراء!.
وفي وصفه لسيرة حياته وتراكيب بنيته الشخصية يتبين لنا مدى خضوع شعوب بأكملها لمزاج وتقلبات اشخاص لو كانوا من العامة لكان وصفهم بالمعتوهين امرا يسيرا ! ولكن للحكم سحره في تحويل المعتوهين الى عباقرة مزيفين لا نحتاج لكشف ذلك الزيف سوى تحكيم مفردات العقل والمنطق بموضوعية شديدة لتصدر لنا احكامها القاضية العادلة،فقد كان كبقية الحكام العرب مفتونا بالنساء حتى ذكرت ان لديه اربعين امرأة وقد يكون ذلك خلال الفترة التي عاشتها معه فقط! وكذلك في تقليده للاوربيين في الشكل دون الجوهر من قبيل الملابس والاكل والبذخ وكل مظاهر الحياة الرغيدة والتي لاتنفع شعبه بشيء،ولكن كان مستبدا الى درجة عالية تلازمه صفات المكر والخداع والتربص بالخصوم واذلالهم بأسوأ الطرق الوحشية لارعاب البقية،وبأختصار يحتوي على المميزات العامة للطغاة!.
وقد وصفت حياة الرجلين زوجها والملك بشيء من التفصيل خاصة فيما يتعلق بحواشيهما من المتملقين والانانيين الذي يلهثون وراء مصالحهم الشخصية بغض النظر عن الثمن الواجب لهم دفعه،فالمهم القبض بدون شرعية مصدره!.
تصف فاطمة(ص69) الاحوال السياسية في المغرب والتي لم تختلف عن البلاد العربية الاخرى في انتشار المد اليساري وخاصة الشيوعي منه،وتأثيرات ذلك على الشعب الذي يرفض اغلبيته بعض الافكار الالحادية والتحررية من الاخلاق العامة،بينما تنكر الان حالة الهيجان والتطرف الاسلامي وخاصة الاعمال الاجرامية في قتل الاطفال والنساء والابرياء في فتاوى تكفيرية كما يجري في الجزائر المجاورة،وهذا ملاحظة هامة في كون الشعوب قريبة من بعضها في تلقي نفس الافكار والمبادئ والتفاعل معها سواء اكانت يمينا او يسارا!.
تولى زوجها بداية مناصبه الامنية بمساعدة من الزعيم الوطني محمد بن بركة والذي تورط اوفقير بقتله لاحقا كرد للجميل!...وخلال حكم الحسن الثاني تولى الجنرال اوفقير ارفع المسؤوليات الامنية وبنى اضخم الاجهزة الارهابية وبمساعدة دول تدعي الديمقراطية(ص83)وهي فرنسا وامريكا وبريطانيا واسبانيا واسرائيل ! (لعب دورا رئيسيا في تسفير130 الف يهودي بين عامي 1956-1964) وهي سياسة عامة اثناء الحرب الباردة في دعم النظم المستبدة بغية ابعاد اليسار عن الحكم لكونه قريبا للكتلة السوفيتية وهي سياسة اثبتت فشلها في خلق اجيال عديدة تربت على كره الغرب وسياساته بل وحتى شعوبه! وانتجت اجيال من المتطرفين ومن كل الاتجاهات الفكرية حتى وصلت الى حدود الغرب وعندها تبين خطأه ومحاولة استدراك مافاته ولكن مازال هنا خلل فاضح في تلك السياسة لحد الان ولم يتم تصحيح كامل للسياسات الخارجية!.
وفي صراحة نادرة قل مثيلها تعترف وبشيء من التفصيل(ص87-95) بعلاقات زوجها النسائية المتعددة وبرودة رد فعلها على ذلك حتى وقوعها وهي المتزوجة بحب ضابط شاب لعدة سنوات وطلاقها من اوفقير الذي حاول وبشتى الطرق التفريق بينهما حتى نجح من خلال استخدام ورقة الاطفال واسترجع زوجته،وهي بذلك تكسر حاجز الكثير من القيود في ذكر دقائق الحياة الشخصية وما يتخللها خاصة من سيرة الحياة العاطفية وآثارها على الفرد وهذا قلما نجده في مذكرات الكثير من المشاهير حتى في العالم الغربي وهو ناتج من شعور خاطيء لدى العامة بكون هؤلاء بعيدن عن الاخطاء التي تمس البسطاء باعتبارهم نماذج مثالية حصلت على مكانتها بقدراتها الغير اعتيادية ومهما كانت شرعية تلك الطرق ،وبالتالي من الواجب اتباعهم كوسيلة للوصول الى نفس المكانة في نفس طرق السلوك ونشر كل ما يمكن المس بالشخصية قد يؤثر في الصورة الايجابية لها!.
لكن ذلك ايضا يبين مدى التحرر من القيود الدينية والاجتماعية التقليدية لدى الاسر المتنفذة في المجتمعات المستبدة ومن بينها اسرة اوفقير التي كانت تعيش في وضع مشابه لعائلة الملك حتى حصول نكبتها والتي تذكرنا هنا بنكبة البرامكة في عهد هارون الرشيد،فرغم الخدمات التي قدمت له من قبلهم الا ان الحكم يستوجب احيانا قتل المنافسين مهما كانت حجم اعمالهم ودرجة قربهم كخوف دائم من فقدانه وبالتالي تكون التضحية بالمقربين خيرا من التضحية بالملك!.
وفي الفصل الخامس وخلال اثنتي عشرة صفحة فقط تلقي الضوء على قضية تصفية المعارض الرئيسي للنظام في باريس،الزعيم الوطني مهدي بن بركة عام 1965 ورغم ان معلوماتها قليلة عن القضية الا انها تتجاهل قرارات العدالة الفرنسية في تحميل زوجها مسؤولية تصفيته لما عرف عنه من قيامه بأعمال وحشية بررتها انها ضرورية لخدمة النظام !والتي ذكرت من بينها قمع المتظاهرين في نفس العام،ولكنها تلقي التهمة وبصورة ضمنية على الحسن الثاني كونه هو المسؤول الاول عن المغرب وزوجها ماهو الا منفذ لقراراته ورغباته،وقد اوجزت بحديثها عن تفكيك زوجها لجميع احزاب المعارضة ولكنها تلقي باللائمة على العقلية المغربية المثيرة للاستغراب حسب تعبيرها،كون ان رجالات المعارضة لم يصمدوا بوجه الطغيان الملكي،وهذا حديث يثير الاستغراب فالقمع الوحشي والذي يتميز بأنعدام كل مظاهر المروءة والفروسية هي من ابرز صفات الانظمة القمعية في القرن العشرين وبالتالي يكون طبيعيا كما جرى لصاحبة المذكرات نفسها ان يتم اعتقال الابرياء القريبين من المذنب السياسي ويجري اعدامهم او تعذيبهم بمنتهى الاذلال وبالتالي يجعل عذر بعض هؤلاء قويا امام نذالة السلطة الحاكمة وهذا يؤدي الى ضعف حجة المؤلفة والتي تصف في فقرات قريبة طريقة الانتخابات في المغرب فترة الستينات والتي كان يشرف عليها زوجها عندما تسأله عن نتائجها قبل حدوثها والتي يجيبها مع ابتسامة ان النتيجة معروفة هي 99.99%!!.
دفاع فاطمة عن زوجها في تبرير اعماله القذرة دافعها انه زوجها الذي تختلف معاملته لها وفي الدفاع عنه ايضا محاولة للدفاع عن نفسها وبالتالي ان رأيها هنا لايعتمد عليه اطلاقا كون ان داخل البيت شيء واثناء العمل وهو الذي لايشركها بالتاكيد به هو شيء اخر،ولكن برائتها من الاشتراك في جرائمه المتعددة هي ظاهرة للعيان وبدون لبس او شك،ويمكن رؤية التناقض في قولها عن زهده في اموال الدولة ! رغم ان الحسن الثاني يعرض عليه ذلك،ولكن من فلتات قلمها ومن بين السطور(ص106) تذكر كيف يراهن بمبالغ هائلة بالبوكر مع اصدقائه وهي مبالغ لم يستطع احد يجعله يدفعها وسواء دفعها ام لم يدفعها فأنه في الحالتين مذنب ووصفها لطريقة معيشتها التي تتصف بالبذخ الشديد هو مناقض لاقوالها خاصة وقد ذكرت انه في قصرها عندما القي القبض عليها كان يوجد لديها 22 خادم في البيت!!يعني اذا كانت نزاهة زوجها بتلك الصورة فكيف تكون سرقة المال العام؟! واذا كانت طرقه الوحشية في قمع الشعب وقتل الزعماء الوطنيين هي ضرورية ولخدمة النظام فكيف تكون الخيانة لامانة خدمة الوطن والمواطن وهو وزير للداخلية والرجل الثاني في الدولة بعد الجلاد الاكبر فيها الملك!.
تصفية المناضل بن بركة كان الجريمة الاكثر بشاعة في تاريخ النظام المغربي ووصمة عار ابدية،وقد اشترك في الجريمة عملاء فرنسيين ايضا وجرى تعذيبه بشكل وحشي افقده حياته ثم جرى اذابة جسده في حوض من التيزاب وحسب قول من اشترك في الجريمة فأن من قام بقتله اوفقير والعقيد الدليمي وقد انتقمت العدالة الالهية اشد انتقام منهما وعلى يد معبودهما الحسن الثاني!! وتلك سنة الحياة في كون القتلة يقتلون بعضهم البعض ول بعد حين!. وقد وصفت حياته باللامبالاة بعد تلك الجريمة وهي ناتجة من تعذيب الضمير له خاصة وان اتهام الرأي العام له كان مطلقا مع شهرة ذلك،وبالتالي لم يعد لديه مجالا للنكران او الابتعاد عن دائرة الحكم بعد ان اوغل بالجريمة كبقية الجلادين الذين لايجدوا معنى للحياة سوى ممارسة المزيد من الاعمال الشريرة التي تكون في الغالب وسائل ذاتية للتعبير عن تعذيب النفس بطريقة مرضية ولكن من خلال ايقاع المزيد من العذاب بالاخرين!.
تحدثت فاطمة عن محاولة انقلاب قصر الصخيرات عام 1971 والتي قام بها بعض الضباط والجنود المغاربة بعد ان طفح الكيل بهم من جراء القمع الوحشي للنظام الملكي واذلاله الشعب بشكل فظيع مع سيطرة حفنة من السراق والقتلة وتحت سمع وبصر الملك على مقاليد الامور في البلاد،وكادت العملية ان تنجح لولا اختباء الملك واوفقير وبعض اعوانهما في المغاسل وقد ارتكب الانقلابيون خطأ قاتلا عندما تركوا القصر وتوجهوا للعاصمة وعندها استرجع النظام زمام الامور بسرعة وجرت تصفية القادة العسكريين بسرعة وبوحشية كما هي العادة وعندها اصبحت العلاقة اكثر شكوكا بين الطرفين:الملك واوفقير الذي قام بتصفية زملائه الجنرالات الذين قضى معهم فترات طويلة من حياته في العمل معهم.
حاول اوفقير مع ضباط اخرون القيام بأنقلاب اخر خوفا من انتقام الملك الذي لم يترك لشكوكه مجالا للصداقة والاطمئنان لمرؤوسيه،فكانت المحاولة الفاشلة في آب 1972 هي الضربة القاصمة التي قضت على كل مبادرة رئيسية للقضاء على النظام الملكي وكانت نهاية الجنرال اوفقير مأساوية بعد ان اتهم بقيادتها،وبذلك قضى الحسن الثاني على كل جلاديه وبفترات متباعدة ولم يبقى سوى قلة ذكرت فاطمة بعضا منهم وبأعمالهم الاجرامية.
الانتقام من اسرة بريئة:
بعد ذلك بدأت رحلة العذاب الكبرى للسيدة فاطمة واولادها الستة(ولدان واربع فتيات)واكبرهم كانت بنت عمرها 19 واصغرهم طفل عمره 3 سنوات!بالاضافة الى امرأتين من اقاربهما الاوفياء اللتان بقيتا على اخلاصهما للاسرة بينما تركهما اقرب المقربين بسبب الخوف من انتقام النظام وارهابه اللامحدود،ومهما تكن الاسباب في الاعتقال وهي بين الشك في معرفة المتآمرين الى معرفة اسرار اوفقير الى اهانة الملك بسبب قتله لوالدهم،كل ذلك لايبرر اطلاقا اعتقال عائلته فضلا عن تعذيبهم بوحشية يندر حدوثها من ملك يدعي الاسلام والانتساب العلوي وغير ذلك من التسميات والادعاءات الفارغة التي لاقيمة لها امام تلك الحقائق المرعبة.
تحولت حياة الاسرة بين ليلة وضحاها بين النعيم والثراء الفاحش الى السجون والمعتقلات السرية الرهيبة للحسن الثاني والتي يطلق عليها تهذبا اسم حدائق الملك! وهو الاسم الذي اختارته فاطمة اسما لكتابه الذي يروي ذكرياتها الاليمة.
لم يعبأ الملك الطاغية ولا اعوانه بحياة تلك الاسرة الصغيرة ولم تكن في قلوبهم المتحجرة اية رحمة عليهم لمدة 15 سنة في السجن حتى تلاه الهروب الشهير عام 1987 الذي لولاه لبقوا الى نهايتهم المحتومة! ثم اتصال الهاربين ببعض المحامين من فرنسا الذين استطاعوا توفير الحماية الجزئية لهم وتم تحويلهم الى اقامة جبرية انهيت عام 1991 وبالتالي قضت تلك الاسرة 19 عاما من العذابات الرهيبة والتي وصفتها بالتفصيل البديع وبأسلوب جذاب رغم الحزن والالم الذي يلف شعور كل انسان عند قرائته تلك القصص الوحشية من عذاب ابرياء استطاعوا وبفضل الله تعالى ان يخرجوا الى الحياة وان يفضحوا ممارسات النظام الاجرامية الرهيبة وان يكشفوا عن مدى نذالة وقذارة الحسن الثاني ومعاونيه الذين لم تنزل رحمة في قلوبهم على اطفال صغار دون يتذكروا قدرة الباري عزوجل عليهم يوم لا ينفع الندم ولا يوجد فيه حسب او نسب وكل انسان يحمل اعماله في رقبته ويضعها امام خالقه او حتى امام التاريخ الانساني عندما يذكر سيرتهم المخزية،ولكن تبقى في النهاية العقول المتعفنة في تبجيل المتعفنين الذين لاقيمة لهم امام الحق والعدل والحرية من خلال عدم تصديق تلك القصص او التشكيك فيها في دلالة واضحة على مدى الانحطاط الذي يلف عقول وقلوب ملايين البشر في الوقت الحاضر وتلك الحقيقة المؤلمة لا تنطبق على بلد بحد ذاته بل تلك مآساة عامة في كل البلاد والامثلة عديدة لامجال لذكرها هنا ولكن يمكن لمن يريد ان يمتلك عقلا حرا ان ينقب عنها.
الجريمة البشعة التي ذكرت تفاصيلها في معاناة تلك الاسرة البريئة تبرز لنا الجانب الظلامي في الانظمة العربية المستبدة التي فقدت كل قيم الانسانية ومعانيها السامية وبذلت في سبيل كرسي الحكم كل طاقات شعوبهم الجبارة والتي تحولت في النهاية الى شعوب مستعبدة تخاف ان تسأل عن ذوي ضحاياهم فكيف عن شهدائهم!!.
استفادت السيدة فاطمة وابنائها في فترة قصيرة في تثقيف انفسهم خلال فترات الحجز الاولى وقد جاء ذلك من خلال توفير الكتب اللازمة لهم،ولكن بعد فترة منعوا منها ومن ابسط حقوق السجناء!وقد شرحت ذلك بالتفصيل الذي يجعل القارئ يمتلأ حقدا على الملك ونظامه الارهابي الفاسد،وكان تصويرها الواقعي لحياتهم بالرغم من الالم والحزن هو في غاية الصدق والعفوية بحيث كان يحوي على دروس وعبر في الصبر على المآساة ومحاولة التشبث بالحياة بالرغم من قسوتها،وقد كان تصويرها متفوقا على الكثير من الكتب الادبية الخيالية التي تقارب نفس المضمون،وقد كان تصويرها للمشاعر الانسانية التي جمعت تلك الاسرة المنكوبة هو في غاية العذوبة وبأسلوب جميل وسلس،وكان تصويرها لقسوة الحراس في محله خاصة وان الكثير من امثال هؤلاء في بلدان العالم الثالث هم قمة في الهمجية والتخلف ولايراعون ابسط حقوق السجناء،وكيف يراعون اذا كان جلادهم الملك الفاقد لابسط المشاعر الانسانية في الرحمة تجاه تلك الاسرة ،هو يرفض العفو عنهم او حتى اطلاق سراحهم وتسفيرهم لخارج البلاد كما طلب منه ذلك بعض الحكام العرب وشاه ايران وتكون نتيجة تلك المساعي الحميدة هي مزيدا من القسوة والاهانة في ردة فعله الغريبة،ولكن اصعب ما في حياة تلك الاسرة هي سجن اطفال صغار وخاصة طفلهم الاصغر(عبد اللطيف 3سنوات)وترعرعه في السجن في عملية تتصف بمدى ما وصل اليه هؤلاء المتوحشون القساة من انحطاط والذي يملئون الارض ظلما وعدوانا التي لم تخلي منهم في اي وقت وكأنها سنة طبيعية للبشر!.
ومن اسوأ فترات سجنهم الطويلة هي فصلهم عن بعضهم البعض لسنوات بغية القضاء عليهم ولكن ارادة الله تعالى تشاء ان تجعلهم خير سفراء للمضطهدين في بلدهم،وخاصة المنسيون منهم والذين لا نعلم عنهم شيئا.
قصص السجن كثيرة ومن الضروري قرائتها بالتفصيل حتى يتوحد شعورنا مع شعور هؤلاء المعذبون ومن يدري لعله تخفيفا عن حزننا عما جرى لهم او تخفيفا من الذنب العظيم في بقاء امثالهم في سجون الحياة التعيسة!...وقد كانت قصة محاولة انتحار الطفل الاصغر وعذابات اخواته المرضى ومنع الدواء عنهن فضلا عن الغذاء والملابس الضرورية وغيرها من مستلزمات الحياة الاخرى هي من اقصى الصور،ولا ننسى الام التي تحملت الكثير من العذابات لاجل البقاء مرفوعة الرأس امام ازلام طاغية ملعون الى الابد وذكراه الان في مزبلة التاريخ.
من ابرز افكار تلك المأساة هي مقدار القوة الخفية للانسان في الصبر على المحن التي يخلقها له اخيه الانسان! ففي تلك القوة قدرة هائلة على تحمل اتعس الظروف واكثرها صعوبة ،والافكار الناتجة من سجن الاجساد هي تبقى مختلفة بشكل كبير عن عالم خارج السجن الذي يحياه الانسان بدون قيود جسدية،والحاجة المأساوية لافراد تلك الاسرة جعلتهم يخترعون الكثير من الاشياء البسيطة التي تدل على عبقرية الانسان في تلائمه مع الظروف المحيطة به في بيان تطبيقي لمقولة الحاجة ام الاختراع!وتذكر هنا نموذجا مثاليا في الاصرار على البقاء والتحرر من العذابات المتتالية في محاولة الهروب من السجن والتي انتهت بعد شهرين من الاعداد لها وبوسائل بدائية وعندما خرج بعضا منهم من السجن كان توجههم الى سفارات الدول الغربية بعيدا عن سفارات الدول العربية او الاسلامية التي لاتختلف انظمتها القمعية عن النظام المغربي وهي بادرة تجعل الجميع يقفون معها!.
تبقى في الختام رأي فاطمة حول تأييدها للنظام الملكي في المغرب وضرورة ديمومته رغم المآسي الناشئة منه لها ولاسرتها!وهذا غريب بعض الشيء ولكنه متوقع منها كونها تربت في محيط على طاعة النظام الملكي وحبه،واسباب ذلك في نظرها تعود الى اختلاف فئات الشعب المغربي وتقاليده الاجتماعية من منطقة لاخرى وبالتالي من الصعوبة بمكان ان يوحد ذلك الشعب المختلف الاعراق نظام جمهوري ديمقراطي فالاختلاف متباين الى درجة حادة من وجهة نظرها!...وفي الحقيقة ان ذلك رأي متهافت وضعيف امام الحقائق السياسية لعدد كبير من البلدان لان غالبية البلدان المستقرة وذات النظام الجمهوري تتكون شعوبها من فئات وطبقات تكون مختلفة بمراحل عن الشعب المغربي ولكنها موحدة بفضل القانون وطاعته والتزام الجميع بالخيار الديمقراطي او حتى الاستبداد الجمهوري وهو قريب للاستبداد الملكي وبذلك اعتقد ان تلك النظرة القاصرة هي منتشرة لدى عدد كبير من الشعوب التي تحكمها نظم ملكية محافظة وليس في المغرب فحسب...
وتبقى تلك القصة المأساوية حقيقة دامغة لخيانة اصحاب المسؤولية في المغرب وخاصة الملك المستبد الحسن الثاني،بل هي وصمة عار في جبين الانسانية المعذبة تحت سياط هؤلاء الحثالة المحترمون عندما تقف مكتوفة الايدي!....
مختصر وتحليل وتعليق ونقد للكتاب
في سبيل موسوعة معرفية مختصرة
(8)
مقدمة لابد منها!....
لادب السجون وخاصة السيرة الذاتية لكتابها طعما خاصا يختلف عن الكتب الادبية الاخرى،فهي تحمل مختلف المشاعر والاحاسيس الصادقة التي عانت وتعاني في سبيل البقاء في عالم لايرحم احدا وفي حياة لن تستمر طويلا!بعد معاناة رهيبة سابقة في جهل كامل من المجتمع واجهزته الرادعة لتلك الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان ولذلك ينبغى مراعاة الكتاب المقروء الحامل لتلك الصفات فهو يختلف عن الكتب الاخرى بصدق المشاعر وبتعبها الحقيقي، وبدون تفهم تلك المعاناة والعيش بعواطف انسانية مشتركة مع معاناة كاتبها،يصبح من الصعب جدا فهم مدلولات تلك المعاناة وآثارها على الانسانية جمعاء.
تأبى العدالة الالهية الا وان تنتقم من الطغاة واعوانهم بطريقة او بأخرى وفق قانون العدالة للجميع وبدون استثناء،ورغم اننا نستعجل تلك العدالة الارضية(في حياتنا) والتي هي مكملة للعدالة السماوية(بعد مماتنا) وهي صفة ناتجة من طبيعتنا المحبة للخير والسلام،الا ان تلك العدالة تأخذ صورا عديدة في احكامها،ومن اهم تلك الاحكام التي رغم انها تكون مؤجلة بعض الشيء ولحكمة آلهية فيها قد لانفهم مغزاها الا بعد فترة طويلة او كناموس طبيعي للحياة هي فضائح الظالمين وخاصة في اثناء حياتهم وهي تأخذ درجات مختلفة وبصور متعددة وقد يكون من بينها فضائح الفساد المتنوعة والتي تنتشر في وسائل الاعلام وخاصة لاسر واتباع الطغاة،ولكن من ابرز تلك الصور خروج المعذبين من سجونهم ومعتقلاتهم الى الحياة الطبيعية مرة اخرى وتصويرهم لحياتهم السابقة بمختلف تفاصيلها لمن لم يعشها ويرغب سماع الحديث عنها فهذا هو انتقام آلهي من خلال نشر لغسيل الحاكمين القذر امام الرأي العام والذي قد يكون في حالة من الاستمرارية في انعدام الوعي في تقديسه الزائف لهؤلاء البشر الذين لايختلفون عن الاخرين بشيء سوى ان الحظ حالفهم بطريقة او بأخرى في ان يستولوا على مقدرات بلادهم ويتحكمون بها بطريقة مشينة خاضعة لغرائزهم الحيوانية التي لايقف امامها حائل مهما كانت النتائج الظاهرة منها ومهما كانت العبر في من سبقهم في نفس الطريق...والبشر في الغالب لايتعلمون من اخطاء اسلافهم! (قد تكون منبه لنا من حالة اللاوعي! وهي دليل على نقصنا الكامل)...
الخارجون من السجون والمعتقلات وخاصة الابرياء منهم هم في الحقيقة مواليد جدد في عالم مابعد الحياة التعيسة التي خضعوا لها بصورة خارجة عن ارادتهم من خلال قدرة خصومهم،وحياتهم الجديدة تختلف بالتأكيد عن حياة من يولد في الحياة لاول مرة كونه يعيش بذاكرة متعبة تحتوي على خزين هائل من الالم والحزن والذخيرة المعلوماتية التي يأبى احيانا العقل الطبيعي المقابل تصديقها او هضم مفرداتها حتى ولم يدرك معالم وحشية الافراد القائمين بها! بمعنى اخر هو الانتقال من حالة العذاب الى حالة مابعد العذاب والتي تستحيل حالة القطع بينهما فالترابط يبقى قائما بينهما الى النهاية بينما المولود الجديد هو خال من اي ذاكرة طبيعية ويكون في حالة من الاستعداد لبدء حياة قد تكون سعيدة وهي نادرا او أليمة وهي غالبا!ويكون متلقيا من المحيط بينما المعذبون هم يعلمون البشرية حجمها الطبيعي وحقيقتها البشعة الغافلة عنها بصمت رهيب ولامبالاة قاتلة.
هؤلاء المولودين الجدد لحياة جديدة لن تكون سهلة عليهم بالطبع وسوف تستمر معاناتهم مع مجتمع لم يقف معهم وهو في الغالب في حالة من انعدام الوعي الكامل وخاصة اذا كان خاضعا لاعلام موجه يتناغم مع موروث ثقافي تقليدي والتي في بعضها مصبوغ بلون ديني مزيف،وهنا تبرز المتاعب ليس فقط لهؤلاء الضحايا بل للحقيقة والتاريخ الصحيح الذي يبتغيه كل انسان حر غير مقيد بتقاليد تقديسية زائفة لاشخاص يحكمون بأسمه بطريقة تكون احيانا مضحكة في كيفية تقبل العقل والمنطق السليم لهكذا ترهات من اشخاص معتوهين ولكنهم انيقي المظهر وينتسبون احيانا لاسر تدعي الشرف الوراثي المتسلسل الذي لاقيمة له امام تطبيق المبادئ الانسانية في الحرية والاخوة والمساواة...
تلك هي مقدمة اسوقها الى هذا الكتاب القيم والعبرة بما جاء فيه حتى لو لم نتفق مع صاحبه ولكن تبقى المعاناة الانسانية هي الجامع الحقيقي بين تعاطف بني البشر والحلقة الاقوى في الربط بينهم! فالمعاناة والشقاء تجمع والرخاء والبذخ يفرق!...
الكتاب الثامن:
الكتاب: حدائق الملك
اوفقير والحسن الثاني ونحن
المؤلف:فاطمة اوفقير
الطبعة 2007 في الدار البيضاء وفي بيروت لنفس الناشر،ويتألف من 271 صفحة.ومترجم من الفرنسية،من القطع المتوسط ومن الورق الخشن.
هذا الكتاب هو سيرة ذاتية بشعة حصلت لفاطمة واولادها الستة مع اثنين من اقربائهما المخلصين الذين ابوا الا ان يعيشوا المآساة معهم في السجون والمعتقلات الرهيبة للجلاد المغربي الحسن الثاني الذي يلقبه البعض عندهم بأمير المؤمنين! وهي صفة لاتليق الا بالصالحين المخلصين للحق والعدل .
قبل الاعتقال:
تحدثت السيدة فاطمة اوفقير(1936-) وبأسلوب ادبي جميل وفي غاية الدقة في الوصف لحياة صعبة عاشتها في المغرب وهي من اسرة ذات اصول بربرية،وكان تحدثها عن المآسي في فقدان والدتها بعمر صغير(18عاما) ثم اخيها الصغير،في الحقيقة حديثها مؤثرا للغاية وهي مشاعر انسانية يشترك الجميع في الاحساس بها والاستشعار بمعاناة الاخرين منها اذا لم تصيبهم نفس المآسي.
الوصف الدقيق لحياة الاقوام في المغرب هو مهم لبيان طبيعة مكونات ذلك الشعب ولمعرفة خصائصه الاجتماعية التي تختلف احيانا عن شعوب اخرى قد تكون مجاورة له،وقد تحدثت في اماكن كثيرة عن ذلك الاختلاف والمشاكل التي تحدث للمغرب بسببها ولكن يبقى ذلك من خلال وجهة نظرها ومن خلال خلاصة تجربتها الاليمة في الاحتكاك بطبقات كثيرة من مكونات ذلك المجتمع المتعدد الاعراق والاصول ولكن يشترك في بوتقة الاسلام والمذهب الواحد والتي هي من خلال رؤيتها للحالة المغربية تستنتج انها لم تكن كافية لجمعهم بل احتاجوا الى استبداد! يجمعهم من خلال اسرة حاكمة تعود اصولها العرقية للعلويين في شبه الجزيرة العربية وفي اخلاقها وتصرفاتها وطبيعة حياتها الى اصول مختلفة تماما عن معاناة العلويين واخلاقهم ومبادئهم المستمدة من الاسلام الثوري النزيه من كل مؤثرات الحكم القبيحة! وتلك علامة هامة يستوجب الاهتمام بها حتى لا تؤثر في احكامنا على قدسيات زائفة لاقيمة لها في عالم اليوم الذي يحاول بشتى الطرق التخلص من تقاليد واحكام ونظم سببت الكثير من المآسي للشعوب وبمختلف طبقاتها!.
وهذا التغير في طبائع تلك الاسرة الوارثة للحكم جاء من الاندماج الكامل في مجتمع يقرب للبداوة منه للاسلام بمعناه الحضاري،وقد ذكرت المؤلفة(ص7)عما حدثه جدها المشترك في الغزوات الداخلية وخاصة الاعمال الوحشية التي تنم عن انعدام كامل بالمثل الاسلامية والانسانية من قبيل ذكرها قطع اصابع النساء بغية اخذ الحلي منهن!وهي من صفات الجاهلية التي قضى الاسلام على فترة واحدة منها سرعان ما تفرخت فترات اخرى مازالنا نعيش في بعضا منها الان ولكن بثوب اسلامي جميل للمظهر فحسب!.
من خلال وصفها لسيرتها ودخولها لدير الراهبات وهي المسلمة(ص21) يتبين لنا تحررها من القيود الدينية منذ الصغر وبالتالي تأثيره لاحقا عليها وعلى بقية افراد اسرتها خاصة في فترة قبل دخول السجن او بعد خروجهم منه،وفي الغالب اذا لم يكن الانسان متدينا بالمعنى الغير تقليدي للكلمة في ان يكون متطبعا بروح الدين التي تسمو بالانسان،فأنه يخضع لمبادئ علمانية تجعل المثل الانسانية في اولوية اهتماماتها،فأذا فقدت الاتجاهين فأن المأساة سوف تحل بهم او بمن حولهم اذا تسلموا مناصب عليا غير خاضعة للضوابط ،وهذا ما يمكن رؤيته في الكثير ممن اوغلوا في دماء بني جنسهم البشري لعدم وجود الرادع الذاتي الذي يقيهم من هفواتهم القاتلة سواء الديني او ضميرهم الانساني .
كان والد فاطمة وزوجها ايضا جنودا وضباطا في الجيش الفرنسي وقد قاتلوا ببسالة معه في المعارك وخاصة التي تكون لمصلحة فرنسا العليا! وهي صفة نادرة الحدوث في الشرق الاوسط ،التي خضعت بعض اجزائها الى الاحتلالين البريطاني والفرنسي،بل بقيت صفة موصوفة بالخيانة العظمى للوطن المحتل،ولكن الظاهر ان تلك التسميات كانت غير مشدد عليها في بلدان المغرب العربي وافريقيا رغم ان الكثير من بقايا تلك الجيوش تسببت في جرائم ومشاكل لاحدود لها لبلدانها بعد الاستقلال! ويمكن الاشارة الى بلاد مثل الجزائر والمغرب وتونس وغرب افريقيا،كما ان البلدان المستعمرة بقيت تساند هؤلاء المرتزقة سواء في بلدانهم او في داخل بلادها التي اقام فيها عدد كبير وبعضهم هارب من العدالة في بلده!.
هؤلاء المرتزقة كانوا قساة الى درجة كبيرة في التعامل مع شعوبهم وهي ناتجة من طبيعة عملهم في قمع شعوبهم لمصلحة المحتل او الحرب مع بلدان منافسة اخرى تحارب مستعبديهم! ويكن رؤية ذلك من خلال الانقلابات العسكرية في القارة الافريقية والتي قادها ضباط وجنود مرتزقة حولوا حياة شعوبهم لجحيم لا منتهي وهي خاصة ينبغي الوقوف عندها كثيرا،فعدم تطبيق العدالة على من يخرقها هو بالتالي تشجيع لهم على العودة الى طبيعة عملهم الاولى،وبالتالي ضرورة العمل على ازالة وجودهم من كل مؤسسات الدولة والمجتمع ودمجهم في الحياة العامة بدون الاستعانة بهم في بناء الدولة لان انقلابهم عليها او على مبادئها اذا كانت سليمة سوف تكون نهاية المطاف!،وعموما لايعمل تلك الاعمال الوحشية الا من باع نفسه للشيطان في سبيل حياة رغيدة او للانتقام من مجتمع رافض له!.
في الفصل الثاني(بعد ص20)تحدثت المؤلفة عن زوجها الجنرال محمد اوفقير سواء قبل او بعد تعارفهما،وهو نموذج مثالي لبقايا مرتزقة الاحتلال الفرنسي للمغرب!وهي كما قلت لم تكن تهمة مشينة لدى نسبة كبيرة من المجتمع!وبالتالي جعلها تقبل به كزوجا عمله مقارب لعمل والدها!وهي كانت في سن صغيرة جدا(16 سنة)وغير قادرة على التمييز بأعترافها من خلال استمرارها في شراء لعب الاطفال! وزوجها ايضا من اصول بربرية ومن عائلة ثرية حسب قولها،ولكن لعبت خدمته مع الجيش الفرنسي دورا كبيرا في ثرائه بعد ذلك كما يتبين ذلك من وصفها للحياة الزوجية والبذخ الناتج عنه والذي تدافع عنه حتى النهاية ضد المشككين بنزاهة زوجها!!...
في الحقيقة ان الدفاع في حالة نزاهة اوفقير وهو الجنرال المعروف عنه اجرامه وانعدام الوازع الديني والاخلاقي (من وجهة نظر امثاله تكون تلك الوطنية!) في سلوكه هو كمن يضحك على عقول الاخرين!فمهما حاولت زوجته الدفاع عنه وبمختلف الحجج من خلال سيرتها والتي لا تذكر تفاصيل الاجراءات الوحشية التي قضاها في قمع الشعب وقواه الوطنية الا بصورة مختصرة،فهي ضعيفة المسانيد العقلية وامام القارئ المتلهف لمعرفة الحقيقة وخاصة المدقق في كل كلمة تقال لان من خلال فلتات البعض تكشف الحقائق! والاسر غالبا ما تدافع عن راعيها بغض النظر عن طبيعة عمله والتي لو كانت تتعارض مع قيم الاسرة لمتنعت منذ البداية عن السماح او مجاراة افرادها في الاستمرار،ومهما كانت المآسي التي عاشتها في حدائق الملك(مصطلح احتقاري بديع لسجون ومعتقلات الملك) فانها غير كافية لتبرير حالة الثراء الفاحش التي عاشتها هي واسرتها،فالاموال التي حصل عليها من الجيش الفرنسي تبقى غير نظيفة بتاتا لمن يريد التصدي لمسؤوليات وطنية كبرى ثم بعد ذلك توليه المسوؤلية الكبرى لحفظ امن النظام الملكي الشمولي والذي لايحاسب اتباعه المخلصين على سرقاتهم وخروقاتهم المفضوحة بقدر اهتمامه بأخلاصهم له!وهي صفة عامة للنظم المستبدة،فأن الاموال التي حازها اوفقير في حياته هي تفوق بشكل كبير املاكه الموروثة وقد بقي النظام ينظر الى ذلك الامر بعد تصفيته على انه حقيقة بينما تحاول زوجته والتي تذكر تفاصيل كثيرة من حياته التي تتميز بالقسوة والفساد الاخلاقي وانعدام الورع،تبقى كلها امور مشجعة للمرء على نهب املاك الدولة،ويمكن مقارنة ذلك الان بعد ان تحررت الكثير من الامم من نظمها الاستبدادية وتحولها الى الديمقراطية والاعلام الحر،يمكن تبيان حجم املاك ورواتب المسؤولين في الدولة قبل وبعد العمل ومن خلال ذلك نستنتج ان الازمان السابقة والتي تنعدم فيها مصادر الانفتاح الاعلامي يكون الخضوع لمنطق الاستفادة الكاملة من الدولة على انه حقا طبيعيا لهم مادامت مسؤولياتهم الملقاة على عاتقهم هي كبيرة ايضا!يعني بعبارة اخرى العائد المادي يناسب حجم المسؤوليات الحكومية ولكن بدون حدود ضابطة لحجم النهب وفي تستر اعلامي شامل يرافقه رعب من جانب الغالبية المحرومة حتى لو عرفوا بذلك!.
عاشت فاطمة حياة رغيدة وبأقصى استفادة من متع الحياة المتاحة لها وساعدها في ذلك صغر سنها وضعف مستواها الثقافي الذي عوضته بسرعة كما هو يظهر بعد ذلك في الاستفادة من احتكاكها بالطبقات المختلفة الا ان وعيها بقي محدودا في التأثير على زوجها او محيطه،وقد يكون لانشغالها بأطفالها ثم متع الحياة المتاحة لها قد حد من انتشار التأثير على المحيط،وقد وصفت ذلك بشيء من التفصيل في اوراق الكتاب(ص84-86).
استقلت المغرب عن فرنسا عام 1956 وبطريقة سهلة نسبيا بالقياس الى دول كثيرة اخرى من قبيل الجزائر المجاورة لها،وقد وصفت ذلك بعبارة مؤثرة للغاية(ص60) وهي ان شعبا لم يدفع ثمن حريته غاليا،يظل على الدوام يعرج متعثرا!...وهذه العبارة في تقديري تنطبق على شعوب كثيرة استسلمت للطغيان بعد ذلك بسهولة اكثر من غيرها ويمكن مشاهدة ذلك والاستنتاج من خلال التاريخ المشبع بالامثلة التي تبهر العقول ويجعل من الحكمة الوقوف عندها طويلا!...
لكن في ذكرها لمذبحة(ص56)قام بها مغاربة ضد فرنسيين من بينهم اطفال ونساء وشيوخ عزل،ثم الرد الوحشي الفرنسي بأعدام اكثر من الفين من الابرياء بطريقة اكثر مأساوية يتبين لنا مقدار الجرم المقترف من قبل الطرفين وتكون نتيجته في الغالب ابرياء لاذنب لهم ولكن حظهم العاثر وضعهم بقرب تلك الجرائم ليكونوا كبش الفداء لها في التنفيس عن الغضب والانتقام المنافي للطبيعة الانسانية ومبادئ الرجولة والفروسية التي فقدناها في الصراع البشري الابدي...
ومن المفارقات التي تحدثت عنها(ص63) في وجود ابناء الاقلية البربرية في الجيش اثناء الحكم الفرنسي وهي صفة عامة لدى المستعمر في تفضيله لابناء الاقليات بغية خلق فرق تسد بين الجميع لعلمه ان الاقليات دائما تحتاج الى المساعدة في اثبات وجودها خاصة ضمن مجتمعات لم تعتاد على الديمقراطية كمنهج ثابت بين ابنائها لخلق الفرص المتكافئة بين جميع ابنائها،ولكن المغرب كان محظوظا في انه تجاوز ذلك بسرعة بعيد الاستقلال عندما بدأ في بناء جيشا وطنيا يعتمد على جميع ابنائه وبسرعة حتى يتجنب نتائج ذلك الخلل الكارثي مستقبلا رغم انه لم يتجنب خضوع المؤسسة العسكرية للسلطة الملكية وبدون قيود رغم المحاولات الانقلابية المتكررة خلال العقدين الاوليين من الاستقلال.
تحدثت وبصورة متكررة عن الملك محمد الخامس والد الحسن الثاني وبينت بتفصيل مدى الاختلاف بين الشخصيتين فقد كانت الاولى هادئة وغير متعجرفة وتعيش البساطة في حياتها وساعد ذلك حياة النفي خلال الحكم الفرنسي ورغم ذلك فأنه لم يكن يخلو من العيوب التي يمكن استنتاجها من خلال حديثها عنه من قبيل الالتزام بالتقاليد المنافية لحقوق الانسان من خلال طلبه منها ترك ابنتها الصغيرة لتتربى بعيدا عنها مع ابنته في القصر ولا يسعها الرفض لذلك الطلب!فعائلة ترى ابنتهم بعيدة عنهم وفي كنف عائلة اخرى مهما كان حجم سطوتها هو امر في غاية التعسف وخرق فاضح لابسط حقوق الانسان،كذلك في اقالته الحكومة عام 1960 وجعل ابنه ولي العهد يديرها وهو بذلك يحول البلاد بعيدا عن الحكم الدستوري والذي يحاول الكثير من السياسيين خلقه لغرض تطوير البلاد بعيدا عن الاستبداد ولكن مع الاسف الشديد فشلت كل محاولاتهم وانتصر الاستبداد المقيت ليحول البلاد الى مرتع للرعب والفساد الذي سبب تخلفا مازالت تعاني المغرب منه لحد الان،اما الشخصية الاخرى فهو في غنى عن الحديث عنها ولكن تذكر(ص78) عبارة هامة قبل توليه العرش عام 1961 وهي رغبته ان يحكم مثل لويس الحادي عشر ملك فرنسا الذي حكم بطغيان خاصة في حبسه لخصومه وهي عبارة شؤم وكان الاولى ان يعلن رغبته ان يكون حاكما مثل الذي ينتسب اليه وراثيا كالامام علي(ع) او غيره من الحكام الاتقياء الذين تملأ سيرهم الحسنة كتب التاريخ،ولذلك كانت عبارتها بليغة عن وصف الرجلين هو ان محمد الخامس دفع المغرب خمسين عاما الى الامام اما الحسن الثاني فأعادنا خمسين عاما الى الوراء!.
وفي وصفه لسيرة حياته وتراكيب بنيته الشخصية يتبين لنا مدى خضوع شعوب بأكملها لمزاج وتقلبات اشخاص لو كانوا من العامة لكان وصفهم بالمعتوهين امرا يسيرا ! ولكن للحكم سحره في تحويل المعتوهين الى عباقرة مزيفين لا نحتاج لكشف ذلك الزيف سوى تحكيم مفردات العقل والمنطق بموضوعية شديدة لتصدر لنا احكامها القاضية العادلة،فقد كان كبقية الحكام العرب مفتونا بالنساء حتى ذكرت ان لديه اربعين امرأة وقد يكون ذلك خلال الفترة التي عاشتها معه فقط! وكذلك في تقليده للاوربيين في الشكل دون الجوهر من قبيل الملابس والاكل والبذخ وكل مظاهر الحياة الرغيدة والتي لاتنفع شعبه بشيء،ولكن كان مستبدا الى درجة عالية تلازمه صفات المكر والخداع والتربص بالخصوم واذلالهم بأسوأ الطرق الوحشية لارعاب البقية،وبأختصار يحتوي على المميزات العامة للطغاة!.
وقد وصفت حياة الرجلين زوجها والملك بشيء من التفصيل خاصة فيما يتعلق بحواشيهما من المتملقين والانانيين الذي يلهثون وراء مصالحهم الشخصية بغض النظر عن الثمن الواجب لهم دفعه،فالمهم القبض بدون شرعية مصدره!.
تصف فاطمة(ص69) الاحوال السياسية في المغرب والتي لم تختلف عن البلاد العربية الاخرى في انتشار المد اليساري وخاصة الشيوعي منه،وتأثيرات ذلك على الشعب الذي يرفض اغلبيته بعض الافكار الالحادية والتحررية من الاخلاق العامة،بينما تنكر الان حالة الهيجان والتطرف الاسلامي وخاصة الاعمال الاجرامية في قتل الاطفال والنساء والابرياء في فتاوى تكفيرية كما يجري في الجزائر المجاورة،وهذا ملاحظة هامة في كون الشعوب قريبة من بعضها في تلقي نفس الافكار والمبادئ والتفاعل معها سواء اكانت يمينا او يسارا!.
تولى زوجها بداية مناصبه الامنية بمساعدة من الزعيم الوطني محمد بن بركة والذي تورط اوفقير بقتله لاحقا كرد للجميل!...وخلال حكم الحسن الثاني تولى الجنرال اوفقير ارفع المسؤوليات الامنية وبنى اضخم الاجهزة الارهابية وبمساعدة دول تدعي الديمقراطية(ص83)وهي فرنسا وامريكا وبريطانيا واسبانيا واسرائيل ! (لعب دورا رئيسيا في تسفير130 الف يهودي بين عامي 1956-1964) وهي سياسة عامة اثناء الحرب الباردة في دعم النظم المستبدة بغية ابعاد اليسار عن الحكم لكونه قريبا للكتلة السوفيتية وهي سياسة اثبتت فشلها في خلق اجيال عديدة تربت على كره الغرب وسياساته بل وحتى شعوبه! وانتجت اجيال من المتطرفين ومن كل الاتجاهات الفكرية حتى وصلت الى حدود الغرب وعندها تبين خطأه ومحاولة استدراك مافاته ولكن مازال هنا خلل فاضح في تلك السياسة لحد الان ولم يتم تصحيح كامل للسياسات الخارجية!.
وفي صراحة نادرة قل مثيلها تعترف وبشيء من التفصيل(ص87-95) بعلاقات زوجها النسائية المتعددة وبرودة رد فعلها على ذلك حتى وقوعها وهي المتزوجة بحب ضابط شاب لعدة سنوات وطلاقها من اوفقير الذي حاول وبشتى الطرق التفريق بينهما حتى نجح من خلال استخدام ورقة الاطفال واسترجع زوجته،وهي بذلك تكسر حاجز الكثير من القيود في ذكر دقائق الحياة الشخصية وما يتخللها خاصة من سيرة الحياة العاطفية وآثارها على الفرد وهذا قلما نجده في مذكرات الكثير من المشاهير حتى في العالم الغربي وهو ناتج من شعور خاطيء لدى العامة بكون هؤلاء بعيدن عن الاخطاء التي تمس البسطاء باعتبارهم نماذج مثالية حصلت على مكانتها بقدراتها الغير اعتيادية ومهما كانت شرعية تلك الطرق ،وبالتالي من الواجب اتباعهم كوسيلة للوصول الى نفس المكانة في نفس طرق السلوك ونشر كل ما يمكن المس بالشخصية قد يؤثر في الصورة الايجابية لها!.
لكن ذلك ايضا يبين مدى التحرر من القيود الدينية والاجتماعية التقليدية لدى الاسر المتنفذة في المجتمعات المستبدة ومن بينها اسرة اوفقير التي كانت تعيش في وضع مشابه لعائلة الملك حتى حصول نكبتها والتي تذكرنا هنا بنكبة البرامكة في عهد هارون الرشيد،فرغم الخدمات التي قدمت له من قبلهم الا ان الحكم يستوجب احيانا قتل المنافسين مهما كانت حجم اعمالهم ودرجة قربهم كخوف دائم من فقدانه وبالتالي تكون التضحية بالمقربين خيرا من التضحية بالملك!.
وفي الفصل الخامس وخلال اثنتي عشرة صفحة فقط تلقي الضوء على قضية تصفية المعارض الرئيسي للنظام في باريس،الزعيم الوطني مهدي بن بركة عام 1965 ورغم ان معلوماتها قليلة عن القضية الا انها تتجاهل قرارات العدالة الفرنسية في تحميل زوجها مسؤولية تصفيته لما عرف عنه من قيامه بأعمال وحشية بررتها انها ضرورية لخدمة النظام !والتي ذكرت من بينها قمع المتظاهرين في نفس العام،ولكنها تلقي التهمة وبصورة ضمنية على الحسن الثاني كونه هو المسؤول الاول عن المغرب وزوجها ماهو الا منفذ لقراراته ورغباته،وقد اوجزت بحديثها عن تفكيك زوجها لجميع احزاب المعارضة ولكنها تلقي باللائمة على العقلية المغربية المثيرة للاستغراب حسب تعبيرها،كون ان رجالات المعارضة لم يصمدوا بوجه الطغيان الملكي،وهذا حديث يثير الاستغراب فالقمع الوحشي والذي يتميز بأنعدام كل مظاهر المروءة والفروسية هي من ابرز صفات الانظمة القمعية في القرن العشرين وبالتالي يكون طبيعيا كما جرى لصاحبة المذكرات نفسها ان يتم اعتقال الابرياء القريبين من المذنب السياسي ويجري اعدامهم او تعذيبهم بمنتهى الاذلال وبالتالي يجعل عذر بعض هؤلاء قويا امام نذالة السلطة الحاكمة وهذا يؤدي الى ضعف حجة المؤلفة والتي تصف في فقرات قريبة طريقة الانتخابات في المغرب فترة الستينات والتي كان يشرف عليها زوجها عندما تسأله عن نتائجها قبل حدوثها والتي يجيبها مع ابتسامة ان النتيجة معروفة هي 99.99%!!.
دفاع فاطمة عن زوجها في تبرير اعماله القذرة دافعها انه زوجها الذي تختلف معاملته لها وفي الدفاع عنه ايضا محاولة للدفاع عن نفسها وبالتالي ان رأيها هنا لايعتمد عليه اطلاقا كون ان داخل البيت شيء واثناء العمل وهو الذي لايشركها بالتاكيد به هو شيء اخر،ولكن برائتها من الاشتراك في جرائمه المتعددة هي ظاهرة للعيان وبدون لبس او شك،ويمكن رؤية التناقض في قولها عن زهده في اموال الدولة ! رغم ان الحسن الثاني يعرض عليه ذلك،ولكن من فلتات قلمها ومن بين السطور(ص106) تذكر كيف يراهن بمبالغ هائلة بالبوكر مع اصدقائه وهي مبالغ لم يستطع احد يجعله يدفعها وسواء دفعها ام لم يدفعها فأنه في الحالتين مذنب ووصفها لطريقة معيشتها التي تتصف بالبذخ الشديد هو مناقض لاقوالها خاصة وقد ذكرت انه في قصرها عندما القي القبض عليها كان يوجد لديها 22 خادم في البيت!!يعني اذا كانت نزاهة زوجها بتلك الصورة فكيف تكون سرقة المال العام؟! واذا كانت طرقه الوحشية في قمع الشعب وقتل الزعماء الوطنيين هي ضرورية ولخدمة النظام فكيف تكون الخيانة لامانة خدمة الوطن والمواطن وهو وزير للداخلية والرجل الثاني في الدولة بعد الجلاد الاكبر فيها الملك!.
تصفية المناضل بن بركة كان الجريمة الاكثر بشاعة في تاريخ النظام المغربي ووصمة عار ابدية،وقد اشترك في الجريمة عملاء فرنسيين ايضا وجرى تعذيبه بشكل وحشي افقده حياته ثم جرى اذابة جسده في حوض من التيزاب وحسب قول من اشترك في الجريمة فأن من قام بقتله اوفقير والعقيد الدليمي وقد انتقمت العدالة الالهية اشد انتقام منهما وعلى يد معبودهما الحسن الثاني!! وتلك سنة الحياة في كون القتلة يقتلون بعضهم البعض ول بعد حين!. وقد وصفت حياته باللامبالاة بعد تلك الجريمة وهي ناتجة من تعذيب الضمير له خاصة وان اتهام الرأي العام له كان مطلقا مع شهرة ذلك،وبالتالي لم يعد لديه مجالا للنكران او الابتعاد عن دائرة الحكم بعد ان اوغل بالجريمة كبقية الجلادين الذين لايجدوا معنى للحياة سوى ممارسة المزيد من الاعمال الشريرة التي تكون في الغالب وسائل ذاتية للتعبير عن تعذيب النفس بطريقة مرضية ولكن من خلال ايقاع المزيد من العذاب بالاخرين!.
تحدثت فاطمة عن محاولة انقلاب قصر الصخيرات عام 1971 والتي قام بها بعض الضباط والجنود المغاربة بعد ان طفح الكيل بهم من جراء القمع الوحشي للنظام الملكي واذلاله الشعب بشكل فظيع مع سيطرة حفنة من السراق والقتلة وتحت سمع وبصر الملك على مقاليد الامور في البلاد،وكادت العملية ان تنجح لولا اختباء الملك واوفقير وبعض اعوانهما في المغاسل وقد ارتكب الانقلابيون خطأ قاتلا عندما تركوا القصر وتوجهوا للعاصمة وعندها استرجع النظام زمام الامور بسرعة وجرت تصفية القادة العسكريين بسرعة وبوحشية كما هي العادة وعندها اصبحت العلاقة اكثر شكوكا بين الطرفين:الملك واوفقير الذي قام بتصفية زملائه الجنرالات الذين قضى معهم فترات طويلة من حياته في العمل معهم.
حاول اوفقير مع ضباط اخرون القيام بأنقلاب اخر خوفا من انتقام الملك الذي لم يترك لشكوكه مجالا للصداقة والاطمئنان لمرؤوسيه،فكانت المحاولة الفاشلة في آب 1972 هي الضربة القاصمة التي قضت على كل مبادرة رئيسية للقضاء على النظام الملكي وكانت نهاية الجنرال اوفقير مأساوية بعد ان اتهم بقيادتها،وبذلك قضى الحسن الثاني على كل جلاديه وبفترات متباعدة ولم يبقى سوى قلة ذكرت فاطمة بعضا منهم وبأعمالهم الاجرامية.
الانتقام من اسرة بريئة:
بعد ذلك بدأت رحلة العذاب الكبرى للسيدة فاطمة واولادها الستة(ولدان واربع فتيات)واكبرهم كانت بنت عمرها 19 واصغرهم طفل عمره 3 سنوات!بالاضافة الى امرأتين من اقاربهما الاوفياء اللتان بقيتا على اخلاصهما للاسرة بينما تركهما اقرب المقربين بسبب الخوف من انتقام النظام وارهابه اللامحدود،ومهما تكن الاسباب في الاعتقال وهي بين الشك في معرفة المتآمرين الى معرفة اسرار اوفقير الى اهانة الملك بسبب قتله لوالدهم،كل ذلك لايبرر اطلاقا اعتقال عائلته فضلا عن تعذيبهم بوحشية يندر حدوثها من ملك يدعي الاسلام والانتساب العلوي وغير ذلك من التسميات والادعاءات الفارغة التي لاقيمة لها امام تلك الحقائق المرعبة.
تحولت حياة الاسرة بين ليلة وضحاها بين النعيم والثراء الفاحش الى السجون والمعتقلات السرية الرهيبة للحسن الثاني والتي يطلق عليها تهذبا اسم حدائق الملك! وهو الاسم الذي اختارته فاطمة اسما لكتابه الذي يروي ذكرياتها الاليمة.
لم يعبأ الملك الطاغية ولا اعوانه بحياة تلك الاسرة الصغيرة ولم تكن في قلوبهم المتحجرة اية رحمة عليهم لمدة 15 سنة في السجن حتى تلاه الهروب الشهير عام 1987 الذي لولاه لبقوا الى نهايتهم المحتومة! ثم اتصال الهاربين ببعض المحامين من فرنسا الذين استطاعوا توفير الحماية الجزئية لهم وتم تحويلهم الى اقامة جبرية انهيت عام 1991 وبالتالي قضت تلك الاسرة 19 عاما من العذابات الرهيبة والتي وصفتها بالتفصيل البديع وبأسلوب جذاب رغم الحزن والالم الذي يلف شعور كل انسان عند قرائته تلك القصص الوحشية من عذاب ابرياء استطاعوا وبفضل الله تعالى ان يخرجوا الى الحياة وان يفضحوا ممارسات النظام الاجرامية الرهيبة وان يكشفوا عن مدى نذالة وقذارة الحسن الثاني ومعاونيه الذين لم تنزل رحمة في قلوبهم على اطفال صغار دون يتذكروا قدرة الباري عزوجل عليهم يوم لا ينفع الندم ولا يوجد فيه حسب او نسب وكل انسان يحمل اعماله في رقبته ويضعها امام خالقه او حتى امام التاريخ الانساني عندما يذكر سيرتهم المخزية،ولكن تبقى في النهاية العقول المتعفنة في تبجيل المتعفنين الذين لاقيمة لهم امام الحق والعدل والحرية من خلال عدم تصديق تلك القصص او التشكيك فيها في دلالة واضحة على مدى الانحطاط الذي يلف عقول وقلوب ملايين البشر في الوقت الحاضر وتلك الحقيقة المؤلمة لا تنطبق على بلد بحد ذاته بل تلك مآساة عامة في كل البلاد والامثلة عديدة لامجال لذكرها هنا ولكن يمكن لمن يريد ان يمتلك عقلا حرا ان ينقب عنها.
الجريمة البشعة التي ذكرت تفاصيلها في معاناة تلك الاسرة البريئة تبرز لنا الجانب الظلامي في الانظمة العربية المستبدة التي فقدت كل قيم الانسانية ومعانيها السامية وبذلت في سبيل كرسي الحكم كل طاقات شعوبهم الجبارة والتي تحولت في النهاية الى شعوب مستعبدة تخاف ان تسأل عن ذوي ضحاياهم فكيف عن شهدائهم!!.
استفادت السيدة فاطمة وابنائها في فترة قصيرة في تثقيف انفسهم خلال فترات الحجز الاولى وقد جاء ذلك من خلال توفير الكتب اللازمة لهم،ولكن بعد فترة منعوا منها ومن ابسط حقوق السجناء!وقد شرحت ذلك بالتفصيل الذي يجعل القارئ يمتلأ حقدا على الملك ونظامه الارهابي الفاسد،وكان تصويرها الواقعي لحياتهم بالرغم من الالم والحزن هو في غاية الصدق والعفوية بحيث كان يحوي على دروس وعبر في الصبر على المآساة ومحاولة التشبث بالحياة بالرغم من قسوتها،وقد كان تصويرها متفوقا على الكثير من الكتب الادبية الخيالية التي تقارب نفس المضمون،وقد كان تصويرها للمشاعر الانسانية التي جمعت تلك الاسرة المنكوبة هو في غاية العذوبة وبأسلوب جميل وسلس،وكان تصويرها لقسوة الحراس في محله خاصة وان الكثير من امثال هؤلاء في بلدان العالم الثالث هم قمة في الهمجية والتخلف ولايراعون ابسط حقوق السجناء،وكيف يراعون اذا كان جلادهم الملك الفاقد لابسط المشاعر الانسانية في الرحمة تجاه تلك الاسرة ،هو يرفض العفو عنهم او حتى اطلاق سراحهم وتسفيرهم لخارج البلاد كما طلب منه ذلك بعض الحكام العرب وشاه ايران وتكون نتيجة تلك المساعي الحميدة هي مزيدا من القسوة والاهانة في ردة فعله الغريبة،ولكن اصعب ما في حياة تلك الاسرة هي سجن اطفال صغار وخاصة طفلهم الاصغر(عبد اللطيف 3سنوات)وترعرعه في السجن في عملية تتصف بمدى ما وصل اليه هؤلاء المتوحشون القساة من انحطاط والذي يملئون الارض ظلما وعدوانا التي لم تخلي منهم في اي وقت وكأنها سنة طبيعية للبشر!.
ومن اسوأ فترات سجنهم الطويلة هي فصلهم عن بعضهم البعض لسنوات بغية القضاء عليهم ولكن ارادة الله تعالى تشاء ان تجعلهم خير سفراء للمضطهدين في بلدهم،وخاصة المنسيون منهم والذين لا نعلم عنهم شيئا.
قصص السجن كثيرة ومن الضروري قرائتها بالتفصيل حتى يتوحد شعورنا مع شعور هؤلاء المعذبون ومن يدري لعله تخفيفا عن حزننا عما جرى لهم او تخفيفا من الذنب العظيم في بقاء امثالهم في سجون الحياة التعيسة!...وقد كانت قصة محاولة انتحار الطفل الاصغر وعذابات اخواته المرضى ومنع الدواء عنهن فضلا عن الغذاء والملابس الضرورية وغيرها من مستلزمات الحياة الاخرى هي من اقصى الصور،ولا ننسى الام التي تحملت الكثير من العذابات لاجل البقاء مرفوعة الرأس امام ازلام طاغية ملعون الى الابد وذكراه الان في مزبلة التاريخ.
من ابرز افكار تلك المأساة هي مقدار القوة الخفية للانسان في الصبر على المحن التي يخلقها له اخيه الانسان! ففي تلك القوة قدرة هائلة على تحمل اتعس الظروف واكثرها صعوبة ،والافكار الناتجة من سجن الاجساد هي تبقى مختلفة بشكل كبير عن عالم خارج السجن الذي يحياه الانسان بدون قيود جسدية،والحاجة المأساوية لافراد تلك الاسرة جعلتهم يخترعون الكثير من الاشياء البسيطة التي تدل على عبقرية الانسان في تلائمه مع الظروف المحيطة به في بيان تطبيقي لمقولة الحاجة ام الاختراع!وتذكر هنا نموذجا مثاليا في الاصرار على البقاء والتحرر من العذابات المتتالية في محاولة الهروب من السجن والتي انتهت بعد شهرين من الاعداد لها وبوسائل بدائية وعندما خرج بعضا منهم من السجن كان توجههم الى سفارات الدول الغربية بعيدا عن سفارات الدول العربية او الاسلامية التي لاتختلف انظمتها القمعية عن النظام المغربي وهي بادرة تجعل الجميع يقفون معها!.
تبقى في الختام رأي فاطمة حول تأييدها للنظام الملكي في المغرب وضرورة ديمومته رغم المآسي الناشئة منه لها ولاسرتها!وهذا غريب بعض الشيء ولكنه متوقع منها كونها تربت في محيط على طاعة النظام الملكي وحبه،واسباب ذلك في نظرها تعود الى اختلاف فئات الشعب المغربي وتقاليده الاجتماعية من منطقة لاخرى وبالتالي من الصعوبة بمكان ان يوحد ذلك الشعب المختلف الاعراق نظام جمهوري ديمقراطي فالاختلاف متباين الى درجة حادة من وجهة نظرها!...وفي الحقيقة ان ذلك رأي متهافت وضعيف امام الحقائق السياسية لعدد كبير من البلدان لان غالبية البلدان المستقرة وذات النظام الجمهوري تتكون شعوبها من فئات وطبقات تكون مختلفة بمراحل عن الشعب المغربي ولكنها موحدة بفضل القانون وطاعته والتزام الجميع بالخيار الديمقراطي او حتى الاستبداد الجمهوري وهو قريب للاستبداد الملكي وبذلك اعتقد ان تلك النظرة القاصرة هي منتشرة لدى عدد كبير من الشعوب التي تحكمها نظم ملكية محافظة وليس في المغرب فحسب...
وتبقى تلك القصة المأساوية حقيقة دامغة لخيانة اصحاب المسؤولية في المغرب وخاصة الملك المستبد الحسن الثاني،بل هي وصمة عار في جبين الانسانية المعذبة تحت سياط هؤلاء الحثالة المحترمون عندما تقف مكتوفة الايدي!....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق