في سياحة الكتب:9
التنوع في القراءات هو احد الشروط الضرورية ليس فقط لتنشيط العقل وجعله متابعا لكافة التطورات المعرفية المتراكمة في العالم،بل هو ايضا ادامة ذاتية دورية له وجعله قادرا على مواصلة عمله بجدارة تتناسب وامكانياته الهائلة التي وهبها الله تعالى له والتحكم بكافة الاحداث والتحديات التي تواجه الانسان المعاصر في حياته المعتادة اليومية حتى لا يتحول الى آلة صماء تردد ما يقوله الاخرون له!.
استعرض هنا كتابين مختلفين في المضمون مع اختلاف في طريقة العرض لأيصال الفكرة والمعلومة للقارئ،وقد يكون احدهما سردي قديم لا يمكن مقارنته بالكتب التي تحتوي على افكار مبدعة وتحتاج الى جهد عقلي ونفسي كبير بقدر ماهو حشو مستعار من مصادر اخرى دون اضافة تجديدية له!...وقد يتبادر في الاذهان سؤالا شائعا هو لماذا القراءة في هكذا نوعية من الكتب الضعيفة؟!اليست هي مضيعة للوقت والجهد!...وطبيعي ان الاجابة تستند الى اسباب عديدة قد تكون مبررة في حد ذاتها ومنها قد يكون حب المعرفة والاستطلاع التي ليس لها وقت للفرز والابعاد من خلال العنوان الذي قد يختلف عن المتن! او مصادفة الوقوع في اليد وليس هنالك غيره، او لعل بين سطوره فكرة مخفية قد تنفع!...الخ من الاسباب المبررة!.
الكتاب الاول:
وراء كل عبقري قصة معاناة!!...تأليف سلمى مجدي،طبعة 2009القاهرة – دمشق.
الكتاب مؤلف من 310صفحة ورق خشن عادي ولكن الغلاف جيد!.
مذكورين في البداية اسماء اربعة اشخاص عاملين في دار النشر ومن ضمنهم مختص بالمراجعة اللغوية والتدقيق!...ولكن بعد الاطلاع على بضع صفحات من الكتاب يتبين ان الكتاب ليس فيه لا مراجعة لغوية او حتى تدقيقا في معلوماته بل هو سرد لسيرة مشاهير مأخوذة في الغالب من شبكة الانترنت كما هو موجود في نهاية الكتاب ضمن قائمة المصادر! والغريب انه احيانا ضمن الصفحة الواحدة او ضمن السيرة الواحدة تذكر عبارات متكررة مما يعني ان المؤلفة قد عملت نسخ ولصق من مصادر عدة دون ادنى مراجعة للتهذيب والترتيب كي يطبع الكتاب بسرعة خاصة وان مضمونه ليس ثقيلا على الفهم والادراك بل يفهمه حتى البسطاء! ولكن ذلك يعتبر امرا مخجلا اذا اريد تأليف كتاب ما يبتغى منه الفائدة،وقد يكون الخطأ المتكرر عدة مرات له تبريرا معقولا ولكن كل فصول السيرة (17 سيرة مذكورة) الامر اذا سوف يكون غير مبرر على الاطلاق،ولذلك لم يضف الكتاب شيئا جديدا.
قصص معاناة العباقرة في التاريخ هي قصص متداولة بكثرة لان الغالب على هؤلاء انهم يعانون اكثر من غيرهم لاسباب عديدة قد يكون من بينها ان المجتمع اساسا غير فاهم لمقدرتهم الفائقة او متفهم لاوضاعهم وبالتالي انهم مخلوقون لزمان غير زمانهم كما هو شائع هذا التعبير!والمجتمعات عادة مليئة بالامراض الاجتماعية النفسية التي يستحيل ليس فقط ازالتها بل تصحيحها! والتي من بينها الحسد والحقد والخوف من كل مبدع او عبقري! ولذلك تنشأ الكثير من المعوقات المصطنعة في طريق هؤلاء العباقرة والتي هي اساسا من صنع اشخاص اخرون يتملكهم الحقد والحسد ورفض كل ما يصدر من هؤلاء او قد يكونوا من المتعصبين ضد اي فكرة تجديدية في مختلف العلوم والفنون والاداب،وبالتالي يعتقدون ان من واجبهم الوقوف في الاتجاه المعاكس لكل حركة او عملية تغييرية حتى لو كانت في صالح خدمة الانسان وتطويره!...
لا ننسى ان الحياة ليست بالسهولة التي يعيشها البعض،بل هي جحيم او عبارة عن واقع بائس من الصعب تغييره،وهذا الواقع هو احد ابرز سمات الحياة!والغالبية الساحقة تستسلم امام الامر الواقع! ولا يقف ضده الا نسبة ضئيلة قد تضحي بحياتها او متعها كي تفرض متغيرات جديدة،وغالبية العباقرة او المبدعين هم ابناء واقع صعب للغاية ولذلك يبذلون جهدا كبيرا يتناسب مع قابلياتهم الذهنية والجسدية كي يحسنوا من حياتهم وحياة مجتمعاتهم،وليس شرطا ان ينجحوا فقد يفشل الكثيرين!وليس النجاح هو صفة العباقرة والمبدعين فقط بل احيانا الفشل ايضا لان النجاح والفشل ليسا مرتبطان بالقدرات فوق الطبيعية بل هي نتاج بيئة في الغالب!.
في سيرة غالبية المبدعين قصص رهيبة من الحزن والالم،لانه دافع قوي للمقاومة الذاتية التي هي خير محفز للابداع،ولذلك نرى ان غالبية الخاملين هم من لم يتعرضوا الى الحوافز البيئية المحزنة بل هم من وسط بيئة مريحة لا تشجع على الابداع والتغيير مادام كل شيء متاح!.
الكتاب الثاني:
عصر الجماهير الغفيرة1952-2002...تأليف:د.جلال امين.
الكتاب مؤلف من 204 ص حسب الطبعة الاولى2003.
المؤلف هو احد المفكرين المصريين الذين يمتازون بدقة ورصانة في الطرح والتحليل وبأسلوب مبسط وهادئ واقرب في استخدام المناهج الغربية في التحليل،وهو في اغلب مؤلفاته يستعرض الواقع المصري وبخاصة خلال العقود الستة الماضية.
الكتاب يتألف من 17 مبحث لظاهرة يستعرض فيها حالة التغيير التي اصابت مصر خلال العقود الخمسة المنصرمة فيها،وبالرغم من ان الحالة عالمية الا ان تركيزه على الحالة المحلية(مصر تحديدا) في هذا الكتاب او في بقية كتبه والتي من بينها كتابه ماذا حدث للمصريين؟... يجعل من الصعب اعتبارها مراجع عالميا في امثال تلك القضايا المشتركة والتي يتداولها المفكرون عادة وهذا لايقلل من القيمة العالية لكتبه ولكن تفقد جاذبيتها العالمية وتجعلها محصورة ضمن دائرة اهتمامات المهتمين بالشأن المصري وقد يكون ذلك ناتجا عن التخصص فيه خاصة من خلال المعايشة الذاتية مما يجعل التحليل في درجة عالية من الدقة والحيادية، ولكن المشتركات بين المجتمعات هي كثيرة والان بعد التداخل الذي حصل في زمن العولمة اصبحت الاستفادة من المناهج التحليلية لمجتمع ما هي فائدة مشتركة لوجود الارضيات المشتركة مما يعني ان كثيرا من طروحاته واستنتاجاته هي ملائمة بدرجة نسبية معينة للمجتمعات الاخرى وخاصة المجاورة لمصر.
يقصد جلال امين بعصر الجماهير الغفيرة،هو الآثار الحاصلة للحراك الاجتماعي من خلال الحجم السكاني،لان العصر الحالي هو عصر الكل او الاغلبية الساحقة وليس كما هو سائد في القرون السابقة في كونها عصورا لاقليات حاكمة او ثرية متحكمة في التاريخ بينما الغالبية الساحقة تعيش خارجه في فقر ومرض وجهل ولا يستطيع الا المحظوظون لاسباب مختلفة من القفز على واقعهم من خلال مشاركة الطبقات العليا لثمار الارض وملذاتها!.
اذا العصر الحالي هو عصرا جماهيريا بأمتياز كون المتغيرات الاجتماعية قد اصابت الغالبية الساحقة لأي مجتمع بشكل مدهش،وهو يطابق ما يشاع بأنه العصر الامريكي الذي هو عصرا هدفه الاستمتاع من ملذات الحياة بأقصى مجالات الربحية والتحرر من القيود المفروضة وهذا لا يتم الا من خلال استغلال الطاقات المعطلة للغالبية الساحقة عن طريق مشاركتها في هذه الاهداف مما يعني ان الفائدة سوف تكون للجميع...وفي الحقيقة ان المدرسة الاشتراكية هي قريبة لذلك المعنى ولكن لم يطرحه المؤلف!وقد يكون ذلك من خلال شيوع طابع الحياة الامريكية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي.
تناول المؤلف تأثير انقلاب 1952 على المجتمع المصري من خلال انتزاع الامتيازات الطبقية للفئات المتحكمة،ولكن هذا لم يستمر طويلا فمنذ الانفتاح الاقتصادي عام 1974 تقهقر المجتمع وارتد الى وضع اسوأ بكثير من الوضع قبل عام 1952، فقد نشأت طبقات جديدة على نفس نمط التقسيمات السابقة ولكن بعناصر بشرية مختلفة استغلت الواقع المضطرب في القفز على السلطة والنفوذ واستغلال الفرص المتاحة لقلة طبعا بوسائل غير مشروعة لا يقوم النظام بمحاربتها بل العكس الاشتراك في تغذيتها من خلال غض النظر او حتى مشاركة اطرافه فيها! مما يعني ان الحالة هي مأساوية ونموذج مثالي للفساد المستشري في العالم الثالث.
تناول المؤلف قضايا قد يتجاهلها الكثيرون مثل قضية تاثير التلفاز والتليفون والسياحة واستغلال الاعياد لاغراض اقتصادية بحتة وافراغها من مفاهيمها الروحية العالية كما ذكر طرق التسويق التي تسلب الزبون عقله!،كما تناول قضايا مؤقتة او هامشية ولكن درسها بأسلوبه الدقيق والممتع من قبيل حادثة قطار الصعيد المآساوية عام 2002 او حالة السيرك المصري او الازياء،وتناول قضية يهملها الكثيرون وهي الانتشار الرهيب للالقاب الاكاديمية(الدكتوراه تحديدا) بحيث اصبحت ظاهرة مرتبطة بمصر اكثر من غيرها دون ان يكون لذلك تاثيرات ايجابية ملموسة مما يعني ان الغالبية يكون مستواهم الاكاديمي او المعرفي دون مستوى امتلاك اللقب ذاته(تناولها من قبل عبد الرحمن البدوي في مذكراته) اذا صحت طريقة حصولهم عليها! بالمقارنة مع المستوى الرفيع الذي حمله اصحاب تلك الالقاب في السابق والذين كانوا مثالا للعلم والمعرفة والنتاج الغزير بل ان غالبيتهم في السابق كما هو الحال الان في الغرب لا يعيرون لمسالة اللقب اية اهمية تذكر بعكس الحال العربي!كما قارن بمن لم يحمل تلك الالقاب ولكنهم كانوا عمالقة في العلم والمعرفة والصبر على كل المشقات وتجاوزها...كما وتناول المؤلف ايضا قضايا متعددة يستحسن مراجعة الكتاب للاطلاع عليها.