اسطورة التغيير الفوقي
القسم التاسع والعشرون
5- السودان:
اكبر البلاد العربية مساحة،وعدد سكانه يقارب الاربعين مليونا(2009)،وغني بمختلف الثروات وخاصة الزراعية بحيث يصنف ضمن احد ثلاث بلدان يمكن ان تحل في المستقبل اي مشكلة غذائية في العالم اذا استغلت اراضيها الشاسعة ،والبلدان الاخران هما استراليا وكندا،وهو دليل قوي على ضخامة حجم الاراضي الزراعية الخصبة وتوفر المياه والنفط والغاز بكميات كبيرة مع القدرات البشرية.
لكن ! مع الاسف الشديد يصنف السودان ضمن خانة الدول الفاشلة في العالم واكثرها تخلفا وفسادا بل والاغرب من ذلك ان الصراعات الدموية ونتائجها تركت الكثيرين فيه يموتون بسبب الجوع والمرض!...وكل ذلك بسبب الانقلابات العسكرية المتتالية التي هي نتاج التغيير الفوقي والذي يسبب كل مظاهر التخلف والجهل وانتشار الفساد وسقوط الضحايا وقمع الحريات وانتهاك حقوق الانسان.
منذ استقلال السودان عن بريطانيا وانفصالها عن مصر عام 1956،لم تترك لها الانقلابات العسكرية الدموية فرصة العيش في ظلال الحكم المدني الديمقراطي التعددي،خاصة وان في السودان تقاليد ديمقراطية مغروسة في المجتمع بحيث يتفوق على الكثير من البلاد العربية،ونلاحظ ذلك برغم مظاهر التخلف الواضحة عليه والحكم العسكري الطويل،الا ان المجتمع احتفظ بكل مظاهر التعددية السياسية من احزاب ونقابات وصحف معارضة وكل مؤسسات المجتمع المدني رغم الضغوطات العسكرية عليه،وانتج كل ذلك في تكوين الانسان السوداني،قدرة كبيرة على الحوار والتحليل السياسي وخبرة طويلة في اسلوب ادارة منظمات المجتمع المدني ومن ضمنها الاحزاب،وحتى الحكم العسكري برغم قسوته الظاهرية الا انه يعتبر اكثر تطورا في تعامله من المعارضة واحزابها من الانظمة العربية المجاورة التي وصلت انتهاكاتها الى مراحل عالية من الوحشية وانعدام الرؤية الوطنية الواسعة،الا ان الصفات تلك بقيت في هامش كبير محصورة ضمن نطاق الاقاليم الشمالية والتي تسكنها اغلبية عربية مسلمة،تختلف عن الجنوب والذي تعيش فيه اعراق مختلفة ويعتنق اغلبية سكانه اديان مختلفة ومن ضمنها الدين الاسلامي،هذا بالاضافة الى الاقاليم الاخرى وخاصة في شرق السودان وغربه ومن ضمنها اقليم دارفور المضطرب وهي تختلف عن الشمال فقط في الاصول العرقية وتشترك معه في الدين الذي لم يمنع عنها التمييز والاضطهاد بل والابادة الجماعية!.
عندما استقل السودان عام 1956،كانت فيه كل مظاهر الحياة الديمقراطية رغم بدائيتها،وكان الحكم المدني قائما رغم انه لم ينفع من التخفيف من حدة الصراعات بين الاحزاب مما ادى الى تدخل الجيش في انقلاب الفريق ابراهيم عبود في تشرين الثاني(نوفمبر)1958 والذي اوقف العمل بالدستور وحل الاحزاب ومنع كل مظاهر المعارضة السياسية والتجمعات ومنح له وللحكومة العسكرية كل الصلاحيات التي لم تؤدي الى تقدم سياسي واقتصادي في البلاد بل كما هو متوقع من الانقلابات العسكرية،حدث تراجع في مختلف الاصعدة وتسبب في استمرار الحرب الاهلية في الجنوب خاصة في ظل القرارات التعسفية والتي رفضها الجنوبيون المسيحيون والاحيائيون،ومع استمرار الرفض الشعبي لحكمه الديكتاتوري،سقط النظام العسكري بثورة شعبية لم تطول في تشرين اول(اكتوبر)1964 واعادت الحكم المدني الى السلطة مرة اخرى ليبدأ عهد جديد من الجمهورية الثانية،ولكن الخلافات السياسية واستمرار الصراع الدموي مع المتمردين في الجنوب والذي لم يحل جذريا،ادى كل ذلك الى تعطيل الجهود في اعادة بناء الحياة السياسية المستقرة والتي تؤدي الى استقرار سياسي واقتصادي في البلاد،كل ذلك ادى الى عدم الاستفادة من التجربة الاولى للحكم المدني قبل الديكتاتورية العسكرية الاولى،مما مهد الطريق الى الضباط المغامرين والذين تستهويهم لعبة الانقلابات والتي كانت تشهد رواجا في عقدي الستينات والسبعينات،كل ذلك ادى الى قيام الجيش بحركته الثانية في آيار(مايو)1969 بقيادة العقيد جعفر النميري، والتي ادت الى قيام ديكتاتورية عسكرية تلونت بالصبغة اليسارية وهي الموضة السائدة في ايام انتشار المد اليساري والاشتراكي بالخصوص بعد الحرب العالمية الثانية.
بدأ الحكم الجديد من التحالف مع القوى الشيوعية واليسارية،وارتكب الكثير من الخروقات والمجازر والتي انتهت بفك التحالف وتصفية الحلفاء في وقت لاحق خاصة بعد اتهامهم بالمشاركة في المحاولة الانقلابية الثانية عام 1971،وهي نتيجة طبيعية حيث تعمل الانقلابات على جذب اكبر عدد من الحلفاء السياسيين لبناء قوتها الذاتية بغية فرض السيطرة على الدولة والمجتمع،وعندما تشعر ان قوتها اصبحت اقوى من الجميع وبمقدرتها الاستغناء عن خدماتهم ! حينها نجد بداية التصفية لكل الرموز السياسية التي عملت بوعي وبدون وعي مع النظم الشمولية في بداية تسلطها،ومعونة الظالمين ايا كانوا تكون نهايتها تعيسة بكل تأكيد والشواهد التاريخية تفرض علينا نماذج متكررة ولكن الانسان غالبا ما يهمل التاريخ وكأنه مخلوق جديد على الكرة الارضية،وبالتالي نجد ان المآسي تستمر في التفريخ الذاتي بحيث لا نشعر بها الا عندما تقع الكوارث وحينها لا ينفع الندم!.
تفرغ الحكم الجديد في البداية لحل مشكلة الصراع في الجنوب والتي انتهت الحرب عام 1972 وكما كان متوقعا ان الاتفاق مع الحكومة العسكرية لن يستمر طويلا،لان طبيعة الحكم العسكري الديكتاتوري هو عدم قبول المشاركة في الحكم،فكيف يسمح لمتمردين سابقين يطلبون المشاركة في الحكم مع ادارة مناطقهم وفق الحكم الذاتي! كل ذلك مع اقرار الحكومة لنظام العقوبات الاسلامية التي طبقت بطريقة مشوهة ومن من؟...النميري وزمرته الفاسدة! والتي رفضتها حتى احزاب المعارضة الشمالية مما تسبب في اندلاع الحرب الاهلية في الجنوب ولكن هذه المرة بقسوة اشد وفترة زمنية اطول(1983-2005) مما ادى الى مقتل وجرح ولجوء الملايين من ابناء الجنوب ومناطق اخرى، في معركة خاسرة سلفا والتي فقد السودان فيها الجهود والاموال التي كانت من الممكن لو اديرت بطريقة مهنية وبشفافية لحققت للبلاد تطورا في كافة المجالات.
ورغم ولاء النميري الى الغرب بعد ان تحول من التحالف مع الكتلة السوفييتية،الا ان ذلك لم يمنعه من ركوب الموجة الدينية والتي كشفت حقيقة التلون السياسي وفق الظروف للنظام الحاكم وهي صفة ملازمة للانقلابات العسكرية والتي يتحول اصحابها بسهولة اكثر من الانظمة الشمولية الاخرى وفق منهج آيديولوجي متشدد والامثلة كثيرة على هذا التبدل وفق الاهواء لدى الطبقة العسكرية الحاكمة ومن بينها مصر وليبيا وباكستان واليمن وغيرها ،ونتيجة للتغير الذي حصل،منح النميري ونظامه على معونات خارجية ضخمة لم يستثمرها في تنمية البلاد وفق المعايير الاقتصادية الطبيعية،بل استخدمها في تثبيت حكمه الذي تحول الى احد اكثر الانظمة فسادا مما ادى الى تدهور الاوضاع الاقتصادية مع استمرار الحرب في الجنوب والتي خلقت الكثير من المآسي ،كل ذلك ادى الى قيام ثورة شعبية عارمة ادت بمعونة الجيش بقيادة المشير سوار الذهب الى الاطاحة بالنميري ونفيه الى مصر في نيسان(ابريل) 1985 والتي فتحت ابواب الحكم المدني من جديد في هذا البلد الذي تتصارعه الاحزاب والاقليات واطماع الدول الكبرى للهيمنة عليه.
كان من حسن الحظ ان قائد الجيش سوار الذهب، والذي فاجئ الجميع بعدم التمسك بالحكم وتنازل طوعا عنه في بادرة تعتبر من اندر النوادر في العالم العربي !!.
بعد اجراء الانتخابات الحرة في عام 1986 والتي اوصلت الزعيم السياسي الشهير الصادق المهدي الى رئاسة الوزراء مع مشاركة الاحزاب السياسية الاخرى،بدأ عهد جديد يقوم على الديمقراطية الحقيقية العاملة على خدمة السودان وتخليصه من كل المشاكل بما فيها الحرب الاهلية ولكن وفق منهج وطني سلمي،وبمشاركة من غالبية القوى السياسية الحاكمة.
الخلافات السياسية التي جرت في عهد الديمقراطية الثالثة هي طبيعية وكان من الممكن لو قدر لها ان تحل الكثير من مشاكل البلاد،ورغم الصعوبات الاقتصادية واستمرار الحرب في الجنوب الا ان وجود حكومة ديمقراطية منتخبة في العالم العربي او في القارة الافريقية كان شيئا غريبا في محيط استبدادي يختلف في الفروع ولكن الجذر واحد! ، وكان على الحكومة ان تعمل على اشاعة الاستقرار بسرعة في البلاد حتى تقوم بتقليص قوة الجيش السياسية وجعلها مهنية بحتة مهمتها محصورة في الدفاع والامن القومي،وبذلك ضيع السياسيون فرص نادرة في عالم متخلف ثالث!،فكانت النهاية الطبيعية هي الانقلاب العسكري الثالث وبداية الديكتاتورية العسكرية الثالثة التي مازالت مستمرة بالحكم بقيادة العميد عمر البشير في 30\6\1989 والتي اجهضت التجربة الديمقراطية الوليدة والتي لم تستمر اكثر من ثلاث سنوات،مع اعتقال معظم القادة السياسيين واتباعهم الرئيسيين.
القسم التاسع والعشرون
5- السودان:
اكبر البلاد العربية مساحة،وعدد سكانه يقارب الاربعين مليونا(2009)،وغني بمختلف الثروات وخاصة الزراعية بحيث يصنف ضمن احد ثلاث بلدان يمكن ان تحل في المستقبل اي مشكلة غذائية في العالم اذا استغلت اراضيها الشاسعة ،والبلدان الاخران هما استراليا وكندا،وهو دليل قوي على ضخامة حجم الاراضي الزراعية الخصبة وتوفر المياه والنفط والغاز بكميات كبيرة مع القدرات البشرية.
لكن ! مع الاسف الشديد يصنف السودان ضمن خانة الدول الفاشلة في العالم واكثرها تخلفا وفسادا بل والاغرب من ذلك ان الصراعات الدموية ونتائجها تركت الكثيرين فيه يموتون بسبب الجوع والمرض!...وكل ذلك بسبب الانقلابات العسكرية المتتالية التي هي نتاج التغيير الفوقي والذي يسبب كل مظاهر التخلف والجهل وانتشار الفساد وسقوط الضحايا وقمع الحريات وانتهاك حقوق الانسان.
منذ استقلال السودان عن بريطانيا وانفصالها عن مصر عام 1956،لم تترك لها الانقلابات العسكرية الدموية فرصة العيش في ظلال الحكم المدني الديمقراطي التعددي،خاصة وان في السودان تقاليد ديمقراطية مغروسة في المجتمع بحيث يتفوق على الكثير من البلاد العربية،ونلاحظ ذلك برغم مظاهر التخلف الواضحة عليه والحكم العسكري الطويل،الا ان المجتمع احتفظ بكل مظاهر التعددية السياسية من احزاب ونقابات وصحف معارضة وكل مؤسسات المجتمع المدني رغم الضغوطات العسكرية عليه،وانتج كل ذلك في تكوين الانسان السوداني،قدرة كبيرة على الحوار والتحليل السياسي وخبرة طويلة في اسلوب ادارة منظمات المجتمع المدني ومن ضمنها الاحزاب،وحتى الحكم العسكري برغم قسوته الظاهرية الا انه يعتبر اكثر تطورا في تعامله من المعارضة واحزابها من الانظمة العربية المجاورة التي وصلت انتهاكاتها الى مراحل عالية من الوحشية وانعدام الرؤية الوطنية الواسعة،الا ان الصفات تلك بقيت في هامش كبير محصورة ضمن نطاق الاقاليم الشمالية والتي تسكنها اغلبية عربية مسلمة،تختلف عن الجنوب والذي تعيش فيه اعراق مختلفة ويعتنق اغلبية سكانه اديان مختلفة ومن ضمنها الدين الاسلامي،هذا بالاضافة الى الاقاليم الاخرى وخاصة في شرق السودان وغربه ومن ضمنها اقليم دارفور المضطرب وهي تختلف عن الشمال فقط في الاصول العرقية وتشترك معه في الدين الذي لم يمنع عنها التمييز والاضطهاد بل والابادة الجماعية!.
عندما استقل السودان عام 1956،كانت فيه كل مظاهر الحياة الديمقراطية رغم بدائيتها،وكان الحكم المدني قائما رغم انه لم ينفع من التخفيف من حدة الصراعات بين الاحزاب مما ادى الى تدخل الجيش في انقلاب الفريق ابراهيم عبود في تشرين الثاني(نوفمبر)1958 والذي اوقف العمل بالدستور وحل الاحزاب ومنع كل مظاهر المعارضة السياسية والتجمعات ومنح له وللحكومة العسكرية كل الصلاحيات التي لم تؤدي الى تقدم سياسي واقتصادي في البلاد بل كما هو متوقع من الانقلابات العسكرية،حدث تراجع في مختلف الاصعدة وتسبب في استمرار الحرب الاهلية في الجنوب خاصة في ظل القرارات التعسفية والتي رفضها الجنوبيون المسيحيون والاحيائيون،ومع استمرار الرفض الشعبي لحكمه الديكتاتوري،سقط النظام العسكري بثورة شعبية لم تطول في تشرين اول(اكتوبر)1964 واعادت الحكم المدني الى السلطة مرة اخرى ليبدأ عهد جديد من الجمهورية الثانية،ولكن الخلافات السياسية واستمرار الصراع الدموي مع المتمردين في الجنوب والذي لم يحل جذريا،ادى كل ذلك الى تعطيل الجهود في اعادة بناء الحياة السياسية المستقرة والتي تؤدي الى استقرار سياسي واقتصادي في البلاد،كل ذلك ادى الى عدم الاستفادة من التجربة الاولى للحكم المدني قبل الديكتاتورية العسكرية الاولى،مما مهد الطريق الى الضباط المغامرين والذين تستهويهم لعبة الانقلابات والتي كانت تشهد رواجا في عقدي الستينات والسبعينات،كل ذلك ادى الى قيام الجيش بحركته الثانية في آيار(مايو)1969 بقيادة العقيد جعفر النميري، والتي ادت الى قيام ديكتاتورية عسكرية تلونت بالصبغة اليسارية وهي الموضة السائدة في ايام انتشار المد اليساري والاشتراكي بالخصوص بعد الحرب العالمية الثانية.
بدأ الحكم الجديد من التحالف مع القوى الشيوعية واليسارية،وارتكب الكثير من الخروقات والمجازر والتي انتهت بفك التحالف وتصفية الحلفاء في وقت لاحق خاصة بعد اتهامهم بالمشاركة في المحاولة الانقلابية الثانية عام 1971،وهي نتيجة طبيعية حيث تعمل الانقلابات على جذب اكبر عدد من الحلفاء السياسيين لبناء قوتها الذاتية بغية فرض السيطرة على الدولة والمجتمع،وعندما تشعر ان قوتها اصبحت اقوى من الجميع وبمقدرتها الاستغناء عن خدماتهم ! حينها نجد بداية التصفية لكل الرموز السياسية التي عملت بوعي وبدون وعي مع النظم الشمولية في بداية تسلطها،ومعونة الظالمين ايا كانوا تكون نهايتها تعيسة بكل تأكيد والشواهد التاريخية تفرض علينا نماذج متكررة ولكن الانسان غالبا ما يهمل التاريخ وكأنه مخلوق جديد على الكرة الارضية،وبالتالي نجد ان المآسي تستمر في التفريخ الذاتي بحيث لا نشعر بها الا عندما تقع الكوارث وحينها لا ينفع الندم!.
تفرغ الحكم الجديد في البداية لحل مشكلة الصراع في الجنوب والتي انتهت الحرب عام 1972 وكما كان متوقعا ان الاتفاق مع الحكومة العسكرية لن يستمر طويلا،لان طبيعة الحكم العسكري الديكتاتوري هو عدم قبول المشاركة في الحكم،فكيف يسمح لمتمردين سابقين يطلبون المشاركة في الحكم مع ادارة مناطقهم وفق الحكم الذاتي! كل ذلك مع اقرار الحكومة لنظام العقوبات الاسلامية التي طبقت بطريقة مشوهة ومن من؟...النميري وزمرته الفاسدة! والتي رفضتها حتى احزاب المعارضة الشمالية مما تسبب في اندلاع الحرب الاهلية في الجنوب ولكن هذه المرة بقسوة اشد وفترة زمنية اطول(1983-2005) مما ادى الى مقتل وجرح ولجوء الملايين من ابناء الجنوب ومناطق اخرى، في معركة خاسرة سلفا والتي فقد السودان فيها الجهود والاموال التي كانت من الممكن لو اديرت بطريقة مهنية وبشفافية لحققت للبلاد تطورا في كافة المجالات.
ورغم ولاء النميري الى الغرب بعد ان تحول من التحالف مع الكتلة السوفييتية،الا ان ذلك لم يمنعه من ركوب الموجة الدينية والتي كشفت حقيقة التلون السياسي وفق الظروف للنظام الحاكم وهي صفة ملازمة للانقلابات العسكرية والتي يتحول اصحابها بسهولة اكثر من الانظمة الشمولية الاخرى وفق منهج آيديولوجي متشدد والامثلة كثيرة على هذا التبدل وفق الاهواء لدى الطبقة العسكرية الحاكمة ومن بينها مصر وليبيا وباكستان واليمن وغيرها ،ونتيجة للتغير الذي حصل،منح النميري ونظامه على معونات خارجية ضخمة لم يستثمرها في تنمية البلاد وفق المعايير الاقتصادية الطبيعية،بل استخدمها في تثبيت حكمه الذي تحول الى احد اكثر الانظمة فسادا مما ادى الى تدهور الاوضاع الاقتصادية مع استمرار الحرب في الجنوب والتي خلقت الكثير من المآسي ،كل ذلك ادى الى قيام ثورة شعبية عارمة ادت بمعونة الجيش بقيادة المشير سوار الذهب الى الاطاحة بالنميري ونفيه الى مصر في نيسان(ابريل) 1985 والتي فتحت ابواب الحكم المدني من جديد في هذا البلد الذي تتصارعه الاحزاب والاقليات واطماع الدول الكبرى للهيمنة عليه.
كان من حسن الحظ ان قائد الجيش سوار الذهب، والذي فاجئ الجميع بعدم التمسك بالحكم وتنازل طوعا عنه في بادرة تعتبر من اندر النوادر في العالم العربي !!.
بعد اجراء الانتخابات الحرة في عام 1986 والتي اوصلت الزعيم السياسي الشهير الصادق المهدي الى رئاسة الوزراء مع مشاركة الاحزاب السياسية الاخرى،بدأ عهد جديد يقوم على الديمقراطية الحقيقية العاملة على خدمة السودان وتخليصه من كل المشاكل بما فيها الحرب الاهلية ولكن وفق منهج وطني سلمي،وبمشاركة من غالبية القوى السياسية الحاكمة.
الخلافات السياسية التي جرت في عهد الديمقراطية الثالثة هي طبيعية وكان من الممكن لو قدر لها ان تحل الكثير من مشاكل البلاد،ورغم الصعوبات الاقتصادية واستمرار الحرب في الجنوب الا ان وجود حكومة ديمقراطية منتخبة في العالم العربي او في القارة الافريقية كان شيئا غريبا في محيط استبدادي يختلف في الفروع ولكن الجذر واحد! ، وكان على الحكومة ان تعمل على اشاعة الاستقرار بسرعة في البلاد حتى تقوم بتقليص قوة الجيش السياسية وجعلها مهنية بحتة مهمتها محصورة في الدفاع والامن القومي،وبذلك ضيع السياسيون فرص نادرة في عالم متخلف ثالث!،فكانت النهاية الطبيعية هي الانقلاب العسكري الثالث وبداية الديكتاتورية العسكرية الثالثة التي مازالت مستمرة بالحكم بقيادة العميد عمر البشير في 30\6\1989 والتي اجهضت التجربة الديمقراطية الوليدة والتي لم تستمر اكثر من ثلاث سنوات،مع اعتقال معظم القادة السياسيين واتباعهم الرئيسيين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق