الشرارة:
كسرت الاحتجاجات الشعبية في تونس التي وقعت في كانون اول 2010، لاول مرة ومنذ زمن طويل،حاجز الخوف والرعب ليس فقط في هذا البلد بل وفي بقية انحاء العالم العربي الذي اصبح جسده كجثة هامدة ليس فيها اي اثر للروح الانسانية الحرة نتيجة لانعدام القدرة على مواجهة الاستبداد والفساد المتحكمين في اوصاله مهما وصلت درجة الاذلال والاستعباد!.
الشرارة كانت مركبة ولم تكن وحدة بسيطة...تكبر وتتعاظم عادة مع مرور الاحداث فالاولى عندما انطلقت كانت انتحار شاب احتجاجا على البطالة، تبعتها شرارة اكبر منها في تحرك المدينة التي ينتسب اليها،فالشرارة الثالثة هي تحرك المدن الاخرى كتعبير عن رفض مشترك وتفريغ لشحنات الكبت والحرمان والضغط المستمرة في شرارة ثورية تكون عادة بداية انطلاقها هي مطالب شرعية بسيطة لتتحول بسرعة في ظل عدم الاستجابة واستخدام للقوة المفرطة الى نهايتها الطبيعية وهي اما الى ثورة عارمة تزيح كابوس الديكتاتورية الفاسدة المتحكمة بالبلد منذ استقلاله الشكلي عام 1956 واما الى النتيجة الثانية الاكثر شيوعا على مدار التاريخ وهي ثورة غضب مؤقتة لا يستغلها الاحرار والمستضعفين في تطويرها كي تصل الى النهاية المرجوة منها بل يتركونها بدون رعاية وعناية مما يعني اتاحة الفرصة للنظام للقضاء عليها وتطوير قدراته مجددا لاستئصال اي نشاط مستقبلي يكون بداية لشرارة جديدة مما يعني تأخر ظهور اي تحرك جديد لفترة طويلة.
شرارة الاحتجاجات التونسية هي ليست الاولى ولكنها متأخرة في الاستجابة للنداء الابدي لشاعرها الكبير ابو القاسم الشابي في قصيدته الرائعة:ارادة الحياة!...تلك هي دروس التاريخ التي تتكرر بأستمرار ولا يتم الانتفاع منها دائما بالصورة المثلى المرجوة!.
الشرارة:صدمة تاريخية
عند وقوع الحوادث الطبيعية،دائما تكون البداية هي شرارة صغيرة تتوسع لتكتسح كل شيء امامها...هذه هي البداية البسيطة،ومنها تمت الاستعارة الرمزية في استخدام هذا المفهوم في العلوم الانسانية والتي من ضمنها علمي السياسة والتاريخ!...والغريب ان الاستعارة هي مطابقة للحالة الاصلية الموجودة ضمن الحوادث الطبيعية،وهي اقرب لمفهوم الصدمة التاريخية التي تكسر حواجز السكون والركود لتفعل الحياة بشكل حركة مفاجئة ودؤوبة ليس للانسان احيانا سيطرة عليها بل هي فوق الارادة او خارج دائرة الوعي وان كانت نتيجة طبيعية لفقدان القدرة على التحمل!.
لكل ثورة بداية انطلاق يمكن اطلاق اسم الشرارة عليها،وقد خصها الثوريون بحيز كبير ضمن تراثهم ونقاشات فلسفتهم الجدلية،ولذلك استخدمها لينين عند اصدار صحيفته الشهيرة في المنفى والمسماة(ايسكرا) اي الشرارة لكي تكون بداية عمل بغية حرق المراحل التاريخية لتطبيق المفاهيم الثورية،والشرارة يمكن ان تختزل في داخلها كل المبادئ والقيم والنظريات الجديدة التي ظهرت لكي تطبق والحاملة لها هنا هي فعل الشرارة ذاته والذي هو الوسيلة الطبيعية لواقع غير طبيعي بينما يصح قول العكس لو كان الواقع طبيعيا! وهي بذلك تكون السلاح الامثل في مقاومة القيم والنظريات السائدة المناقضة لها نصا وروحا.
وهي كانت رؤية جيفارا الخاصة لاجل ان تنطلق الشرارة في اي مكان كي تستمر المواجهة بين الثورة العالمية واعدائها او حتى لا يستقر العالم على اجساد الضعفاء كما يصفه! ومن هنا كانت حركته التي انطلقت في مكان بعيد(بوليفيا) عن موطنه الاصلي(الارجنتين) او المكان الذي استوزر فيه بعد مشاركته في ثورتها(كوبا)،ولاجلها ترك كل شيء الا ان التوقيت والمكان لم يكن صائبا كما في المرة السابقة ففقد حياته دون ان تمحو ذكره او فكره!.
غالبا ما تكون الشرارة هي نقطة انطلاق صغيرة تتوسع بأستمرار وتحتاج الى ارادة ووعي وكوادر قيادية تتحكم بها وتمنع خروجها من السيطرة عن المسار كي تفرض وجودها على الارض حتى ينتهي الصراع مع الاخر بأنتصارها او بسحقها مؤقتا وان تبقى تحت الرماد!...والشرارة تختزل في داخلها مكون فكري ورد فعل عملي على الواقع تبلورت خلال فترات زمنية طويلة(عقود او قرون!) من البناء التنظيري والجهد العملي بغية تطبيقها والا بقيت ضمن محتويات المتاحف التاريخية!...وهذا يعني ان الشرارة لن تظهر من العدم كما يتوقع منها بل هي نهاية طريق طويل من التمهيد المستمر التي يقوم بها المصلحون والاحرار والمفكرون لتحرير شعوبهم والانسانية من كافة القيود والاغلال ،الروحية والجسدية!.
ومن هنا تكمن اهمية الشرارة التي يحسب لها الف حساب من قبل الانظمة الحاكمة ايا كان نوعها،ومن هنا نرى الجهود الحميمة لبناء الاجهزة القمعية التي تبقى العين الساهرة لمراقبة اي نقطة انطلاق واخمادها بسرعة وقسوة حتى لا يمكن ان تتكرر مرة اخرى...ومن المؤسف ان التكرار لن يكون سريعا بل يحتاج الى ظهور جيل جديد سواء من الكوادر القيادية او القاعدة الشعبية التي لم تختبر مسبقا قسوة النظام في الحالة السابقة!.
فائدة الانظمة بعد نجاحها في اختبار الصدمة التاريخية:الشرارة،هو اكبر من فائدة قوى المعارضة بسبب امتلاكها امكانيات القوة والسلطة والقدرة على استخلاص الدروس والعبر التي تكون غالبا في ابتكار انواع جديدة من طرق الارهاب والقمع وليس تحسين الظروف المعيشة ومنح الحريات للشعب والتي هي مانع طبيعي لحدوث فعل الشرارة المفاجئ!.
بما ان الثورة تختلف عن الانقلاب في اغلب الموارد الا ان الغريب هو ان الاختلاف الاول يكمن في ان الثورة لها شرارة انطلاق بينما لا يكون ذلك للانقلاب! الذي هو رد فعل لمجموعة معينة ترغب في الاستيلاء على السلطة لمختلف الذرائع والاهداف! وبالرغم من ان ادعاء مدبري الانقلابات المختلفة في العالم دائما بأنها ثورات كي تمحو عنها صفة الانقلابية الكريهة الا ان زيف هذا الادعاء يمكن رؤيته بوضوح حتى لو كانت الآلة الاعلامية الجهنمية قادرة على فعل عملها القذر المتمثل بغسل العقول وافساد القلوب لدى شرائح واسعة من البسطاء والمغفلين والمنحرفين وتكوين اجيال متعاقبة تبنى حياتها على الانحرافات والاكاذيب والاباطيل!.
امثلة مختارة:
لو نظرنا الى حالة الانقلابات في العالم العربي مثلا لوجدنا ان انقلاب 1952 في مصر والانقلابات العسكرية والحزبية في العراق وسوريا وانقلابات ليبيا والسودان واليمن وغيرها،هي جميعها بدون شرارة تمنح لها الشرعية من القاعدة الشعبية التي تقوم بفعل التغيير مما يعني ان تلك الانقلابات هي بعيدة شكلا وروحا عن الثورات الحقيقية التي اكتسحت التاريخ بجهودها الجبارة لتحرير الانسان،ومن هنا تكون النتيجة الطبيعية لامثال تلك الانقلابات هي التفرد في السلطة وسلب الحياة والكرامة والحرية من فئة حاكمة لفئة اخرى والمؤسف غالبا ان الفئة الثانية تكون اشد اجراما وترويعا وقسوة ويقظة من فقدان السلطة مجددا من الفئة الاولى بسبب انها اكتوت بنار المحكومية المذلة مما يعني ان ردة الفعل ورغبتها في الحفاظ على سلطتها سوف تكون في اعلى سلم اولوياتها المستقبلية!.
بينما الثورات التي نجحت في نهاية المطاف او فشلت ايضا فأنها جميعا تشترك في صفة امتلاكها لشرارة الانطلاق التي تكون في اغلب الاحيان عفوية وبعيدة عن التخطيط الطويل الذي تقوم به قوى المعارضة والرفض الشعبي لقوى الهيمنة والتسلط...فالثورة الامريكية كانت الشرارة لها القاء صناديق الشاي من السفن الانكليزية في البحر كرد فعل على فرض المزيد من الضرائب على المستعمرات وتوسعت بسرعة لتشعل حرب الاستقلال.
والثورة الفرنسية كانت شرارتها الهجوم على سجن الباستيل،والثورة الروسية كان تمرد الجنود ضد النظام القيصري هو بداية الشرارة بينما كانت شرارة الثورة الايرانية هو المقال المهين الذي كتبه الشاه ضد الامام الخميني والتيار الديني مما ادى الى اندلاع ثورة عارمة اقتلعت حكمه التسلطي من جذوره وانشأت نظاما جديدا.
اما الثورات التي لم تنجح بالرغم من اتساع دائرة سيطرتها،فأنها كثيرة ولها ايضا شرارة انطلاق لا تختلف في شكلها ومضمونها عن الثورات الاخرى التي نجحت ولكن حظها العاثر سواء بضعف ادارة او انحدار وعي ابنائها او قوة اعدائها يؤدي الى اخمادها،فالثورات الفاشلة ضد الاستعمار في العالم العربي وفي اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية هي نماذج مثالية لتلك الحالة.
اذا لم تستغل شرارة الانطلاق الثوري بصورة مثالية من قبل قوى المعارضة وبخاصة الكوادر القيادية فيها فهو يعني تحملها جزءا كبيرا من حالة الفشل التي وصلت اليها... فقد كان اغتيال السادات عام 1981 فرصة مثالية للانقضاض على النظام العسكري الديكتاتوري في مصر واقتلاعه من جذوره،بينما كانت الثورة الشعبية التي اجتاحت العراق عقب حرب الخليج الثانية عام 1991 فرصة مثالية نادرة لا تتكرر بأستمرار والتي انطلقت شرارتها في البصرة والتي كسرت الحاجز الرهيب من الخوف والرعب بواسطة مجموعات الجنود المنسحبة، وبالرغم من سيطرتها على معظم انحاء البلاد الا ان التردد وعدم مشاركة قيادات المعارضة مع ظهور التحالف الاقليمي والدولي مع النظام قد حال دون نجاحها مما ادى الى فقدان البلاد لعدد كبير من الضحايا وفترة زمنية طويلة كان من الممكن استثمارها في اعادة البناء ورد الاعتبار،وايضا في حالة ثورات الحوثيين المتكررة في اليمن والتي فشلت في اقتلاع النظام،كذلك الحال في المغرب والجزائر والسودان وغيرها من بلاد العالم الثالث،بينما نجحت ثورات بعد الفشل الاول كما هو في حالة الثورة الكوبية عامي 1953،1959!.
اليقظة ضرورية لحدوث امثال تلك الصدمات التاريخية المفاجأة والمسماة بشرارة الثورة،وعدم التهيئ لوقوعها سوف يتسبب في سقوط المزيد من الضحايا وبالتالي في ضياع البلاد والاجيال المعاصرة ضمن حلقة مرعبة من اليأس من الواقع او مفرغة من حدوث تغيير بمختلف انواعه وصوره.