الموتى يحكمون الاحياء!
يخطئ من يتصور ان الاحياء محكمون
من قبل من يعاصرونه كأنظمتهم الحالية او ادوات السيطرة الشعبية!...كلا ان الموتى
هم الذين يحكموننا بتنظيراتهم واعمالهم وذرياتهم!وما نحن الا سائرون في طرق ومسالك
كتبت وفرضت علينا ان نسير فيها دون ان تكون لدينا القدرة على الاستئصال الجذري
لاعمال السلف!...فبناء الحضارة الانسانية هو تراكمي نتيجة للجهود المشتركة من قبل
الاجيال المتعاقبة.
لقد قيل ان الفكر لا يموت بالاستئصال
الجسدي العنيف...وهذا صحيح بالطبع فالافكار لن تموت بموت
صاحبها بل هي تبقى حية تنمو ككائن طبيعي يسعى للعيش ضمن بيئة تصلح لكل الافكار
والرؤى،وعليه فأنه من الغباء الشديد محاربة فكر ما بأساليب بدائية وفي غاية
الوحشية،والنتيجة النهائية ان تلك الاساليب المحكوم عليها بالفشل سوف تكون عوامل
مساعدة في ادامة الفكر وليس القضاء عليه،بل الغريب في الامر ان اكثر
الافكار شيوعا هي التي حوربت من قبل قوى تفوقها في العتاد والعدة!.
الفكر يضعف ويتلاشى اذا تمت
مزاحمته من قبل افكار جديدة اقوى منه في متانة بناء النص التركيبي وقدرته على
اعطاء الاجوبة الشاملة على كل ما يعترض سبيله من تحديات واشكاليات،وحينها يمكن ازاحته
لاجل غير مسمى،وقد ينتهي به المطاف الى متاحف التاريخ كما حدث للكثير من العقائد
والاديان والمذاهب والافكار البالية!.
الافكار والاعمال السابقة هي تركة
من الموتى لكل الاحياء،وهذه التركة تبقى لتنمو اذا تم تبنيها من قبل معتنقيها او
من لديه رابطة مشتركة،وعليه فأن الموتى سوف يتحكمون بنا من خلال تلك التركة
الثقيلة ايا كان نوعها،ايجابا ام سلبا!...وليس من الخطأ بمكان تجاهل تلك
الايجابيات فهي ناتجة من جهود بشر مخلصون لخدمة الانسانية ولم تأتي لفترة محددة
نسبيا،ومن هنا فأن الفكر والسلوك سوف يكونان عاملان مساعدان لخدمة الحضارة
الانسانية وتقدمها.
تحكم بعد الرحيل!:
ان يتحكم الانسان بمجموعة معينة
من البشر بعد ان تمكن من السيطرة عليهم سواء اكان ماديا ام معنويا،فذلك ليس بالامر
الغريب!وهي دلالة على مقدرة استثنائية بغض النظر عن طبيعتها...اما ان يتحكم بهم
بعد رحيله بفترة قد تكون احيانا طويلة وقد تتسبب بموت الكثيرين منهم فذلك بالامر
الغريب حقا،وقد يكون الاغرب عندما يتحكم بمجموعة من البشر ليست له معهم اية رابطة
سوى الشراكة الانسانية!.
لقد تحكم الكثير من الموتى بقدر الكثير
من الاجيال المعاصرة من خلال سريان افكارهم واعمالهم التي قد يكون بعضها غير مناسب
اساسا لظروفنا المعاصرة!بل ان بعضهم اشعل حروبا ونزاعات حتى قيل في مثال صارخ على
ذلك ان الحرب الاولى اشعلها او تسبب بجزء كبير من اخطائها شليفن القائد العسكري
الالماني الذي توفي قبل اندلاعها ببضعة اعوام نتيجة لتخطيطه العسكري لتلك الحرب
المتوقعة وفق خطته الشهيرة بأسمه!.
ليس مجال التأثير خاص بالحروب
ايضا بل في اشعال الثورات والتمردات المسلحة!...فيمكن الاشارة الى تأثير روسو
وفولتير في اذكاء نار الثورة الفرنسية بعد رحيلهما وقبل انطلاقتها بعقد من
الزمن!... اما في حالة التأثير بدون رابطة،فالمثال واضح في تاثير ماركس على اندلاع
الثورة الروسية وبالتالي تأثيرها على الانظمة الشيوعية التي حكمت اوروبا الشرقية
مع بلدان اخرى في العالم الثالث كالصين وكوريا وفيتنام وكوبا الخ،بل وصل الامر في
ذروة تقدم النفوذ الشيوعي في العالم الى ان ماركس ولينين كانا يحكمان نصف سكان
الارض من القبر وفي دول لم يحلموا يوما ما في زيارتها او التعرف على احوالها!.
من اكثر الامثلة المرعبة عن تحكم
الموتى وسياساتهم التي انتهى عهدها منذ زمن بعيد بمصائر شعوب كبيرة،هو المثال
التركي!...فبعد رحيل اتاتورك عام 1938،تحكم بالبلاد اتباعه وبخاصة المؤسسة
العسكرية تحت اسباب واهية منها انه بطل التحرير من احتلال الحلفاء،وهو امر مستغرب
لانه واجب على كل انسان وطني اما ان نتركه يتحكم بنا على هذا الاساس فذلك مرفوض
وبخاصة اذا كانت قدراته في القيادة المدنية والمستوى الفكري متدنية،هذا بالاضافة
الى الادعاء بأن نهجه هو العصري لبناء البلاد التي بقيت متأخرة الى مابعد الالفية
الثالثة حتى جاء الاسلاميون الجدد عام 2002 واستطاعوا تخليص البلاد بصورة تدريجية
من هذا العبء السياسي المتخلف والثقيل،مما ادى الى تحرير البلاد من قيود الطغمة
العسكرية وحلفاءها السياسيون الفاسدون وتحولت تركيا الى بلد ينمو بسرعة كبيرة في
ظل اقتصاد عالمي متدهور واصبحت لها مكانتها العالية وكل ذلك بسبب التخلص من هيمنة
ذلك الصنم المقدس تحت ستار كثيف من المبالغات والخزعبلات الفارغة!.
ان البلاد المتحررة من سطوة
الموتى هي القادرة على النهوض والاستمرارية وفق متطلبات العصر الراهنة لا ان تعيش
في ظلال الماضي بكل تفاصيله الغامضة والمربكة!.
موتى يحكمون ويتحكمون في العالم
العربي!:
ليس هنالك مجال من الشك في ان
العالم العربي لا يختلف في تلك النقاط المؤثرة عن العالم الخارجي، فالتأثير
المتبادل هو امر طبيعي بين الامم والشعوب،ولكن تبقى درجات الاختلاف النسبية حول
مدى قبول التأثير من عدمه! وكلما كان تأثير النخب المثقفة
اكبر كان قبول التأثير اعظم!.
في حالة الانظمة الملكية التقليدية،فالجميع يتبع اسلاف تلك السلاسل
الحاكمة وبصورة عمياء في الغالب!فالكثير من المؤسسين في الحقيقة هم لصوص وقتلة
وغداري العهود والمواثيق وحفنة من الجهلة والفاسدين والاشرار! ولكن الظروف خدمتهم
في حينها فتحكموا بالبلاد والعباد سواء بصورة مباشرة او غير مباشرة وأورثوا ذلك
المنهج الدموي الى الذرية المخلصة!ويمكن قراءة التاريخ لتبيان الامر بصورة اكثر
تفصيلية للحصول على بشاعة الاستدلال والاستنتاج!ولكن يبقى
السؤال من المحكومون من قبل هؤلاء قادرون على التمييز ليتسنى له القبول والرفض ولو
على مستوى الفكر؟!.
اما في حالة الانظمة الاخرى،فالامر
مشابه مع اختلافات طفيفة!...فتأثير الناصرية مازال مؤثرا وبشكل واضح على قطاعات
واسعة من النخب المثقفة او الطبقات الشعبية بالرغم من الضعف الواضح في الاصول
الفكرية او التاريخ السيء للحكم المتبع لها!...وايضا بعض التيارات القومية او
الانعزالية التي سادت لفترة من الزمن وضعفت بعد ذلك نتيجة لعدم وجود قوى مادية او
متسلطة تساعد على ديمومتها!.
ليس التحكم وقفا على السياسة بل تفرع
الى ابواب اخرى ومنها الادب والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس الخ...ففي الاقتصاد على سبيل المثال
كان التأثير بارزا على المجتمع الغربي من خلال شيوع افكار كينز منذ ان طرحها في
عقد الثلاثينيات،واصبحت مدرسته الفكر الاقتصادي هي السائدة حتى نجاح الفكر
الليبرالي المضاد بزعامة ميلتون اواخر عقد السبعينيات في ازاحتها لثلاث عقود
تقريبا!.
وفي علم النفس شاعت افكار فرويد
واصبحت هي المهيمنة على اغلب الدراسات العلمية التطبيقية لفترة طويلة من الزمن حتى
بعد رحيله،اما في الادب فقد اصبح بعض الادباء مدرسة بحق واصبحت نصوصهم هي المفضلة
بالاضافة الى التأثير البارز على شيوع تلك الافكار وأثرها في التغيير ولو نسبيا في
السياسات الحكومية،مثل غوركي وباسترناك وشولوخوف وتولستوي وديستوفيسكي وغيرهم في
روسيا،والسلسلة الطويلة من الادباء في بريطانيا وامريكا وفرنسا والمانيا وغيرها من
دول الغرب.
اما في الفلسفة فتأثيرها واضح بدون
ادنى شك،فقد لعبوا ادوارا خطيرة تتناسب ومقدرتهم التنظيرية العالية المستوى في
بناء اسس مجتمعات متعددة،والفلاسفة الاغريق والغربيون وبعض فلاسفة الشرق وبخاصة
المسلمون منهم لعبت آثارهم دورا مهما ومازال التأثير واضحا بالرغم من مرور قرون
على رحيلهم،ولسنا بحاجة الى توضيح تفصيلي هنا لان الكتب والموسوعات الفلسفية تكفلت
بتفصيل ذلك!.
ان يتحكم بالبشر موتى تركوا آثارا
جبارة ساهمت في النهضة الكونية فذلك امر مقبول ومستحسن لدى الكثيرين وان كان
الافضل قبول مبدأ المشاركة النسبية،اما ان يتحكم بنا مجموعة من
القتلة واللصوص والمنحرفين بشتى الوسائل فذلك امر مرفوض لا يمكن ان يقبله عقل
انسان سوي!...وحينها وبعد اجراء عملية التمييز والتفاضل،يتم بعدها اثارة النقاش
حول مدى نسبية التحكم المفيد بعد غربلته من آثار الماضي الاسود!.
في النهاية وللحفاظ على التوازن
بين حقوق الماضي والحاضر ومادام مفروض علينا الخضوع لقاعدة التحكم من بعد والتي
تمارسها اجساد غائبة عن الحضور الحالي،ينبغي السماح وفق مساحة نسبية معينة حتى لا
نكون تقليدين بصورة مطلقة ولا نستطيع حينها الحركة بدون اشارة ولو بسيطة من ادوات
الآثار الباقية،ولا نستطيع حينها ان نبدع كي نوصله للاجيال القادمة ايضا!.
هناك 4 تعليقات:
وأضيف لما تفضلت بأختصار هم حكموا حينما خلا فكرنا من رؤية خاصة تلائم تطلعاتنا في العيش الكريم
تمنياتي بدوام التوفيق
تحكم الموتي بالأحياء أمر غريب
كأن البشر يبحثوا دوما عن شيء يقدسوه
المخيف أن الموتى وأفكارهم مهما كانت مجانبة للصواب لكنها تحكم حياتنا وخاصة في مجال الدين
الإدراج رائع جدا
تقبل تحياتي
الفاضلة سراج...تحية طيبة
الموتى الذين يحكومننا بأجسادهم دون فكرهم يجب مراجعة تلك المحكومية ومدى الفائدة منها لاستخلاص الدروس والعبر...
دمت بخير...
الفاضلة احلام...تحية طيبة
بالفعل انه امر غريب وخاص ببني البشر وينبغي مراجعته لوقف تلك التبعية العمياء والا فأن عقولنا سوف تعيش ضمن عصر مخالف للعصر الذي نحيا به!!..
تحياتي الطيبة للحضور الكريم...
إرسال تعليق